حانت لحظة قدومها. خارج غرفة الولادة، وعلى غير العادة، سمح المستشفى للأقرباء والمحبّين بشغل أروقته؛ فالمولودة استثناء من كلّ الأطفال. دموع كثيرة هطلت قبل أن يُسمَع صوتها؛ إذ أرخت النساء أجسادهنّ على الجدران، ورحن يتضرّعن إلى الله بأن لا تتعذّب أمها في هذا المخاض الطويل، وأن يُعجَّل في ولادتها. عمّها حسني، الذي يحبّه وليد ويشتاق إليه، بكى طويلاً، وأبكى الجميع معه؛ فالحفيدة القادمة كان يفترض في الظروف الطبيعية أن يكون عمرها اليوم 20 عاماً على الأقل، لكنها ابنة أسير عمره اليوم 59 عاماً، فيما أمها في الخمسين من عمرها! لم يحتمل أيّ من الذين انتظروها طويلاً كلّ هذا الفرح الذي حملته إليهم. فرحٌ كشفته الدموع المنهمرة على خدود النساء، ولَهَجت ألسنتهنّ بتعابير: «يا ألله ما أكرمك... يا ألله ما أحسنك». لقد أتت أخيراً، وسُمع صوت بكائها، وأيقن الجميع أنها هنا. فجأةً، تفتّتت جدران المستشفى الفرنسي في مدينة الناصرة، ووصل صوت الطفلة إلى قلوب الأحرار والمعذّبين والمقهورين في الأرض، والذين كانوا في انتظارها لأنها وعد من السماء لهم، تماماً كما هي وعدٌ لوالديها ولذاتها.
لا ينقص عالمَنا الكئيبَ والبائس أطفالٌ جدد، لكن مع ذلك كان ينقصه أنت بالذات

هل تعرفين أيتها الصغيرة؟ لا ينقص عالمَنا الكئيبَ والبائس أطفالٌ جدد. لكن مع ذلك، كان ينقصه أنت بالذات، لأنك النموذج في معنى الحياة، لأنك الأمل. هل تعرفين من كان يبحث عن هذا المعنى؟ إنه والدك الذي احترق كي ينير ظلماتنا نحن، وهي أمّك التي لا مثيل لها في الإخلاص. الآن، أنتِ هُنا. بينما يلتفّ حولك الناس من محبين ومهنئين وأقرباء، وتحضنك أمك بين ذراعيها، يقبع والدك في معبر سجن مجيدو منذ أسبوع، في ظروف قاسية، أجبرته على أن يهدّد سجّانيه بأن يتوقف عن تناول أدويته، ويشرع في إضراب مفتوح عن الطعام. يعاقبونه على إنجابه إياك، وعلى تهريبه نطفه من سجن لا يدخله الضوء، إلى سجن أكبر نسكنه نحن. كم تخيّل والدك قدومك! وكم بكى حتى يتحقق حلمه! كان لديه يقين بأنه سينتصر بك على سجنه، وأنك ستحرّرينه من عذابه قبل أن يحين موعد انتهاء محكوميته، فأنت حقه في مواجهة باطلهم.
لا أحد يحمّلك أيتها الصغيرة فوق طاقتك. يكفيك أنك منحتنا الأمل في زمن لا طاقة لنا فيه. ولكن حزننا الوحيد في هذا اليوم المجيد هو أن وليد دقة لا يزال أسيراً، وحين نفكّر في ذلك لا يغيض الفرح الذي أتيتنا به، ولكننا نتساءل: لماذا ستحيين سنيك الأولى بعيدة عنه؟ ولماذا على سناء وحدها أن تكون أمَّك وأباك معاً حتى يتحرّر الأخير من سجنه؟ ولماذا حين تضحكين ضحكتك الأولى ثم تُميّزين بين الألوان بعد أربعين يوماً لن يكون حاضراً معكِ؟ وماذا حين تحبوين حبوك الأول؟ لماذا أيتها الصغيرة التي سيراها والدها لأول مرة من وراء الزجاج؟ والدها الذي لا يزال بعد كلّ هذا العمر من الأسر يعرّف المتعة على أنها مراقبة سنّ تنمو في ظاهر فمك، في حين أن آباء كثراً في سجننا الكبير فقدوا تلك المتعة.
سيخرج والدك من السجن الإسرائيلي ذات يوم، مهما طال هذا الموعد أو قصر، وسيكون عمرك قد أصبح خمس سنوات، ولا بد أنك سترغبين في شراء علكة أو شوكولاته من دكّان الحيّ، وحينها ستسألينه السؤال الذي طالما اشتاقه: معك فراطة؟ وحتى ذلك الحين، أنت جسره إلى الحرية... وجسرنا أيضاً.