مع بُلوغ الوّد أشده بين دول عربية وخليجية، ومندوبي إسرائيل، والرعاة الأميركيين في ورشة التطبيع في المنامة، هوت مطرقة ديفيد فريدمان على جدار لنفق تحت البلدة القديمة في القدس. مشهدٌ انزلق عن الشاشات ماراً من دون ردّ فعل يُذكر منذ حفل الافتتاح قبل يومين. فبينما دُشّن إعلان الحلف من البحرين، ظهر سفير واشنطن لدى تل أبيب يحمل مطرقةً وإلى جانبه مبعوث دونالد ترامب إلى المنطقة. خطوة غير مسبوقة، لكنها غير مستغربة. هي تعبير صارخ عن التماهي الأيديولوجي بين طاقم البيت الأبيض واليمين الصهيوني في إسرائيل... فالجدار الذي حطمته واشنطن يؤدي إلى ما يُزعم أنه «نفق الحجيج اليهودي إلى الهيكل».«تسألونني لماذا أنا هُنا؟ الإجابة مهمة، خصوصاً أنه الأسبوع الذي نحتفل فيه باستقلال الولايات المتحدة الأميركية. الإعلان الذي غيّر الطريقة التي نتطرق فيها إلى العلاقة بين الشعب والحكومة. حقوقنا لم يعطنا إياها الجمهوريون أو الديمقراطيون، بل الرّب». الكلام للسفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، وهو يشرح لماذا يحمل تلك المطرقة، محطماً جداراً أسفل البلدة القديمة، يصل إلى ما يُزعم أنه «نفق الحج اليهودي إلى الهيكل». يُتابع السفير خطبته: «كيف عرف آباؤنا ما هي الحقوق؟ الإجابة أنهم قرأوا ذلك في التناخ (الكتاب المقدس اليهودي) ومن أين جاء التناخ، والتوراة؟ من هذا المكان».
إلى جانب فريدمان، ظهر في حفل افتتاح النفق مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى المنطقة، جيسون غرينبلات، وعدد آخر من المسؤولين الإسرائيليين، وطبعاً زوجة رئيس الوزراء، سارة نتنياهو. مشاركة الدبلوماسيين الأميركيين قد تكون خطوة غير مسبوقة لناحية المجاهرة بها، ولكنها غير مستغربة إذا ما سير على خط القرارات الأميركية بشأن القدس منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة. وهي خطوة، وإن امتنع عنها سابقوهم (أقله في العلن)، فإنها تتويج للتماهي الأيديولوجي المطلق القائم بين مديري المكتب البيضاوي في واشنطن، وبين اليمين الخلاصي في تل أبيب. هذا ما يوضحه السفير نفسه في نهاية خطابه: «هذا المكان موقع أثري للولايات المتحدة مثلما هو لإسرائيل. هذا هو سبب العلاقة المتينة والصلبة بين البلدين. نريد قول الحقيقة، أن نروي التاريخ والتناخ. هذه الحقيقة وهذه هي الطريق الوحيدة».

