هددت إسرائيل، عبر مسؤوليها وجيشها، قطاع غزة بحرب مقبلة قالت إنها باتت قريبة جداً، بعد تقلص إمكانية نجاح جهود التهدئة مع حركة «حماس». التهديد الصادر أمس شمل أيضاً التلميح إلى عودة الاغتيالات وإمكان استمرار الحصار، مع إغلاق تام للمنافذ؛ ومنها معبر رفح مع مصر ما لم يخضع الفلسطينيون للشروط الإسرائيلية.وأطلقت مصادر أمنية إسرائيلية تحذيراً يحمل في مضمونه تهديدات مباشرة حول إمكان نشوب الحرب مع غزة بعد تجميد أو مراوحة التفاوض حول التهدئة وشروطها، في ظل عناد الأطراف. ونقلت في تسريبات إلى الإعلام العبري (صحيفة «معاريف») أن «المعطيات الميدانية تؤكد اقتراب التصعيد والمواجهة... بعد تراجع فرصة نجاح المفاوضات التي باتت مقلصة». تحذيرٌ يربط بين تجميد التفاوض على التهدئة، وبين شبه حتمية المواجهة مع القطاع، وهو رسالة واضحة جداً من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لـ«حماس»، بأن أي خطوة ميدانية تصعيدية تعقب تعرقل التفاوض من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة.
مع ذلك، أكد رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في مستهل الجلسة الأسبوعية أمس، أن إسرائيل «تعمل على إبعاد الحرب، لكن إذا اضطرت إليها، فإنها ستعمل على الانتصار بأقل خسائر ممكنة». هذا الموقف، وإن جاء في مناسبة حرب 1973، فإنه يتساوق مع الوضع المتأزم في غزة، في إشارة إلى أن إسرائيل التي لا تريد الحرب والمواجهة مع القطاع لن تتردد في خوضها إن اضطرت إليها.
أما عضو «المجلس الوزاري المصغر» (الكابينت)، الوزير غلعاد أردان، فقال إنه يرى إمكانية تجدد القتال على نطاق واسع مع القطاع ربطاً بالتطورات الأخيرة، وكذلك تقلص إمكان نجاح التهدئة. وأضاف أردان في مقابلة مع الإذاعة العسكرية، إنه «إذا أعادت حماس إشعال المنطقة، فعلينا العودة إلى الاغتيالات (بحق قادتها)».
وتأتي هذه التصريحات في موازاة استمرار الحصار على غزة من جهاته الثلاث: إسرائيل والسلطة الفلسطينية والجانب المصري، الأمر الذي لا يترك مجالاً لـ«حماس» وفصائل المقاومة غير الثبات على الموقف، ثم البحث عن روافع ضغط من شأنها إعادة تعيين الموقف الإسرائيلي وشركائه في الحصار، وهو ما يفسر التهديدات الإسرائيلية الهادفة إلى الحؤول دون تحرك الفصائل للضغط المقابل.
لا يعني كل ما ورد أن فرضية الحرب الواسعة باتت منتفية بالمطلق


وكانت تسريبات في الإعلام العبري قد أكدت ما يمكن التشديد عليه بداهة، وهو شراكة كاملة من الجانب المصري في التحرك للضغط على غزة والفصائل لدفعها عن التراجع عن مواقفها والرضى بتقليص جزئي للحصار على ما كان عليه قبل التصعيد الأخير، ضمن معادلة الهدوء مقابل الهدوء، بلا مكاسب. ففي موقع «المونيتور» بنسخته العبرية، وكذلك في موقع «واللا» الإخباري، هدد الجانب المصري «حماس» بأنها ستدفع الثمن غالياً في حال تجدد التصعيد بجانب إغلاق معبر رفح كلياً. لذلك، تعد التصريحات الإسرائيلية، وكذلك التسريبات حول الموقف المصري التي لا تخلو من وجه صحة دون أن يرد حوله نفي من القاهرة، جزءاً لا يتجزأ من الموقف الواجب اتخاذه بتقدير من الطرفين تجاه مرحلة تجميد مساعي التهدئة مع غزة، في مسعى منهما لإيقاف وردع مسبق لأي تصعيد مقبل من شأنه إعادة الأمور إلى مرحلة ما قبل وقف النار غير المعلن بين الجانبين.
