اعتقدت الإدارة الأميركية، ومعها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أن سياساتها القائمة على سدّ المنافذ المالية كافة أمام الفلسطينيين ستكون كفيلة بإيصالهم إلى مرحلة اليأس، وبالتالي دفعهم إلى القبول بأي حلّ للصراع، ولو كان على حساب قضيتهم، تحت عنوان «فصل السياسي عن الاقتصادي». لكن الفلسطينيين أجمعوا، للمرة الأولى، على أن السيادة يجب أن تسبق أي تحرك اقتصادي، وإلا فإن ذلك لا يعني سوى تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال. في ما يلي قراءة في النسخة الصادرة باللغة العربية، والموقّعة من البيت الأبيض، لمبادرة «من السلام إلى الازدهار»، الجزء المعلن والمكتوب من «صفقة القرن» حتى الآن.في 2001، بعد عام على انتفاضة الأقصى الثانية، وثماني سنوات على اتفاق أوسلو، مرّ سفير لدولة أوروبية في فلسطين بسيارة مع أحد الدبلوماسيين الفلسطينيين من أمام دوّار أنصار، غربي مدينة غزة. كان على الجانب الآخر للسيارة عمّال نظافة في الشارع، وعلى ظهورهم «جاكيتات» مختوم عليها «مشروع مدعوم من الاتحاد الأوروبي». أحدهم كان يحمل أوراقاً في يديه يدوّن فيها أسماء الحاضرين ويراقب عملهم، على رغم أن هؤلاء لم يكونوا، في حقيقة الأمر، يفعلون شيئاً. تجمُّع عشرين عاملاً في شارع واحد لا يحتاج سوى إلى عاملين لتنظيفه شكّل دلالة مبكّرة على تحويل الفلسطينيين إلى حالة إنسانية إغاثية أكثر منها تنموية، لتعتمد على الإغاثة الدائمة في ضبط معدلات الفقر من الانزياح نحو الانفجار التام. علّق السفير بصراحة: «نعلم جيداً أن هذه المشاريع لا تفيد على البعد التنموي.... هي لجعلكم بحاجة دائمة إلى المساعدات الدولية».
سيكون الفلسطينيون عمّالاً لدى الشركات الجديدة بـ«راتب مرتفع ومياه نظيفة وكهرباء دائمة»


الوصف السابق يلخص عملية مدروسة في صناعة الفقر، اتبعها المانحون على مدى أكثر من عقدين، قُدمت فيهما الغالبية الكبرى من المشاريع والمساعدات الدولية إلى السلطة الفلسطينية عبر المساعدات الثنائية والمتعددة الأطراف، أو قُدّمت إلى المنظمات الدولية في فلسطين بنوعيها الإغاثي والتشغيلي لا التنموي، ليكون استمرار المشاريع والمساعدات مرهوناً بمواصلة السعي إلى التسوية وضبط الحالة الأمنية مع العدو. بعبارات أخرى: لا بد أولاً من إيصال الفلسطيني إلى مرحلة اليأس، سعياً لفصل الاقتصاد عن السياسة. ومن هنا، يتواصل الحصار المالي الذي أطلقته الولايات المتحدة الأميركية، فيما يمنع العدو الإسرائيلي الفلسطينيين من الوصول إلى الأرض والمياه والاستفادة منهما، ويكمل تجفيف الموارد المالية في الضفة المحتلة وقطاع غزة، كي يقبلوا المشاريع الاقتصادية تحت دعوى تحسين ظروف حياتهم. واليوم، جاءت «قمة المنامة» كخطة حل جديدة تطرح إنهاء حالة «الإغاثة» والانتقال إلى «التنمية» (تحت عنوان «رؤيا»)، من دون الإشارة إلى أي بند سياسي يتحدث عن سيادة الفلسطينيين.