نفق إلى الهيكل
أما النفق المفتتح حديثاً، فإن جمعية «إلعاد» الاستيطانية التوراتية تزعم أنه «كان طريقاً يسلكه الحجاج اليهود باتجاه المعبد اليهودي الثاني في القدس قبل نحو 2000 عام». النفق يمتد تحت أسوار القدس المحتلة، من حيّ وادي حلوة في بلدة سلوان، وصولاً إلى المسجد الأقصى. بالتزامن مع الافتتاح، أعلنت «مدينة داوود» على موقعها بدء الجولات السياحيّة في النفق، ويراوح سعرها بين 10 و15 دولاراً، وتستغرق ساعتي تجوال. أمّا جمعيّات و«منظمات الهيكل» وعلى رأسها «يشاي»، فأطلقت حملة عالمية لجمع تبرعات لبناء الهيكل وكُنُس أخرى مكان الأقصى وفي صحن قبة الصخرة. افتتاح النفق وإطلاق حملة التبرعات الدولية حدثان لا ينفصلان، إذ إنّ مسار النفق في النهاية يقود إلى حيث سيُبنى الهيكل والمعابد الأخرى في باحة الأقصى وقبة الصخرة، وهو جزء من مشروع حفريات يشبك المستوطنات في القدس بشبكة أنفاق متداخلة تمتد تحت البلدة القديمة. وفقاً لما ورد في منشور لـ«يشاي»، تهدف الحملة إلى «تعزيز الوجود اليهودي في القدس القديمة وفي سطح الهيكل اليهودي، لبناء كنيس يهودي في ساحات الحرم في الأماكن التي يسمح الصعود إليها والتجوال داخلها من دون انتهاك أو مسٍّ بقدسية الموقع الذي سيبنى فوقه الهيكل (في ساحات وصحن القبة)».
ومع أن مشهد افتتاح النفق بدا كأنه يجري في دائرة زمنية واحدة، ظهر أن ردّ الفعل قد تغيّر. ففي الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1996، خرج الفلسطينيون في هبّة شعبية (أو انتفاضة النفق) بعد إقدام سلطات الاحتلال على فتح باب النفق الغربي أسفل الأقصى. وللمناسبة، كان رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، هو نفسه رئيساً للوزراء آنذاك، وقد كُلّف إيهود أولمرت افتتاح النفق. على إثر ذلك، اندلعت مواجهات عنيفة بين الفلسطينييين والعدو، وقد استشهد خلالها عشرات الشبان وأصيب واعتقل كثيرون. لكن اليوم اقتصر ردّ الفعل على إدانات خجولة تصدّرها موقف وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية التي حذّرت من أن «مثل هذه الإجراءات اللاشرعية وغير المسؤولة تزيد التوتر والاحتقان». وشدد المتحدث باسم الوزارة، السفير سفيان القضاة، على «رفض المملكة المطلق لكافة المحاولات الإسرائيلية الراميّة إلى تغيير هوية البلدة القديمة للقدس المحتلة وطابعها، خصوصاً الحرم القدسي الشريف والمواقع المتاخمة له».

«بحصة» في أكوام الآثار المنهوبة
ضمن حقول علميّة عدّة في إسرائيل، جُنّد علم الآثار منذ عقود لخدمة الأيديولوجيا الاستيطانية، وتصاعدت حملات نهب الآثار و«تدويرها» في خدمة المشروع الاستيطاني باسم «الحفريات الأثرية». انطلاقاً من ذلك، يحيلنا تتبع مسار مشاريع «الاستكشاف الأثري» في القدس، وتحديداً الذي يجري منذ سنوات في منطقة «الحوض المقدس»، على خلاصة مفادها أنه ليس مبادرات من جمعيات استيطانية، بل قرار من أعلى المستويات السياسية في إسرائيل. والسبب الوحيد وراء تصدر الجمعيات لهذه الحملات أنّ المنطقة التي يجري فيها الحفر تقع ضمن «القدس الشرقية»، حيث تمتد من البلدة القديمة ومحيطها، وصولاً إلى سفوح جبل الزيتون غرباً، مروراً بسلوان ووادي حلوة وحيّ البستان ووادي الرباب، حتى الشيخ جرّاح شمالاً. وهي الأماكن التي طالبت إسرائيل بالسيطرة الكاملة عليها في مفاوضات الحل النهائي.
فريدمان: النفق مكان أثري للولايات المتحدة مثلما هو لإسرائيل


دوماً رافق الحملة الأثرية تحت الأرض حملة استيطانية فوقها، مصحوبة بتهجير للسكان الفلسطينيين عبر تسريب عقاراتهم، بتزوير أوراق الملكيّة أو بتواطؤ بعضهم أو تورط جهات مشبوهة، أو الاستيلاء عليها بالقوة. لكن كبرى حملات تهويد معالم البلدة القديمة ومحيطها وتغييرها تجلت في القضاء على حيّ المغاربة وسوقه بعيد النكسة، وحرمان الفلسطينيين الدخول من البوابة التي تحمل اسمه، وتصل إلى الأقصى. منذ ذلك الوقت، يستخدم الاحتلال ومستوطنوه الباب في حملات الاقتحام التي تصاعدت، حتى باتت شبه يومية. كذلك فإن ما يحدث تحت أرض البلدة، من نسف للتاريخ وحضارة الشعوب التي سكنت منذ القدم، لا يقلّ أهميّة عمّا يحدث فوق. ويُعَدّ تحقيق «القدس الباطنيّة» الذي أجرته صحيفة «هآرتس» سابقاً واحداً من التقارير المهمة التي قد تشكل مدخلاً لفهم إلى أيّ مدى قد يذهب المشروع الاستيطاني.
فـ«القدس السُّفلى» مشروع مدينة حُفرت تحت البلدة القديمة والحرم القدسي وبعض أحياء شرقي القدس، وقد «هوّدت كل الآثار التي صادفها المشروع في رحلة الحفر». أمّا الهدف، فهو إخلاء المدينة من أي وجود عربي أو فلسطيني، وإيجاد آثار الهيكل المزعوم. الأمثلة التي أوردت على ذلك كثيرة، منها أن الحمام المملوكي صار اسمه «الرحلة إلى أورشاليم»، والخان المملوكي العريق تحوّل إلى «قاعة حائط المبكى». وتدعي «سلطة الآثار الإسرائيليّة»، التي تُعد أهم جزئية في شرعنة الحفر وترخيصه والتستر عليه، أن الحفريات تحت المسجد متوقفة منذ ثمانينيات القرن الماضي. لكن ما لحق بالأبنية السكنية للفلسطينيين من تصدعات وانهيارات عرّى كذب روايتها، إذ استمر الحفر دون توقف، وتسارعت وتيرته بدءاً من 1996 بافتتاح أولمرت للنفق.