في الموازاة، تسعى إسرائيل عبر التهديد بالحرب وعودة الاغتيالات إلى دفع «حماس» إلى الاكتفاء بما أنجز، إن كان تعبير «الإنجاز» دقيقاً، لإنهاء الاحتجاجات على الحدود والبالونات الحارقة، وكذلك ما بدأ يتفعّل عسكرياً وأمنياً من جانب الفلسطينيين على الحدود، كزرع العبوات وغيرها، وفق الرواية الإسرائيلية. فهل يرضخ الفلسطينيون فعلاً للتهديد؟ وهل تنتظر إسرائيل فعلاً أن يرضخوا؟ لكن عملياً، لم يكن الحراك الفلسطيني على مدى الشهور الماضية من أجل فتح «معبر كرم أبو سالم» أو توسيع نسبي لرقعة الصيد البحري، وإلا كان بالإمكان الحصول على هذه الجزئية من رفع الحصار بأثمان مقلصة جداً.
لذلك، هذا المستوى من التصعيد الكلامي بين الجانبين، وكذلك التصعيد الميداني الذي جاء في حد مضبوط، هو تكملة ونتيجة طبيعية لتجميد التفاوض في القاهرة بين إسرائيل وشركائها من جانب، وبين الجانب الفلسطيني في غزة. والواضح أن الأمور وصلت إلى حد لا يسمح بالتسوية بين المطالب المتناقضة، وتحديداً الحد الذي يمكن أن تتنازل فيه إسرائيل وتتراجع عن حصارها، مع طلب أن يكون تراجعاً مرتبطاً بأثمان تدفعها الجهات الأخرى المشتركة معها في الحصار على غزة، وتحديداً السلطة التي أثبتت أن عداؤها لـ«حماس» وخيار المقاومة كبير جداً وبلا حدود، إلى حدّ أنها لا تقبل التسويات المفضية إلى فك الحصار عن أكثر من مليوني غزي.
مع ذلك كله، هل تتجه الأوضاع بالفعل إلى ما تهدد به إسرائيل؟ سؤال طرح في السابق، ويطرح الآن، وحتى لاحقاً، والإجابة تتناسخ: لا مصلحة لإسرائيل، صاحبة القرار النهائي في نشوب الحرب، بنشوب أي حرب مع غزة. يعود ذلك إلى أسباب غير محصورة، أهمها أن اليوم الذي يلي الحرب لن يكون أفضل من الذي يسبق، إضافة إلى سلسلة من النتائج التي لا تتساوق مع المصالح الإسرائيلية في هذه المرحلة حيال قوس التهديدات المختلفة في ساحات تهديد أخرى.
الأكثر ترجيحاً هو أن للتهديدات الإسرائيلية وظيفة في منع التصعيد، عبر ردع «حماس» والفصائل الرديفة، وإفهامها مسبقاً أن روافع الضغط العسكرية والأمنية التي قد تسعى إليها في المرحلة المقبلة من شأنها أن تقود إلى مواجهة واسعة، وإلى عودة الاغتيالات دون ضوابط. لكن ما يعيب هذا التوجه، لجهة النتيجة، أن إسرائيل غير المعنية بالحرب تتحدث إلى «حماس»، غير المعنية كذلك بالحرب. وما يقلص فعالية هذا التوجه أيضاً أن كل جانب يدرك جيداً موقف الآخر من الحرب نفسها، مع التشديد على رفضها ومنع أسبابها، ما يسمح لهما، إسرائيل و«حماس»، بالتحرك بعيداً في إطلاق المواقف، ثم التصعيد الميداني كرافعة ضغط لتحقيق المكاسب السياسية المطلوبة.
مع ذلك كله، لا يعني كل ما ورد أن فرضية الحرب الواسعة باتت منتفية بالمطلق، وهو ما لا يمكن فعله رغم عدم ترجيح نشوبها. فهل تستخدم إسرائيل كل ما لديها كي تجبر الفلسطينيين على التراجع، فتكون في الوقت نفسه قد وصلت إلى الحد الذي لا يمكن للفلسطينيين تحمله، أم يلجأ الفلسطينيون أنفسهم إلى استخدام ما يزيد على قدرة تحمل إسرائيل؟ كل الاحتمالات واردة نظرياً، وإن كان الأكثر معقولية أن للتهديدات المتبادلة بين الجانبين، في هذه المرحلة تحديداً، وظيفة ردعية لمنع المواجهة الواسعة التي يُهدد بها.