في أعقاب دعوات وجهتها السلطة الفلسطينية إلى الأحزاب العربية للإبقاء على وحدتها قُبيل تفكك «المشتركة»، وجد عدد من الشبان والشابات من فلسطينيي الـ48 فرصة للتعبير عن رفضهم المشاركة في انتخابات الكنيست. ردّ هؤلاء بالكتابة على جدران قراهم ومدنهم، داعين أبناء شعبهم إلى المقاطعة، وهو ما أعاد إحياء النقاش حول العلاقة بالحيّز العام تحت الاستعمار.لافتة كبيرة مصممة بعناية عند مدخل مدينة أم الفحم كُتب عليها بخط كبير: «المشتركة». تحتها كُتب بخط أصغر حجماً: «القوة الثالثة في الكنيست». أسفل الأخيرة أُضيفت جملة «أبوية» تخاطب الجموع بـ«(أ)لا تهدموا أكبر إنجازات وحدتنا». ما سبق هو نداء وجهته السلطة الفلسطينية إلى الأحزاب العربية الأربعة للإبقاء على وحدتها، بعدما انسحب عضو الكنيست، أحمد الطيبي، لخلافات على محاصصة المقاعد، ثم تفكك «القائمة العربية المشتركة». ووفق ما كشفه لـ«الأخبار» موظف يعمل في شركة للإعلانات في إحدى بلدات الداخل، فإن «السلطة هي التي موّلت هذه اللافتات التي انتشرت على مداخل أكثر من قرية ومدينة». إلا أن هذه الدعوات ليست الأولى من نوعها؛ إذ سبق للسلطة بعد اتفاقية أوسلو أن دعت بصورة مشابهة إلى التصويت لـ«اليسار» الصهيوني من أجل الدفع باتجاه «الحل النهائي».
في أم الفحم، أو «الاسم الحركي لفلسطين»، كما سماها الشهيد ناجي العلي، وجد شاب وشابة في تلك اللافتات فرصة للتعبير عن رفضهم لهذا «السيرك السياسي»، فكتبا على إحدى اللافتات: «الكنيست الصهيوني... فشل، وهم وتطبيع ـــــ #قاطع». وبعد أيام قليلة على «عَمْلتهم»، اعتقلهما عناصر شرطة الاحتلال بتهمة كتابة «عبارات تحريضية». لم يكتفِ «جهاز الأمن الداخلي» (الشاباك) بالتحقيق معهما، فحكم عليهما بالإقامة الجبرية. مع ذلك، لم يتوقف الأمر عند مدخل أم الفحم فحسب، بل انتشرت الكتابات في مدن وقرى عدة، ووصل الأمر إلى استغلال الجدران الواقعة بالقرب من مراكز شرطة الاحتلال حيث كتب أحدهم: «من حيفا... صباح الخير للمقاطعين».
أثارت هذه الكتابات نقاشات كثيرة، بدءاً من المشاركة في الاستحقاق الانتخابي والجدوى منها، مروراً بالمقاطعة كخيار سياسي والبحث عن البديل، وصولاً إلى «الاعتداء» على الحيّز العام من قِبَل شركات تربح مئات آلاف الدولارات من لافتاتها، وليس انتهاءً بالجدار في المدن والبلدات والقرى التي يُسيطر عليها الاستعمار في الأراضي المحتلة عام 1948. فلسطينياً، للجدار معنى مختلف يرتبط أساساً بتقسيم فلسطين وعزل الفلسطيني عن بقية شعبه وخنقه في غيتوهات. أما تاريخياً، فكان الجدار وعاءَ العمل الفني المقاوم، وصحيفة المقاومة لإصدار بيانات سياسية مقتضبة، والمنصة السريعة للفصائل، ونافذة «من لا صوت لهم» ولا مساحة، يعبّرون فيها عن أفكارهم ومشاعرهم مجاناً، من دون أي ثمن أو اعتبار سياسي، فيما يبقون مجهولي الهوية، فلا يتحملون جراء كتاباتهم أي تبعات اجتماعية أو سياسية.
