نابلس | ما إن تمرّ بك "التاكسي" من أمام الحرم الجامعي الجديد لجامعة النجاح في مدينة نابلس، حتى تلاحظ الفرق: لا ازدحام أمام بوّابة الجامعة، ولا طابور مركبات نقل عمومي، لا أزمة باختصار كما كانت الحال دائماً قبل زمن كورونا. دقيقتان على الأكثر وتصل، على غير المألوف، إلى دوار الشهداء وسط "جبل النار". الحركة تبدو غريبة، لا زحام. يتنقّل الناس فرادى أو في مجموعات صغيرة متفرّقة. المحال التجارية شبه فارغة مقارنةً بما تكون عليه في "وَقَفَات" العيد المعتادة: عربةُ خضارٍ هنا، وبائع ملابس متنقل هناك، كلّ شيء إلا المتسوقين.شابٌ أسمرُ البشرة يحمل حقيبة يهمّ بقطع الشارع عند دوار الشهداء. يقول أنس حواري إن ما يشغل باله هذه الأيام هو "جائحة كورونا، ومتى ستنتهي لتعود الحياة إلى طبيعتها"، إذ إن هذه الأزمة طاولت الفلسطينيين كافة على اختلاف طبقاتهم وأعمالهم ووظائفهم. كذلك، يأتي العيد هذه السنة في ظلّ انشغال الرأي العام الفلسطيني بجرائم القتل التي وقعت في الأيام الأخيرة. يتوقف حواري عن الكلام قليلاً مستذكراً تسلسلها: "ما يجري غير مستوعب، جريمة قتل فتاة في الخليل عُثر على جثمانها بعد 9 سنوات مدفونةً في حفرةٍ قرب منزل عائلتها، وكشفت الشرطة أن القاتل هو والدها، ولاحقاً سقوط ضحايا في شجارات متتالية مثل: مقتل فلسطيني في كفر عقب في شجار عائلي، ومقتل أمين سر حركة فتح في منطقة بلاطة البلد على خلفية شجار بينه وبين الأجهزة الأمنية التي جاءت لإغلاق محل تجاري غير ملتزم بالإغلاق الحكوميّ المفروض بسبب كورونا". وآخر "جريمة بشعة وغير طبيعية"، بحسب وصفه، قتل فتاة على يد خطيبها خنقاً في منطقة رام الله، وحالة الهرج والتحليل التي سادت مواقع التواصل، بعدها.
في عمارة العنبتاوي على دوار الشهداء، شابٌ ووالده الكهل يجلسان أمام محلٍّ تجاريٍ، يقول الشاب إن "الأجواء مش أجواء عيد، الناس بتيجي تتفرج". عدي خياط، صاحب محل شُنط وأكسسوارات. أشعل سيجارته ونفث دخانها، ثم قال إن مدينة نابلس التي تُعدّ مركز ثقل في شمال الضفة الغربية ووسطها بات الوضع الاقتصادي فيها يسوء تدريجياً بفعل الإغلاقات القسرية المتكرّرة بسبب انتشار فيروس كورونا، الذي شتّت أولويات الأسر الفلسطينية: "اليوم، هَمُّ كلّ عائلة سداد التزاماتها الأساسية، وقليلون مَن يبحثون عن الكماليات، الناس عليها فواتير كهرباء وإنترنت وشيكات، والشركات الكبرى لا ترحم الناس". يوضح خياط أن فرض الإغلاق وتقييد الحركة بين المحافظات هما اللذان يقضيان على حركة البيع في السوق، خاصة في نابلس، لكون المدينة تعتمد في اقتصادها كثيراً على المتسوّقين من خارجها، سواء من المحافظات الأخرى أم من الفلسطينيين القاطنين في الداخل المحتل عام 1948.