انسوا السياسة
لدى التفحص جيداً في مبادرة «من السلام إلى الازدهار»، وتحديداً النسخة الصادرة باللغة العربية في نحو أربعين صفحة والموقّعة من البيت الأبيض، التي جاء بها مستشار الرئيس الأميركي، جاريد كوشنير، وعرَضها أمام المموّلين العرب، يتبين أنها تخلو تماماً من أي اصطلاح سياسي يمنح الفلسطينيين سيادتهم. حتى الحديث عن «تعزيز الحوكمة» (يقترحها كمبادرة ثالثة بعد إطلاق العنان للإمكانات الاقتصادية للفلسطينيين، وثانياً تمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق طموحاته) يقترب من الشكل الإداري لهذه الحوكمة أكثر من مفهوم الحكم، في حين أن التنمية السياسية والديموقراطية والانتخابات، وكلها سبق أن دفع من أجلها المانحون أموالاً طائلة، لإنشاء «المجلس التشريعي» (البرلمان) وأذرع السلطة الباقية، ستخرج من إطار الصفقة، ما يحوّل «الأراضي الفلسطينية» إلى منطقة تحكمها شركات عابرة للحدود بتمويل عربي!
وتقترح الورشة 50 مليار دولار على مدار عشر سنوات مقبلة، ستوضع في صندوق جديد يديره مركز إنمائي متعدد، ليصبح بعدها الفلسطينيون عمّالاً لدى الشركات الجديدة، بـ«راتب مرتفع ومياه نظيفة وكهرباء دائمة» عليهم دفع فواتيرها الجديدة من دون أي دور سياسي لهم، علماً بأن المبلغ أقل بكثير من مجمل ما كان يمكن للسلطة أن تحصل عليه بالقياس إلى المعدل العام. من المهم، هنا، التذكير بما أسّس له «اتفاق أوسلو» الذي يقوم على دمج إسرائيل في المنطقة العربية وأسواقها عن طريق المشروع الشرق ــــ أوسطي الجديد، والأخير يهدف إلى فتح سوق شرق أوسطية بترتيب خاص بين البلاد العربية وإسرائيل من دون قيود جمركية، أو مع قيود تقلّ عن القيود التي على البضائع الأخرى، وكذلك الحال بالنسبة إلى البضائع العربية الواردة إلى سوق الاحتلال. هذا هو التصور أصلاً منذ توقيع الاتفاق عام 1993، إذ رتبت الولايات المتحدة المشهد لتكون إسرائيل مثل جهاز «hub» مركزي، وحليفاً أمنياً استراتيجياً، وشريكاً اقتصادياً للتجارة العالية التقانة. يظهر ذلك بوضوح في خطاب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي، والسفير السابق لدى تل أبيب، مارتن إنديك، أمام «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» (18-5-1993)، حيث يقول: «لا يزال التدفق الحر لنفط الشرق الأوسط بأسعار معقولة من مصالحنا الثابتة، ولنا مصلحة ثابتة في تبادل الصداقة مع الذين ينشدون علاقات جيدة من الولايات المتحدة. ما زلنا نملك مصلحة ثابتة في المحافظة على أمن إسرائيل وبقائها ورخائها، ولنا مصلحة ثابتة في تشجيع تسوية عادلة ودائمة وشاملة للصراع العربي ــــ الإسرائيلي».
هكذا، تكون الأزمات التي صُنعت سابقاً وحالياً للفلسطينيين (المياه، الطاقة، المعابر، التكنولوجيا، الزراعة، التجارة، الصناعة...) قد مرّت كلها وفق مخطط الولايات المتحدة التي لم تأتِ يوماً على ذكر كلمة «دولة فلسطينية» منذ بدء وساطتها في الصراع، في أي من أوراقها أو مؤتمراتها، سواء «مدريد» أو «أوسلو» أو «كامب ديفيد»، وصولاً إلى «أنابوليس». وهنا، يُطرح سؤال مهم: إذا كان المجتمع الدولي والمانحون، بقيادة واشنطن، معنيين بازدهار الفلسطينيين، فلماذا لم يصغوا إلى خطابات المنظمات الدولية، وفي مقدمها البنك الدولي، عن الفقر والمياه الملوثة والحالة الصحية على مدار عشر سنوات؟ ولماذا سمحت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لإسرائيل بقصف وتدمير أكثر من ثلثَي مؤسسات السلطة ووزاراتها في 2002؟ وبينما تُجمع المنظمات الدولية العاملة في غزة على أن القطاع سيصير غير صالح للحياة في 2020، تستمر إسرائيل في تعطيل مشاريع محطات تحلية مياه البحر والمياه الجوفية، ومحاربة المزارعين الفلسطينيين ومنعهم من العمل قرب الحدود، وكذلك منع استيراد الوقود اللازم لتوليد الكهرباء. فأزمات الطاقة والمياه الملوثة والبنى التحتية، التي تقول رؤية كوشنير إنها تقدم حلولاً نهائية لها، موجودة كبرنامج مخطط له حتى في الضفة التي بذلت السلطة فيها دورها المطلوب للقضاء على المقاومة، ومع ذلك، لم يقدم المانحون لها أي حل.