تشققات البيوت كما يقول سكانها (الأخبار)

تشققات البيوت كما يقول سكانها (الأخبار)

تشققات البيوت كما يقول سكانها (الأخبار)

في 2007 تحديداً «حدث انهيار كبير في شارع وادي حلوة»، يشرح مدير «مركز معلومات وادي حلوة» في سلوان، جواد صيام، في حديث إلى «الأخبار». ويقول: «إثر الانهيار اكتشفنا نفقاً أسفل الشارع، ونصبنا آنذاك خيمة اعتصام احتجاجاً على الأنفاق ولجأنا إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية التي أصدرت أمراً بإيقاف الحفريات 14 شهراً». رغم أن قرار المحكمة استند في تعليله إلى الاعتراف بخطورة هذه الحفريات على الأبنية السكنية للفلسطينيين، «استمرّ الحفر لأنه مهم للتاريخ اليهودي في تغاضٍ قانوني متعمّد وواضح».
غالبية أعمال الحفر ارتبطت بجمعية «إلعاد»، ومشروع «الحديقة التوراتية» التي تهدف الجمعية إلى إقامتها على حساب أراضي سلوان ووادي حلوة. الهدف من ذلك، كما يشرح صيام، «ترسيخ الرواية اليهودية المزيفة عن أحقيتهم بالمكان بتسخير الآثار. ومنطقة حيّ وادي حلوة في بلدة سلوان هي المدخل الجنوبي للهيكل المزعوم، والحيّ نفسه هو الحجر الأساس في إقامة الحوض المقدس الذي يمتد حول البلدة القديمة، ويفترض لتنفيذ هذا المشروع السيطرة الكاملة على الجهة الجنوبية، وهي سلوان، لأنها ستكون المدخل الرئيسي للهيكل في حال إقامته».
فضلاً عن ذلك، يشكل الموقع الجغرافي لحيّ وادي حلوة جزءاً مهماً في المشروع، إذ يحيط أسوار الأقصى وفيه ثلاثة أبواب مغلقة. و«بمجرد أن يزيلوا الحجارة من السور يتاح حينها الدخول إلى المسجد مباشرة، وحتى ينفذوا مشروع الهيكل وفق معتقداتهم يجب أن تكون المنطقة فارغة مما يسمونه القمامة ــ البيوت الفلسطينية ومنطقة باب الرحمة ــ حتى يتسنى لهم إنجاز مشروعهم وإنهاؤه والتمهيد لرجوع المشياح (المسيح المنتظر في المعتقد التوراتي)». بالحفر أيضاً، يهدف المشروع إلى التقاط أيّ إشارة قد ترتبط بـ«الإرث اليهودي»، وفق صيام.
«لكن [يؤكد مدير المركز] لم يجدوا أي شيء يدعم مزاعمهم، حتى تلك التي تكشفت أخيراً بشأن إيجاد الهيكل الثاني، ليست إلا ممراً رومانياً لا علاقة له بالكتاب المقدس، وقد حفروا نفقاً تحت سلوان وفوق هذا الممر الروماني، فيما يُغيرون في كل مرة اتجاه الحفر للوصول إلى الهيكل المزعوم». وفي النتيجة، «وصلنا اليوم إلى خمسة أنفاق في حيّ وادي حلوة، وباب المغاربة في أقصى شمال بلدة سلوان، وهي منطقة بجانب سور الأقصى والبلدة القديمة، والهدف منها الوصول إلى حائط البراق».
