لم يكن حديث رئيس جهاز «الموساد» الإسرائيلي، يوسي كوهين، عن «وجود فرصة نادرة، قد تكون الأولى في تاريخ الشرق الأوسط، للتوصل إلى تفاهم إقليمي يقود إلى اتفاق سلام شامل»، مجرد تعبير عن أمانيّ، بقدر ما هو تقدير يستند إلى قراءة تل أبيب لوقائع إقليمية ودولية. أجمل كوهين مرتكزات هذه الرؤية بالمصالح المشتركة مع عدد من الدول العربية، والعلاقات الوطيدة مع البيت الأبيض، وصولاً إلى قنوات الاتصال مع الكرملين التي رأى أنها «جميعها معاً تخلق نافذة فرص قد لا تتكرر». لكن، هل هذه الوقائع كافية لتحقيق الطموح الإسرائيلي في تصفية القضية الفلسطينية، وتحديداً في ضوء عناصر القوة التي يتمتع بها محور المقاومة؟لم يعد خافياً أن إسرائيل ترى في البيئتين الإقليمية والدولية الحاليتين فرصة لفرض صيغتها للتسوية. لكن هذه الرؤية لم تكن لتتشكل لولا محطات فارقة مرّ بها الصراع مع العدو. المحطتان المفصليتان في هذا المسار هما «اتفاقية كامب ديفيد»، ثم «اتفاق أوسلو» الذي لولاه لما ارتقى الرهان الإسرائيلي إلى المستوى الذي هو عليه الآن. إلا أن مفاعيل «أوسلو» لم تعد مقتصرة على الترويج لمقولة أن معادلات القوة الدولية والإقليمية لا تسمح بالإعداد للتحرير، وأن الواقعية تفرض الإقرار بواقع الاحتلال والتسليم به، بل بلغت حدّ الاستعداد لتلبية المطلب الاسرائيلي بالاعتراف بيهودية الدولة، وهو ما لمّح إليه وزير خارجية البحرين، خالد بن أحمد آل خليفة، حين قال إن «إسرائيل جزء من تراث المنطقة». وهو ما سبقه إليه وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي تحدث قبل أكثر من سنة عن حقوق للإسرائيليين في أرض فلسطين، الأمر الذي دفع صحيفة «هآرتس» حينذاك إلى منحه لقب «بلفور بن سلمان». اكتملت شروط بلورة الفرصة التاريخية، ودائماً من منظور إسرائيلي، مع تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة. تطور تعاملت معه تل أبيب بوصفه فرصة قد لا تتكرر، وهو ما دفعها إلى الاستعجال في خطواتها السياسية والعملية الاستيطانية.
من تطمح إسرائيل إلى اتفاقية سلام معهم لم يكونوا يوماً جزءاً من الصراع


لكن في المقابل، ثمة تجاهل قد يكون متعمداً أو ناتجاً من قصور عن تقدير مفاعيل هذا المسار من قِبل المشاركين فيه. ولعلّ أبرز من عبَّر عن ذلك الوزير البحريني الذي رأى أن «مؤتمر المنامة يمكن أن يغيّر اللعبة مثل اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر»، وهو ما يحضر أيضاً في طيّات كلام رئيس «الموساد». يستند تقدير كوهين إلى خلط مقصود بين الحدث ومفاعيله المفترضة، على رغم أن عقد اتفاقات سلام بين أنظمة خليجية وإسرائيل، بل التحالف بينها، لا يعني بالضرورة تصفية القضية الفلسطينية، وتوفير الأمن والاستقرار لتل أبيب. فقد أُبرم مثل هذا الاتفاق في نهاية سبعينيات القرن الماضي (كامب ديفيد)، لكنه لم يؤدِّ إلى تصفية القضية، على تسبّبه بتغيير هائل في موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وهو ما ينسحب أيضاً على «أوسلو». السبب المباشر في ذلك أن الشعب الفلسطيني هو المَعْبر الحصري لتحقيق هذه الأهداف، وما لم يسلّم الفلسطيني للاحتلال، فسيظلّ عقبة كأداء أمام مشاريع «السلام»، الأمر الذي تجلى بوضوح أخيراً خلال «مؤتمر البحرين».
أكثر مما تقدم، أصل المقارنة مع «كامب ديفيد»، أو اعتبار أن هذه الاتفاقات ستقود إلى سلام شامل، تقدير في غير محله. ذلك أن النتائج التي ترتبت عن «كامب ديفيد» تعود بالدرجة الأولى إلى المكانة التي كانت تحتلها مصر في معادلة الصراع مع إسرائيل، وهو ما أدى إلى تغيير في موازين القوى نتيجة انتقالها من ضفة إلى أخرى. كان يمكن أن يؤدي هذا التحول إلى نتائج أبعد مدى بكثير مما جرى، لكن انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما ترتب عنه من تأسيس لتغيير في معادلات القوة، هو ما قطع الطريق على مسار «السلام»، وأعاد التوازن إلى المشهد الإقليمي، وصولاً إلى ما رسا على الساحتين الإقليمية والفلسطينية من معادلات. كذلك، مَن تطمح إسرائيل إلى اتفاقية سلام معهم (أنظمة خليجية) على قاعدة المصالح المشتركة، لم يكونوا يوماً جزءاً من معادلة الصراع. لذا، إن انضمامهم العلني إلى المعسكر الإسرائيلي لن يؤدي إلى تغيير المعادلات، هم الذين كانوا ولا يزالون جزءاً من المعسكر المضاد الذي يقوم بكل المهمات المطلوبة منه لضرب قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا، وصولاً إلى الجمهورية الإسلامية. ولعلّ في انتقالهم إلى التحالف العلني مع كيان العدو إيجابيات ستظهر لاحقاً، لجهة أنها ستؤدي إلى إخراجهم من المساحة الرمادية التي كانوا يحاولون الإيحاء بها، وكأنهم معسكر ثالث مستقل عن الكيان.
يبقى العامل الأكثر أهمية في تعزيز الرهان الإيجابي لمصلحة مستقبل فلسطين، أن المقاومة تستند إلى محور إقليمي يمتد حتى إيران، ويتمتع بعناصر قوة استراتيجية لم يسبق أن تمتعت بها المقاومة في كل مراحل الصراع. وعلى رغم الخطورة التي ينطوي عليها مشهد الكباش بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية، فإنه يعكس حقيقة فشل الخيارات البديلة التي هدفت إلى إخماد المقاومة ومنع مسارها التصاعدي، وصولاً إلى اضطرار رأس المعسكر المعادي (الولايات المتحدة) إلى الانخراط المباشر في المواجهة، بكل ما يتمتع به من قدرات هائلة، في مواجهة العمق الاستراتيجي للمقاومة، المتمثل بطهران. وهو ما يؤكد حقيقة أن «الحرب على إيران حرب على فلسطين»، بكل ما لهذه العبارة من معنى.