غزة | يمكن أن تستبدل لوحات «أهلاً بكم في رفح (المصرية)» إلى «أهلاً بكم في الذل»، مع أن رحلة المعاناة تبدأ من قبل ذلك بكثير: أولاً تسلسل تسجيل السفر لدى «حماس» الذي قد يمتد الانتظار فيه إلى عام أو أكثر، ثم انتظار دور الحافلة لدى الجانب الفلسطيني (تديره السلطة منذ أقل من سنة)، ثم دخول الجانب المصري الذي صار النوم فيه ليلة تقليداً معتاداً، فيما صار خبر إرجاع عشرة ثابتاً مع تغير الرقم إلى 40 أو 50 مرجعاً في اليوم! كل ذلك يجري على أن المعبر مفتوح والعمل فيه يومي.سلسلة طويلة من الانتهاكات لأدنى الحقوق البشرية تمس الخارجين من غزة والعائدين إليها أيضاً، توثقها شهادات متتالية إضافة إلى صور ومقاطع مرئية يلتقطها المسافرون بهواتفهم المحمولة، ما جعلهم في مرات كثيرة عرضة للتفتيش والمصادرة والضرب بسبب وصول مناشداتهم عبر «فايسبوك» إلى آذان المسؤولين. وعلى رغم تبديل الطاقم المسؤول عن إدارة الجانب المصري في المعبر، من ضباط استخبارات ورجال أمن، مرتين طوال الأشهر الثلاثة الماضية، لم يخفف ذلك وطأة المعاناة.
تشرح مصادر فلسطينية مطلعة أن ما يحدث هو «رد فعل» من مستويات دنيا ووسطى في الأجهزة الأمنية المصرية على قرار فتح المعبر بصورة متواصلة خلال الشهور الماضية، لأن ذلك حرمهم مئات الآلاف من الدولارات التي كانوا يجنونها عبر قوائم «التنسيق» (راجع العدد جريدة 3334 في 27 تشرين الثاني 2017)، وهم بذلك يدفّعون المسافرين الثمن مضاعفاً بإهانتهم واستغلالهم مالياً، والأكثر وضوحاً هو العمل ببطء شديد على المعبر لإدخال أقل عدد يومياً.
ومن جهة أخرى، تتواصل حالات المنع الأمني والخوف من الخطف في الطريق (راجع العدد 3449 في 23 نيسان)، على رغم أن العلاقات «تحسنت» بين مجمل الفصائل الفلسطينية وجهاز «الاستخبارات العامة» المصرية، فإن أياً من هذين الملفين لم يحلّا بعد. والأسوأ أن سياسة الترحيل مستمرة، وهي القاضية بمنع دخول المسافرين إلى مصر وتسفيرهم في حافلة خاصة مع منسق من السفارة الفلسطينية يحمل جوازات سفرهم معه وتحت حماية الجيش، بل توسع هذا الأسلوب ليشمل فئات جديدة. فبدلاً من اقتصاره على الشباب من عمر 18 حتى 40 الخارجين إلى دول أخرى، فإنه صار يشمل عائلاتهم إذا كان أحدهم مع عائلته أو معه زوجته وأطفاله، كما يشمل أصحاب «الجوازات المصفّرة» (راجع العدد نفسه)، والنساء والرجال من فوق الـ40 إذا قرر ضابط الاستخبارات ذلك.

الترحيل كـ«سجناء»
المعاناة واحدة في حالات الترحيل، أكان ذلك في معبر رفح أم مطار القاهرة. مثلاً المعبر يفتقد أي تجهيزات لنوم المسافرين فيه، فضلاً على أن القمامة تصل في بعض الحالات إلى ارتفاع أكثر من 20 سم، وإذا أراد أحد تنظيف المكان، فعليه الدفع للموظفين من أجل تنظيف المكان الذي سيفترشه، ثم سيبقى ساهراً طوال الليل لإبعاد البعوض والحشرات المتجمعة بسبب القمامة عن أبنائه. أما في المطار، فلا شك أن مستوى النظافة أفضل، لكن الترحيل يعني الحجز في غرفة مهملة ومتسخة وقليلة الإضاءة والتهوية، ويكاد الخروج منها شبه مستحيل، فيضطر المسافر المرحّل - الذي قد يبيت أياماً في هذه الغرفة - إلى دفع عشرات الدولارات من أجل دخول الحمام، أو استخراج حقائبه التي لم يستطع الوصول إليها لأنه لم يختم له بالدخول إلى مصر، بدلاً من إيجاد آلية لتسليمهم حقائبهم التي هي حق لهم. ويمتد ذلك ليشمل تصريف الأموال وإجراء المكالمات وأي طلب آخر، ليكون الاستغلال هو الأساس في العلاقة.
أضيفت معاناة جديدة تتمثل في النوم ليلتين أو أكثر على قناة السويس


