انتظر نتنياهو أن تأتيه الانتقادات على اتفاق التهدئة مع حركة «حماس»، من معسكر اليمين، فأتاه الانتقاد ممن هم على يساره. هذه عينة مما يفعله التنافس الانتخابي في إسرائيل. لكن هذه النتيجة ليست مفاجئة. فالساحة الإسرائيلية مشهورة بتوظيف القضايا العامة، بما فيها قضايا الأمن القومي في السياق الانتخابي. وأكثر من اشتهر بتوظيف التهديدات بما فيها الوجودية في هذا السياق نتنياهو نفسه. ولا يعني التوظيف بالضرورة أنه يتم اختلاق العناوين. وإنما تسليط الضوء عليها، وأحياناً تضخيمها والمبالغة، وصولاً إلى تحويلها إلى مادة حاضرة بقوة لدى الرأي العام بهدف تسجيل نقاط لمصلحة هذا الزعيم أو ذاك الحزب في السياق السياسي الداخلي.تلقى نتنياهو انتقاداً حاداً على اتفاق التهدئة من رؤساء الأحزاب المعارضة التي تتموضع على يسار نتنياهو ممن يصفون أنفسهم بمعسكر الوسط. فتعمد رئيس حزب «أزرق أبيض»، بيني غانتس، أن يضرب على الوتر الذي يمسّ بصورة نتنياهو كسيّد للأمن كما يحاول الترويج لنفسه، فاعتبر أن «الاتفاق الذي جرى توقيعه الليلة الماضية يثبت أن حماس تُملي الأمور على نتنياهو. ليس هكذا يصنعون الردع».
مع ذلك، فإن هذه التهدئة هي خطوة مدروسة من قبل نتنياهو، وتتساوق مع استراتيجيته التي يعتمدها في الداخل وفي مواجهة الخارج. إذ يراهن على أن يخدمه هذا الاتفاق من زوايا عدّة:
ــــ على المستوى الداخلي، يهدف اتفاق التهدئة إلى محاولة التوصل إلى صيغة توفّر الأمن لمستوطنات جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة، في محيط قطاع غزة، على أمل أن يدعمه ذلك على المستوى الانتخابي، وخصوصاً بعدما بات مستقبله الانتخابي موضع تساؤل.
ــــ من زاوية أخرى، يعدّ هذا الخيار الأقل ضرراً على إسرائيل، باعتبار أن الخيارات البديلة في مواجهة القطاع، إما استمرار حالة التوتر أو التفجير الواسع... وكلاهما بلا أفق.
ــــ وأيضاً، تنسجم هذه الخطوة مع الرؤية الاستراتيجية لحكومة نتنياهو في مواجهة التحديات التي تواجهها على المستوى الإقليمي. ومن هذا المنطلق، فإن تهدئة جبهة غزة، تسمح لإسرائيل بالتفرغ لمواجهة تداعيات التطورات التي تشهدها بيئتها الإقليمية في الشمال والشرق. ولذلك تسعى إلى تهدئة الوضع على الحدود الجنوبية.
وكان مسؤول أمني إسرائيلي قد أعلن التوصل إلى اتفاق تهدئة بين إسرائيل وحركة «حماس»، بفعل وساطة مصر والأمم المتحدة، تقوم بموجبها إسرائيل بتوسيع مساحة الصيد واستئناف تزويد قطاع غزة بالوقود. وأكد المسؤول الإسرائيلي أن حماس التزمت «بوقف العنف ضد إسرائيل». مهدداً أنه «إذا لم تلتزم حماس بالتعهدات، فستستأنف إسرائيل العقوبات». من دون أن يشير أيضاً إلى أن عدم التزام إسرائيل سيدفع فصائل المقاومة في القطاع لتوجيه رسائل أكثر من يفهمها هم مستوطنو محيط قطاع غزة.
وبالعودة إلى الانتقادات التي تلقّاها نتنياهو، فقد أكد غانتس، أن إسرائيل «فقدت الردع»، وأنه يتحقّق عبر شن هجمات شديدة، وردود فعل قاسية، وعندما لا يكون هناك رد فعل شديد، وعندما لا يكون هناك ردع، فإنه لا توجد تهدئة. ويكشف غانتس بهذه المواقف عن نهج أكثر يمينية تجاه قطاع غزة. وهو ديدن الأحزاب الصهيونية عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين. فالأغلبية الساحقة منهم تزايد على بعضها البعض في التشدّد. ويبدو أن غانتس يحاول أن يكرّس صورته في أذهان الرأي العام، بصفته رئيس أركان سابقاً، بأنه المؤتمن على أمن إسرائيل. وفي كل الأحوال، تكون المزايدة على حساب الدم الفلسطيني. وفي سياق الدعاية الانتخابية المباشرة، عمد غانتس إلى تحريض سكان المستوطنات على نتنياهو، فأكد أنهم لا يهمّونه، وأنه «ينبغي الاستمرار في الاعتناء بسكان الغلاف. ينبغي أن تكون هناك حكومة تكترث بالسكان».
في السياق نفسه، رأى القيادي في كتلة «أزرق أبيض» ورئيس أركان الجيش السابق، غابي أشكنازي، أن ما تم التوصل إليه ليس تهدئة. وإنما هو تخلي نتنياهو عن سكان الغلاف وتجاهلهم. ولم تقتصر الانتقادات على من تقدم، بل شملت أيضاً، عضو الكنيست عمير بيرتس، من حزب «العمل»، والذي رأى أن «المطلوب هو حل طويل الأمد، وليس اتفاقات تهدئة مشكوك بها ولا تساوي الورق المكتوبة عليه». ورأى في هذا الاتفاق أيضاً «تخلّياً مرة أخرى عن الجنود والمواطنين ووضعه بأيدي حماس»، معتبراً أن «حماس تلعب بنتنياهو».
ولم يُفوّت رئيس الحكومة الأسبق، إيهود باراك، الذي هبط على الساحة السياسية كمنافس في الانتخابات، هذه الفرصة كي يطلق نيرانه على نتنياهو، فرأى أيضاً أن هذا استسلام آخر من جانب نتنياهو لـ«حماس»: «بعد مئات الحرائق توصلوا مرة أخرى إلى صفقة إشكالية وربما ستصمد بضعة أيام بصعوبة. وبغياب حسم الأهداف والطريق، يتآكل الردع، والحكومة تتحول إلى رهينة بأيدي حماس، التي تريد إشعال المنطقة».