ما ظهر من خلافات بين إسرائيل وحلفائها وأصدقائها، القدماء والجدد، على خلفية مشروع بنيامين نتنياهو لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، بما أدى إلى تأجيله، كما يتضح من إعلان مكتب نتنياهو «استمرار المحادثات مع الأميركيين حول هذا الموضوع»، هو فرصة سانحة لتصعيد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال والاستيطان والاقتلاع. لم يعد خافياً على أحد من الفلسطينيين، بمن فيهم من راهن عقوداً على إمكانية التوصل إلى «تسوية ما» مع الكيان الغاصب تتيح قيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة»، أنه لا مكان لمثل هذه الدولة في الأجندة الصهيونية الفعلية التي تجمع عليها القوى السياسية الرئيسية في هذا الكيان. «أرض أكثر وعرب أقل» هو الهدف النهائي التي تسعى إلى تحقيقه هذه التيارات، بالاستيلاء على الأرض واستيطانها، والسيطرة على الموارد، وحشر الفلسطينيين في معازل تضيق مساحتها تدريجياً، لتدمير الشروط الدنيا التي تسمح لهم بالبقاء في أرضهم.الولايات المتحدة شريك كامل في إنجاز هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، والأطراف الغربيون الآخرون في أفضل الأحوال متواطئون بالإجمال. أي قراءة تاريخية جدية لمسار الصراع في فلسطين والمنطقة مع الصهيونية وحلفائها على مدى العقود المنصرمة، وللمهزلة المسماة «السلام»، تفرض هذا الاستنتاج من دون أدنى التباس. لكن الإجماع على الأهداف الكبرى الطويلة الأمد بين هذه الأطراف، والعمل معاً لتحقيقها، لا يلغيان بروز تباينات حادة بينهم أحياناً حول السياسات التفصيلية، وبعض القرارات وتوقيتها، كما نشهد حالياً حول مشروع الضم، وهي ما يستطيع الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة الإفادة منها في المواجهة. وقد أثبتت تجارب تاريخية، رغم خصوصية كل منها، كيف نجحت حركات التحرر في استغلال الانقسامات داخل المراكز الاستعمارية لتصعيد نضالها ضدها والفوز بمكاسب سياسية شكلت محطات مهمة على طريق نصرها النهائي. العزلة البادية لموقف نتنياهو والخلافات في حكومته ومع معسكر حلفائه توفر مناسبة لإطلاق انتفاضة شعبية تتصدى لمشروع الاقتلاع بمجمله، وتعيد المركزية إلى قضية فلسطين إقليمياً، مع ما يترتب على ذلك من مفاعيل على مستقبل الصراع مع الكيان.
يتمحور الاعتراض على خطة نتنياهو، داخل حكومته وبين حلفائه الأقربين، أولاً وأساساً حول انعكاساتها السلبية المحتملة على مساعي الولايات المتحدة إلى إقامة جبهة تضم إسرائيل ودولاً عربية، تقودها واشنطن، ضد إيران ومحور المقاومة. هذا هو سرّ إصرار شركائه في حزب «أزرق أبيض» على ضرورة التفاهم مع الأميركيين قبل أي خطوات عملية للضم، تجنباً لأي خلاف معهم. وقد عبّر وزير الخارجية، وعضو «أزرق أبيض»، غابي أشكينازي، عن هذا التوجه عندما قال إن «حماية المصالح السياسية والأمنية لدولة إسرائيل تتلازم مع الحفاظ على الحوار مع أعظم أصدقائنا، الولايات المتحدة، والدول المجاورة لنا». الحرص نفسه دفع رئيس الحكومة البديل، وزير الأمن بيني غانتس، إلى تأكيد أن تاريخ الأول من تموز/يوليو «ليس مقدساً». حتى أشد أنصار إسرائيل تطرفاً في الولايات المتحدة، كبعض قادة التيارات الإنجيلية الأصولية المؤيدة عقائدياً، يوردون حجة الحفاظ على الجبهة مع الولايات المتحدة ودول عربية لتفسير «تحفظهم» على توقيت الضم، إذ كشف باراك رافيد، وهو مراسل القناة الـ13 الإسرائيلية، في مقالة على موقع «أكسيوس»، أن الناشط الإنجيلي المعروف جويل روزنبيرغ، المقرّب من نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو، رأى أن هذا القرار سيهدّد التحالف الذي بنته الولايات المتحدة، وأن استطلاعات الرأي تثبت أن الكثير من الإنجيليين يعارضون مشروع الضم. ويشير رافيد إلى بيان «التحالف الإنجيلي العالمي»، الذي يضم كنائس تمثل أكثر من 600 مليون من الإنجيليين عبر العالم، و«يبدي قلقه البالغ من خطط إسرائيل لضم مناطق واسعة في الضفة». كما تندرج المقالة التي نشرت لرئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، والتي جزم فيها بأن «هذه الخطوة ستكون متعارضة مع مصالح إسرائيل طويلة المدى»، في السياق.
ما يخشاه أصدقاء إسرائيل في الواقع هو أن تسبب عملية ضم واسعة انفجاراً شعبياً فلسطينياً، الكفيل وحده بزعزعة أسس التحالف الإسرائيلي ــ الأميركي ــ العربي. وما يزيد وقع هذا الانفجار الشعبي، في حال وقوعه، على المستوى العربي والعالمي، هو تناقض قرار الضم، مهما كانت مساحة الأرض الفلسطينية التي يسعى إلى الاستيلاء عليها، مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وهو ما أشارت إليه المواقف الرسمية الأوروبية والدولية المعارضة، بما فيها الصادرة عن صديق لهم مثل جونسون. الموقف الإسرائيلي حيال هذه المسألة فاقد للحجة ومعزول دولياً، وبطبيعة الحال عربياً. جميع هؤلاء الأطراف كانوا يغضون النظر عملياً عن مسار الضم البطيء عبر القضم التدريجي الذي لم يتوقف منذ إنشاء الكيان الصهيوني. هذا المسار تسارع في العقدين الماضيين، ويريد نتنياهو أن ينجز ما يراه «مهمته التاريخية» عبر استكماله. لذا، يفتح الوضع الراهن نافذة فرص أمام الشعب الفلسطيني وقواه الحية، ينبغي ألا تفوّت، لإطلاق انتفاضة ستربك مخططات نتنياهو وتخلط الأوراق في الإقليم وتعيد فلسطين إلى موقعها المركزي بصفتها قضية الأمة، وتفتح آفاقاً لإمكانية فرض تراجعات على العدو.