تتنوع حالات المرحلين في المكانين، المعبر والمطار، وقصصهم، لكن جزءاً من قرارات الترحيل استنسابية بالنسبة إلى الضباط المصريين، وتقوم على فكرة تخفيض عدد الداخلين إلى مصر بصورة عادية وإكثار الترحيل. وبما أن المسافر مصادر الجواز، فهو مصادر الإرادة والحرية، ومن هنا تبدأ رحلة الاستغلال المتصاعدة، لأن الحصول على أي من الماء أو الطعام، أو حتى دخول الحمام، يحتاج إذناً من الضباط وسائق الحافلة، والأخير يلزم المسافرين جمع مبلغ إضافي له من أجل السجائر والطعام، لكن الأسوأ أن أي تأخير يعني مضاعفة إيجار الحافلة. فإذا كان الاتفاق على 500 جنيه (30 دولاراً أميركياً) على الكرسي الواحد للتوصيلة، فإن تأخير يوم يعني دفع 500 أخرى حتى لو كانت الحافلة متوقفة في مكانها. وعلى مدى أربعة إلى خمسة أيام في طريق لا تستحق سوى 8 ساعات سفر، تتضاعف التوصيلة إلى حدّ كبير، خصوصاً لمن معه عائلته.
وفي ظل الأجواء الحارة المعروفة بها شبه جزيرة سيناء ومصر عموماً، يكون الاتفاق على تشغيل المكيف ضمن السعر المدفوع، لكن سائقي الحافلات يخالفون هذا الاتفاق ويستقوون على المسافرين بما أنهم مسلوبو الإرادة في اختيار من ينقلهم، كما أن مندوبي السفارة الفلسطينية لا يستطيعون التدخل في هذه الحالة. ووصل الأمر إلى حدّ أن يكون الجلوس في ممر الحافلة مدفوعاً بنفس سعر الكرسي. كما وصلت شكاوى عدة حول كون سائقي الحافلات من متعاطي الحشيش والحبوب، وهو ما يمس سلامة المسافرين بصورة كبيرة.
وإذا كانت هذه المعاناة داخل الحافلة فقط، فإن حواجز الجيش المنتشرة (راجع عدد 3173 في الثاني عشر من أيار 2017) التي يتجاوز عددها عشرة على طول الطريق بين قناة السويس ورفح المصرية تزيد معاناة السفر أضعافاً مضاعفة. فصحيح أن السرقات انخفضت وتيرتها عما قبل جراء الشكاوى المتواصلة، لكن مصادرة الدخان والمعسل والأجهزة الإلكترونية المغلقة متواصل. والأخطر أنه بسبب حظر التجوال في سيناء (ما بين السادسة مساء حتى السادسة صباحاً) يجعل المسافرين مجبرين على التوقف عند أول حاجز يصلونه قبيل السادسة مساء، وهو ما جعل كثيرين منهم عرضة لإطلاق النار الذي يستهدف هذه الحواجز بصورة كبيرة، كما يجعلهم محجوزين داخل الحافلات طوال الليل من دون إمكانية للمغادرة لأي سبب كان. حتى أن بعض المسافرين قصدوا مسجداً للمبيت فيه وقضاء الحاجة، فعمد الجنود إلى طردهم منه وإبقائهم في الشارع. وفي مرات أخرى حاولوا الوصول إلى استراحات داخل مدن مثل العريش أو الشيخ زويد، لكن الجيش لاحقهم وأجبرهم على العودة إلى حافلاتهم بعدما صوب الأسلحة إليهم بدعوى أن حظر التجوال يخوله إطلاق النار عليهم لتحركهم في هذا الوقت.
وعامة يبقى أسوأ الحواجز سمعة هو «الريسة» في العريش، حيث يجرى تفتيش دقيق يمتد من ساعتين إلى ثلاث تفرغ خلالها كل محتويات الحقائب، ويدقق فيها في جوازات الخارجين أو العائدين، وهي الحالة التي تتكرر ولو بصورة أقل في بقية الحواجز، ما يمثل إرهاقاً كبيراً على المسافرين.

إضافة معاناة جديدة
منذ بدء العمل بالصيغة الجديدة على معبر رفح، تزايدت حركة المسافرين الفلسطينيين وأيضاً معاناتهم. وهذه المرة أصبحت رحلة العودة أكثر صعوبة، إذ توجد على قناة السويس منطقة تسمى «معدية الفردان»، وهي حاجز تفتيش قبل صعود السيارات والحافلات عبر عبارات تنقلها إلى الجانب الثاني من القناة، وكذلك بعد نزولها تفتش مرة أخرى. وتعمل «المعدية» من الثامنة والنصف صباحاً حتى الثالثة والنصف ظهراً، لتدخل بكل بطء ثلاثين مركبة يومياً، في حين أن طاقتها الاستيعابية أعلى من ذلك بأضعاف، وهو ما يضطر المسافرين إلى المكوث ليلتين أو ثلاثاً بانتظار أن يأتيهم دور العبور. وعندما تزايدت الشكاوى من الوضع المتأزم هناك، وبدأت المناشدات تتسع، اعتدى جنود من الجيش على المسافرين وصادروا منهم الهواتف المحمولة وعملوا على تفتيشها.
وفي ظل الضغوط المتواصلة، خصوصاً العالقين بين المعدية ومعبر رفح، تقرر عمل المعبر أمس، من أجل رجوع وفود الفصائل الفلسطينية التي كانت موجودة في القاهرة لإجراء محادثات منذ أيام، وكذلك إدخال العالقين داخل سيناء، فيما على العالقين عند المعدية العودة إلى مصر إذا كان مسموحاً لهم ذلك، أو البقاء هناك على ضفة السويس بانتظار انتهاء العيد... والفرج.