ينتقل خياط إلى ما يصفه بـ"كارثة الشيكات المرتجعة"، مُبيّناً أن كمية هذه الشيكات باتت غير مسبوقة في ظلّ أزمة كورونا، مشيراً إلى أن فلسطين شهدت مثل هذا الركود سابقاً مع أزمات انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين، لكن الفرق أن كورونا شمل جميع الشرائح والقطاع الخاص والعمال داخل المستوطنات وفي الأراضي المحتلة عام 48: "الناس لا تصبر على غيرها، الجميع عنده شيكات وعليه شيكات، معظم التعاملات الآن ليست نقداً بل بالأقساط والقروض والشيكات، وهذا سبّب مشكلة لدى الجميع".
مركبة أجرةٍ مركونة على الرصيف في شارع فلسطين، يجلس سائقها فيها منادياً على الركاب. يقول: "أنت شايف في ناس؟ لكن الوضع أفضل من أيام التسكير نوعاً ما، الوضع أحسن السيّئ"، أبو أحمد حشاش يرى أن مصائب جمّة اجتمعت على الفلسطينيين في وقت واحد، معيشياً وسياسياً؛ إذ إن معظم الشركات الخاصة قلّصت عدد موظفيها أو سرّحت معظمهم أو اكتفت بمنحهم راتباً ناقصاً بسبب الإغلاق. يُعدّل السائق جلسته ويضيف: "الموظفون الحكوميون طالهم البؤس، ففي الفترة الأولى من إعلان حالة الطوارئ في شهر آذار الماضي كان هؤلاء يُحرّكون البلد نوعاً ما، لكن اليوم الحكومة تمنحهم نصف راتب لأن السلطة الفلسطينية لا تريد أخذ المقاصة (أموال الضرائب) من العدو".
تعتمد نابلس على المتسوّقين من خارجها وخاصة أبناء الأراضي المحتلة عام 48


خان التجار أو "الخان" في عمق البلدة القديمة ربما يكون أفضل حالاً. على طول الطريق من "دخلة جروان" نحو الخان، تفتح المحال التجارية أبوابها، لكن لا ازدحام كالمعتاد. ترتدي أم محمود كمامة وتحمل أغراضاً ابتاعتها، تقول: "الأزمة الاقتصادية على الجميع بسبب كورونا، لكن هناك أشياء لا يمكن التخلي عنها في أجواء العيد، أحضرت ضيافة العيد بشكل أقلّ من العادة، لكنها تكفي الأهل والضيوف والأقارب". "لا تخدعك حركة الناس في الخان، الناس بتتفرّج وبتلفّ"، هكذا يصف محمد دراغمة، صاحب محلّ تجاري في نابلس، الأوضاع، مشيراً إلى أن "جميع التجار استبشروا بالخير عند صرف رواتب موظفي الحكومة قبل العيد ونهاية الشهر، لكن المشكلة أن نسبة الصرف هي النصف، فتشتري العائلات الأساسيات فقط وتعود إلى منازلها". أمام المحال في خان التجار ، يسير أحمد عبد القادر، الذي يعمل أستاذاً حكومياً، مع أولاده، ويقول: "نصف الراتب لا يكفي، والآن أعمل عاملاً مياوماً في مجالات الزراعة والبناء، تارةً في بناء الجدران وتارةً ثانية في قطف المحاصيل الموسمية وبيعها، كالتين والصبّير والخروب، التي يحلّ موسمها هذه الأيام، أينما يوجد عمل أذهب إليه، ولست أنا فقط، بل هناك كثير من المعلمين من زملائي يفعلون ذلك، لأن لدينا عائلات والتزامات". ينقل الأستاذ كيساً من يده اليمنى إلى الأخرى، ويمسح بمنديل عرقه عن جبينه: "إحنا بوضع مصيبة عشان قصة الشيكات المرتجعة"، موضحاً أن هذه الشيكات "تُغرق السوق وتثقل كاهل التجار الكبار والصغار والفلسطيني البسيط على حدّ سواء، وما فعلته سلطة النقد جيّد، لكنه شكلي ولا يحل شيئاً، فالمشكلة عدم امتلاك الناس المال لتغطية الشيكات". ويرى عبد القادر أنه حتى مع انتهاء الجائحة، يحتاج الناس إلى فترة طويلة لتحسين أوضاعهم المالية وسداد التزاماتهم، لأنهم عاطلون من العمل أو لا يحصلون على رواتبهم كاملة.