يبدو واضحاً أن خطوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المُعلَنة على لسان وزير خارجيته مايك بومبيو، في شأن شرعنة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، تهدف إلى إرضاء قاعدة ترامب الانتخابية، وتعزيز دعمها له بعد سلسلة تطورات في الداخل أضرّت بصورته ومكانته. فالاعتبار الوحيد بالنسبة إليه هو توليد ردّ فعل إيجابي لدى جمهور ناخبيه من الإنجيليين، الذين يدرك سلفاً أنهم سيتلقون الخطوة بإيجابية مطلقة، ربطاً بتفسيرهم الديني وتطبيقاته العملية في فلسطين المحتلة، لكونهم «يرون كلّ لفتة كريمة منه نحو إسرائيل سبباً إضافياً كي ينسوا سلوكياته التي تعارض قيم العائلة المقدسة في نظرهم، والذهاب مرة أخرى إلى التصويت له»، وفق تقرير نُشر أمس في صحيفة «يديعوت أحرونوت». في المقابل، تعذّر على معارِضي الخطوة في واشنطن الحيلولة دون إعلانها، سواءً كانوا مؤسسات يهودية من «الطائفة الإصلاحية»، أو لوبيات تخدم المصالح الإسرائيلية. والجدير ذكره، هنا، أن هذه الكيانات تتحفّظ على قرار ترامب، ليس على خلفية تعارضه مع القانون الدولي، بل خشية من أن يتسبّب بخلاف إضافي بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري حول قضية تتعلق بمصالح إسرائيلية. لكن خلافاً لتلك الحسابات، لدى ترامب مصلحة مباشرة في خلاف من ذلك النوع، يبعد جدول الأعمال اليومي عن إجراءات المحاكمة التي يقودها الديموقراطيون ضده، والتي تهدف إلى الإضرار بصورته أمام الناخبين، أكثر من كونها تهدف إلى إصدار أحكام، يبدو إلى الآن أنها ستكون متعذرة.الواضح أيضاً أن الخطوة نُسّقت مع المؤسسة السياسية في إسرائيل، كي تضمن ردود فعل مؤاتية تُوازِن ردود الفعل الرافضة أو المتحفظة في الولايات المتحدة، سواء من اليهود أنفسهم أم من الديموقراطيين. وعن ذلك، تكشف الصحيفة العبرية نفسها أن «الإعلان جاء في أعقاب عملية أُديرت داخل الإدارة منذ أشهر، بمبادرة من السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، الذي دفع نحو هذا التغيير من وراء الكواليس». وعليه، لا يبعد أن تكون خطوة ترامب واحدة من الخطوات التمهيدية لإعلان «صفقة القرن»، على اعتبار أن الأخيرة تقوم على مبدأ التطبيع والتحالف بين الدول العربية وإسرائيل، وإلغاء فكرة استرجاع الأراضي المحتلة التي يستعاض عنها بعطاءات مالية عربية للفلسطينيين، مقابل احتفاظ إسرائيل باحتلالها، بما يشمل بطبيعة الحال مستوطنات الضفة.
لا يفيد حديث الديموقراطيين عن إمكان التراجع عن القرار في حال سقوط ترامب


على خط موازٍ، يمكن الحديث نظرياً عن أن الخطوة تفيد نتنياهو، وتعزّز مكانته في الداخل، هو الذي سرعان ما تلقّف القرار، ولمح إلى أنه كان في مقدمة العاملين على بلورته. لكن ينبغي الفصل بين مرحلتين من الاستفادة: المرحلة الحالية التي يحتدم فيها الخلاف على تشكيل الحكومة، والتي سيكون فيها تأثير قرار ترامب محدوداً جداً وربما منتفياً؛ والمرحلة اللاحقة التي يبرز فيها احتمال التوجه إلى انتخابات ثالثة. هنا، يمكن نتنياهو سحب كتل ناخبة من أحزاب اليمين لمصلحة «الليكود»، إن خاض الحزب الانتخابات برئاسته مجدداً. وعلى الرغم من أن إقدام ترامب على شرعنة الاستيطان يأتي في الدرجة الأولى في سياق حملته الانتخابية، وليس ربطاً بمساعدة نتنياهو وانتشاله من مأزقه الداخلي (إذ سيّان لدى ترامب إن نجح نتنياهو في الاستفادة من القرار أو أخفق)، إلا أن الخطوة الأميركية - سواءً كانت رمزية أم تمثل منعطفاً في تاريخ الصراع على فلسطين - ستُمكّن نتنياهو، أو أيّ شخص سيحلّ مكانه في رئاسة الحكومة، من التعامل مع هذا الموقف على أنه ضوء أخضر يتيح له الاستمرار في تعزيز سياسة الاستيطان وقضم المزيد من أراضي الضفة، في واحدة من أهم تبعات القرار نسبياً.
من هنا، يمكن فهم الصورة التي خرج بها الموقف الإسرائيلي من القرار، إذ جاء مرحّباً وشبه جامع، لكن بلا تهليل ومن دون قفز عن الأرض، وخصوصاً أن الخطوة لا تؤسّس لسياسة الاستيطان، بل تشرعن واقعاً موجوداً ومتواصلاً. ويمكن اختصار التعليقات الرسمية الإسرائيلية بفقرة واحدة وردت أمس في كلام نتنياهو، حيث قال: «‏رفضت الإدارة الأميركية اليوم بوضوح لا لبس فيه المزاعم الكاذبة التي ادّعت أن الاستيطان الإسرائيلي في يهودا والسامرة (الضفة) يتناقض أساساً مع القانون الدولي. الولايات المتحدة اعتمدت سياسة مهمة تُصحّح ظلماً تاريخياً». كذلك، ربط نتنياهو (خلال لقائه مسؤولين عن المستوطنين في الضفة) وجوده شخصياً بالقدرة الإسرائيلية على الاستفادة من القرار الأميركي، فقال: «أستخدم كل ما لديّ من قدرة حتى أظلّ رئيساً للوزراء. ذلك أن جميع البيانات الأميركية ستكون بلا معنى إذا لم أكن رئيساً».
من جانب آخر، لا يفيد كثيراً حديث الديموقراطيين في الولايات المتحدة عن إمكان التراجع عن القرار في حال سقوط ترامب في الانتخابات المقبلة. فما صدر صدر، وأيّ إدارة أخرى ستتعامل معه على أنه أمر واقع، وستبحث مسبقاً في ثمن التراجع عنه، خاصة أنه لا أحد يتصور ردّ فعل فلسطينياً (السلطة) أو عربياً يدفع أيّ إدارة مقبلة إلى التراجع. وفي ما يتعلق بـ«عملية السلام»، يصعب الحديث عن أن الشرعنة الأميركية للاستيطان من شأنها إعدام حلّ الدولتين. ففي الواقع، يضع القرار القتيل في تابوت تمهيداً للدفن، إذ إن المسيرة السياسية برمّتها ماتت قبل خطوة ترامب، وليس حلّ الدولتين فقط. وكلّ ما تبقى من الخيار التفاوضي كيانات من هنا وهناك بمسميات مختلفة، موجودة لتحافظ على أمن إسرائيل بالوكالة عن الأجهزة الإسرائيلية في وجه الفلسطينيين أنفسهم، وإلا لكان الكيان الفلسطيني المُسمّى «سلطة» وُضع منذ زمن في تابوت العملية السياسة نفسه!