لكن تلك الكتابات «التحريضية»، التي نادت الناس بالمقاطعة، اعتبرتها الأحزاب العربية «اعتداءات على الممتلكات والحيّز العام»، ومجرد «تفريغ للمشاعر وأعمال صبيانية»، علماً أن رمزية الكتابة على الجدار تختلف من منطقة إلى أخرى في فلسطين. فمثلاً مع انتشار ظاهرة الجداريات أخيراً في أم الفحم، يمكن رؤية عناصر شرطة الاحتلال يحملون فرشاة دهان أو «سبراي» لتغطية إحدى الجداريات الوطنية في المدينة، أو أن يُعتقل شاب وفتاة تحت سن الـ18 بتهمة كتابة «مواد تحريضية»، وأثناء التحقيق معهم، وفي الليلة نفسها، تُكتب جداريات جديدة تندد بزيارة وزير الداخلية، آرييه درعي، للمدينة، وتدعو إلى المقاطعة، وتكتب عبارات وطنية عن الشهداء والأسرى. لذلك، يمكن اعتبار الكتابة على الجدارن تمرداً على رتابة الشوارع وبياضها الاستعماري.
فكرة «الاعتداء» على الحيّز العام ليست جديدة. ففي كلّ مرة تتسخ فيها شواطئ حيفا ويافا وعكا وغيرها، يخرج من يقول: «علينا أن نحافظ على النظافة... يجب أن نتعلم منهم» (علماً أنه في كل مناسبة احتفالية أو أعياد يهودية يحتاج عمال النظافة أسبوعين لجمع النفايات التي يتركها المستعمرون اليهود). مع ذلك، يبقى هناك من يمتنع عن رمي أعقاب سجائره في شوارع تل أبيب (فيما يرميها في قريته) التي يسكنها أكثر من مليون مستوطن، بحجة أن «هذا الفعل غير أخلاقي هناك»، أو أن يُهاجَم من يرسم ويكتب الجداريات بحجة المحافظة على جدران «المدينة بيضاء» والحيّز العام.
رغم أن الاحتلال يمكنه أن يهدم بيوت الجميع، ويعتدي على الأنشطة السياسية العامة، ويمنع المظاهرات، فيما تتآمر معه شركات إعلانية محلية على سلب الموارد والهواء والمساحة العامة، وتشارك في محاربة من يفكر خارج «الصندوق السياسي»، فإن هناك فعلاً من يهتم بالمحافظة على الجدار الأبيض من بيانات المقاطعين! قد يصلح أن يُسمى هذا الفعل بـ«الهوس ببياض الاحتلال»، فالحفاظ على حيّز عام خالٍ من كتابات «تحريضية» يحمل ما هو أبعد من المناكفة السياسية أو الاختلاف في وجهات النظر. السبب قد يكون كما يرى البعض «إعجاباً بالمستعمر الأبيض المتفوق»، ومحاولة لاستيراد شكل العمارة والبنية التحتية والتشبه بشكل المستوطنة، وصولاً إلى استيراد قيم أخلاقية. وللمفارقة، تطبيق كل هذه المستوردات يجري في مساحة يمارَس فيها كل ما هو غير أخلاقي.
على هذه الخلفية، قد يُسأل كيف يجب أن يكون شكل العلاقة بين المُستَعمَر وحيّزه العام الواقع أيضاً تحت الاستعمار؟ من البديهي القول إن علاقة فلسطينيي الـ 48 بهذه المنظومة الاستعمارية قامت على الإلغاء ونفي الوجود الفلسطيني، سواء بالممارسة الفعلية التي يقوم بها الجندي، أو بتشريع الكنيست لقوانين مثل «القومية اليهودية» أو قانون «لجان القبول» أو «العودة» أو «النكبة» وغيرها. ولذلك، وجود حيّز عام تحت هذه المنظومة ليس سهلاً. فأين فلسطينيو الـ48 من الحيّز العام، فيما مُدنهم وقراهم وبلداتهم ليست لهم، بل امتدادها وشكلها محكومان لإرادة المستعمر، كذلك فإن بيوتهم وأراضيهم معرّضة دوماً للهدم أو المصادرة؟
إذاً، لم يترك الاحتلال لفلسطينيي الـ48 أي حيّز عام ليتصرفوا به، فضلاً عن أن علاقتهم مع الشارع والمدرسة والحيّ مبنية أساساً على شعور بالاغتراب. وفي الوقت نفسه، يخضعون للقوانين التي تلزمهم بدفع ضريبة الأملاك وكل الضرائب الأخرى، ومن بينها قطف نبات الزعتر والعكوب... لذلك، النقاش الذي فتحه فعل الكتابة على الجدران قد يُعيد تعريف العلاقة بين الفلسطيني وحيّزه العام، وقد يُسهم كما يقول البعض في «تجاوز، وربما إلغاء، مساحة الاغتراب التي خلقها الاستعمار».