إذا كانت الولايات المتحدة حريصة على التنمية، فلماذا سمحت لإسرائيل بتدمير مقدرات السلطة؟


مثال آخر في ملف الطاقة، إذ تعرض «ورشة المنامة» تحويل محطة كهرباء غزة للعمل على الغاز الطبيعي بدلاً من السولار الصناعي (المازوت). هذا الاقتراح واضح أنه يأتي متقاطعاً مع البدء في تمديد خطوط الغاز بين مصر وإسرائيل وأعمال التنقيب المشتركة في البحر المتوسط، وخاصة بالقرب من حقل «زهر»، ما يعني أن الفلسطينيين مجرد «جسر عبور» في «صفقة القرن» للتطبيع بين الاحتلال والجوار العربي. ثمة مثال ثالث؛ تقترح الورشة تعزيز الخدمات الرقمية والشركات التكنولوجية، بما لا يتعدّى استغلال التكنولوجيين المهرة عبر ربطهم بالشركات الإسرائيلية لتدخل السوق العربية تحت غطاء «دعم الفلسطينيين»، من دون أن يكون لهم دور سوى أنهم عاملون في هذه الشركات بأجرة أقل. وسبق أن نبهت «حملة المقاطعة العالمية» (BDS) من شركات فلسطينية تتعاون مع الإسرائيلية، مثل مركز التطوير التكنولوجي «Rawabi Tech Hub»، وشركة «عسل» في روابي برام الله، وشركة «Exalt» التي تتعاقد معها الشركة الإسرائيلية ــــ الأميركية «Mellanox» التي نقلت فريقها من المبرمجين الفلسطينيين إلى روابي في 2016، بعدما التقى مالكها بشار المصري وزير الخارجية الأميركية آنذاك، جون كيري. وتشرف على «Mellanox» نخبة من مهندسي ومطوري البرمجيات الذين خدموا في وحدة الاستخبارات التقنية «Technical Intelligence Unit» وفريق البحث والتطوير «R&D Team» التابعَيْن لجيش العدو، كما أن الأخير من أكبر زبائن الشركة.