كيف أثرت الحفريات في حياة المقدسيين؟ وفق ما رصده المركز، فإن عشرات البيوت الفلسطينية قد تضررت بالفعل وباتت التصدعات جزءاً من «ديكورها» الداخلي. أمّا مدرسة «الأونروا»، فانهارت أيضاً، وثمة عائلات كاملة تركت بيوتها ورحلت. هنا يشرح صيام أن «طريقة الحفريات غير مهنية، فالحفارون الإسرائيليون يستعملون أجهزة تزيد الضرر للبنى التحتية والبيوت، ولا تراعي المعايير العالمية المتبعة في هذا الإطار». المقدسيّة مريم بشير، تسكن في بلدة سلوان في وادي حلوة وتعاني بسبب الحفريات المستمرة تحت منزلها الذي صار «شقفاً» متراصة بسبب الحفريات. تشرح لـ«الأخبار» أن «الوضع مأساوي جداً، فالحفريات مستمرة، ونحن ننام على أصواتها. أمّا التشققات، فتزداد يوماً بعد يوم حتى آلت بيوتنا إلى ما يشبه قطع لعبة الليغو المُفككة. مع ذلك، لم نرحل عن بيوتنا، لأن وطننا هنا. ولن نترك المنطقة للاحتلال الذي يحاول أن يرحلنا بكل وسائل الترهيب».
أما حقيقة أن المساحات التي أُنشئت تحت الأرض بفعل أعمال الحفر الإسرائيلية، والتي تجري وسط تعتيم كامل على كل ما يدور في الأسفل أو يُعثر عليه هُناك، سواء أكان بقايا أثرية أم أثاراً كاملة، فتحيلنا على أسئلة عدّة، في مقدمتها: من صاحب الملكية على هذه الفضاءات من كهوف وأنفاق وقاعات تقع تحت الأرض (قلبت في معظمها إلى قاعات لتأدية الصلوات وأمكنة سياحية دينية)؟ وما دور الفلسطينيين المُبعَدين فعلياً عن هذه الأعمال؟ وما مصير الآثار التي تكشفت في طبقات تعود إلى عهود إسلامية مختلفة، منها العثمانيّ؟ ماذا بشأن «المساحة القانونية» إن كان ثمة محاولة للمناوة في «فضاء الديموقراطية» الإسرائيلي؟
«نحاول باستمرار استخدام الإجراءات قانونية، لكن كما بات معلوماً، المحاكم الإسرائيلية غير عادلة. وفي السنوات الماضية، نجح اليمين الإسرائيلي في تنصيب طقم من القضاة الأكثر تطرفاً منذ نشأة إسرائيل»، يوضح صيام، مستدركاً: «الواقع اليوم مؤسف للغاية، فكل القضايا التي نرفعها لا تُناقش أصلاً. ندرك أنّ أي محاولة جادة لإيقاف هذه الأعمال التخريبية العابثة بتاريخ المدينة وحضارتها تستوجب وقفة عربية واحدة، وهذا غير موجود، بل العكس، بدأنا نشهد في السنوات الماضية محاولات عربية رديفة لهذا المشروع، انشغلت في تسريب العقارات الفلسطينية. وبما أنّ المستوى العربي الرسمي صامت، فلا عتب أن تساند الإدارة الأميركية هذه الأعمال، ويُشارك مسؤولوها في افتتاح الأنفاق».
على هذه الخلفية، يشكل الإخلاء والترحيل عمودين أساسيين في سياسة منهجية هدفها الوصول إلى غالبية يهودية بنسبة 90% في المدينة المقدسة، وتحديداً البلدة القديمة. ومقدمة ذلك «السيطرة على العقارات الفلسطينية؛ بنحو مباشر أو غير مباشر... حوّل الاحتلال سلوان من منطقة اقتصادها قوي وتعتمد على الزراعة والفلاحة، والسياحة، إلى بلدة فقيرة جداً بعدما صادر ما يقارب 73 ألف دونم، وبقيت لدينا السياحة، لكن جمعية العاد سيطرت أيضاً على المناطق الأثرية وحُرم السكان كلياً أيّ تجوال في المنطقة»، يقول صيام، «فضلاً عن زيادة نسبة الضرائب دون تلقّي أي خدمات مقابلها غير هدم بيوتنا».