السياحة لطمس المقاومة
«مزايا فريدة ومثيرة تؤهل الضفة الغربية وغزة لتصبحا وجهة عالمية جاذبة للسياح، وهي من الأماكن النادرة في العالم، وتزخر بالمواقع التاريخية والدينية الرائعة». هذه كانت مقدمة فقرة «تطوير السياحة» وفق منشور الورشة الاقتصادية، وقد تحدثت عن تسهيلات للإقراض السياحي وإعادة تأهيل المواقع بقيمة تصل إلى 750 مليون دولار، تهدف في الأساس إلى القضاء على مواقع المقاومة وتحويل المناطق (المستوطنات) المحررة بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي عام 2005 من غزة إلى «إعمار عابر»، بجانب تغيير كل أشكال العسكرة أو الحالة الثورية التي لا يمكن ضبطها إلى حالة اقتصادية يسيطر عليها الاحتلال أمنياً. ما تقدم مجرد أمثلة على ما تطرحه الورشة، لكنه وغيره يخلوان تماماً من أي سياق سياسي، ليكون المطروح «استثماراً من دون سيادة»، أي تحويل الضفة وغزة إلى منطقة صناعية واحدة بشركات دولية يعمل فيها الفلسطينيون لمصلحة عبور إسرائيل إلى المنطقة، سواء في البنى التحتية أو الدفاع المشترك أو المشاريع السياسية مثل مشروع «ريفيريا» المحدّث باسم «نيوم»، بشراكة سعودية ــــ مصرية، أو مشاريع التنقيب في حقول الغاز في المتوسط مع شراكة عربية سيكون بوابتَها الفلسطينيون في حال وافقوا على ما تعرضه «المنامة».
في النهاية، من هم المانحون، وما هو الثمن؟ في الإجابة عن السؤال الأول، سيكون المانح العرب، في ضريبة سيدفعونها مقابل حمايتهم من وهم «العدو المشترك»: إيران، والثمن هو تنازل الفلسطينيين عن السياق السياسي ونضالهم السابق. جراء ذلك، لن يعود اللاجئون إلى فلسطين، بل سيجري توطينهم وفق مشاريع جديدة في دول الجوار أو الدول الغربية، بالتوازي مع تفكيك «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (الأونروا) مع مدلولاتها السياسية. أما القدس المحتلة، فستصير «منطقة سياحية» يسيطر عليها الاحتلال ويستفيد من مردودها السياحي. تبقى الحدود لتسيطر عليها شركات خاصة وسيطة بإدارة دولية تدرّ أموال الضرائب (المقاصة) للإدارة المدنية الجديدة التي ستأكل السلطة بصورتها الحالية، ثم يتحول الفلسطينيون في كل هذه الصورة إلى عمّال فقط يأكلون ويشربون وينامون من دون أي رأي أو اعتراض.



حتى السلطة يئست


قبل «ورشة المنامة» بأسابيع (27-5-2019، رام الله)، أدلى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بتصريح جاء فيه: «من يريد حل القضية الفلسطينية عليه أن يبدأ بالقضية السياسية، وليس بيع أوهام المليارات التي لا نعلّق عليها آمالاً ولا نقبلها لأن قضيتنا سياسية بامتياز. سبقه إلى ذلك رئيس الحكومة الجديدة محمد اشتية (20-5-2019 في رام الله) الذي قال: «الأزمة المالية التي تعيشها السلطة نتيجة حرب مالية هدفها الابتزاز... السلطة لا تتحدث عن شروط تحسين حياة تحت الاحتلال الإسرائيلي». هذا الخطاب الذي بنته السلطة بعد وصولها الى مرحلة اليأس، يمثل تغييراً نوعياً في قناعاتها التي استقرّت على أن الاستثمار الاقتصادي على المدى البعيد لن يوصل إلى نتيجة من دون استحقاقات الإنعاش الاقتصادي، كالسيطرة على المعابر والحدود وآلية التطوير وإيرادات «المقاصة» وحركة التصدير والاستيراد. فقد تلقت السلطة 35.4 مليار دولار منذ نشأتها سنة 1994 من دون قدرتها على النفاذ إلى التنمية، بل دمر الاحتلال ما بناه المانحون بأموالهم من مقدرات ومؤسسات أو حتى مشاريع اقتصادية كالمنطقة الصناعية شرق غزة أو «منطقة الواحة» السياحية التي يعيد المانحون طرحها ضمن «صفقة القرن» بصورة منمّقة، مركزين على «بوظة روكاب» (محل مثلجات في غزة والضفة) كدليل على دخول الماركات العالمية، وذلك لتشجيع المستثمرين الفلسطينيين، كي يضغطوا على صاحب القرار السياسي، كما فعلوا من أجل إمرار اتفاق أوسلو سابقاً!