إسرائيل غير معنية بنشوب حرب مع قطاع غزة. هذه حقيقة باتت خارج التقدير والتحليل. وهي أيضاً إحدى أهم نتائج جولات التصعيد المحدودة والمتكررة أسبوعياً بين الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية. حقيقة تحرص عليها إسرائيل في موازاة استخدام فلسطيني مقابل، يُستخدم هذا «الحرص»، في محاولة لفك الحصار أو تقليصه، عن قطاع غزة.أسباب امتناع إسرائيل عن مباشرة الحرب تتعلق بتداعيات الحرب نفسها، وأثمانها ونتيجتها المحدودة في التوصل إلى واقع تهديدي مقلص، لكن في الوقت نفسه، تنشغل إسرائيل كذلك بمواجهة التهديد الشمالي مع الساحتين اللبنانية والسورية، حيث لا تقارن تهديداته بتهديد الجبهة الجنوبية، رغم أن خطورة اندلاع مواجهة واسعة فيها، مرجّحة أكثر بكثير من الشمال. وتدرك الفصائل الفلسطينية حقيقة الموقف الاسرائيلي وأسبابه، مع إدراكها أيضاً حدود فاعلية هذه الأسباب، الأمر الذي يفسّر إقدامها على الرد على اعتداءات إسرائيل، وكذلك يفسّر أن ردود الفعل مدروسة وموجهة وغير منفلتة. من يبلور القرارات في غزة، يدرك أيضاً أن المواجهات والتصعيد المحدود لو جاءا في ظرف مغاير، زماني تحديداً، لكانت ردود الفعل الإسرائيلية مغايرة وربما منفلتة، رغم كل الأسباب المانعة، وتبعات المواجهة الواسعة مع القطاع.
في المقلب الإسرائيلي، تصرّ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على منع التصعيد الشامل، وتدفع أيضاً باتجاه إيجاد تسوية سياسية ما، من شأنها أن تمنع هذا التصعيد. للمؤسسة الأمنية جملة اعتبارات تدفعها إلى هذا التموضع، باتت واضحة جداً. مع ذلك، تتداخل التجاذبات الداخلية والمواقف المتعارضة بين أطراف وشخصيات المؤسسة السياسية في تل أبيب، في مزايدات على محاباة اليمين، تطرفاً ضد الفلسطينيين. مع ذلك، المؤسسة السياسية تنصاع في نهاية المطاف إلى رأي وتقدير المؤسسة الأمنية بضرورة التهدئة، التي تدفع إليها في كل ما مرة يتجه فيها الميدان إلى تصعيد، وإن كان محدوداً.
موقف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الساعي إلى التهدئة ضامن إلى الآن أن لا يتطور التصعيد، وإن تكرر، إلى مواجهة واسعة، لكنه غير قادر، كما يبدو إلى الآن أيضاً، على أن يدفع إلى «تسوية» سياسية ما، تتضمن تنازلات إسرائيلية فعلية تجاه القطاع، هي لزوم منع التصعيد نفسه وإمكاناته، بعد أن وصلت الأمور في غزة إلى الحد الذي لا تجد الفصائل معه شيئاً تخسره، في حال الانتقال إلى التصعيد الكلي.
في المقلب الثاني، بات بالإمكان القول، والتشديد على القول، إن فصائل المقاومة الفلسطينية نجحت في وضع حصار غزة، وضرورة العمل على إلغائه أو تقليصه تقليصاً ملموساً، على رأس جدول الأعمال الاسرائيلي، كما دفعت المؤسسة الأمنية نفسها إلى تبنّي هذه الرؤية وكذلك اطرافاً اقليمية ودولية. نجاح احتاج إلى الكثير من الجرأة والشجاعة والتضحيات، وإلى فهم عميق للموقف الإسرائيلي ومحركاته وعوامله، والى الظرف الحساس جداً لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وتموضع تركيزها على الجبهة الشمالية، حيث التهديد والخطورة لا يقاسان بما عليه الوضع في الجبهة الجنوبية مع غزة.
وإذا كانت هذه هي محددات المشهد الميداني، وتبعاً له السياسي، في قطاع غزة وإزاءه، بات بالإمكان فهم تأسيسات جولات التصعيد وكيفية التعامل معها وكذلك التنبؤ بنتائجها، مع إدراك خطورتها أيضاً، رغم حرص أطرافها على منع التصعيد الشامل.
وكانت جولة التصعيد ما قبل الحالية أنتجت ديناميكية ورؤى لحل تسووي كاد يفضي إلى تهدئة مع حلحلة معقولة جداً إزاء حصار الفلسطينيين في القطاع. ورغم اختلاف التسريبات حول البنود العامة لهذه التسوية، لكنها في المحصلة تتضمن تنازلات إسرائيلية، وكذلك إقليمية، من شأنها أن تقلص حصار غزة إلى الحد الذي يمكن للفصائل الفلسطينية الموافقة عليها، مع سلة تنازلات مقابلة يمكن التعايش معها فلسطينياً. اعترض «الصفقة» كما كادت تتبلور في خطوطها العامة، جزء من التفاصيل التي تحولت بفعل المزايدات الإسرائيلية الداخلية إلى بنود رئيسية، وكذلك إرادة توسعة هذه التسوية لتشمل أسرى ومعتقلين. رعونة ومزايدات إسرائيلية بينية، أثّرت على المفاوضات، وأطالت جولاتها.
قبل التصعيد الحالي، كان بالإمكان القول، رغم الرعونة والمزايدات في تل أبيب، إن المفاوضات كانت بين أخذ ورد طبيعيين، مع محاولة إسرائيل دفع الفلسطينيين إلى تنازلات تفيض عن تنازلاتها بأضعاف، إلى أن اعترض التفاوض اعتداء الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين واستشهاد مقاومين اثنين. اعتداء، شاء المعتدون أو المعتدى عليهم أو لم يشاؤوا، بات جزءاً لا يتجزأ من المفاوضات نفسها، حيث ردّ فعل الفصائل في غزة على الاعتداء سيُعَدّ معطى يدفع الإسرائيلي إلى التراجع أو إلى مزيد من المطالب في المفاوضات الجارية. معنى ذلك، أن انكفاء الفصائل عن الرد على الاعتداء كان سيعتبر من ناحية إسرائيل موقف ضعف يؤثر على المفاوضات نفسها، فيما الرد سيعزز من الموقف الفلسطيني التفاوضي، وإن كان من شأنه أن يتسبب في تصعيد أمني، مهما كانت تداعياته اللاحقة.
يقدّر للتصعيد الحالي أن ينتهي بوقف لإطلاق النار على غرار جولات التصعيد التي سبقته، هذا إن لم يعترض هذا التقدير ما من شأنه الدفع إلى تصعيد واسع، رغم أرجحيّته المتواضعة. وقف لإطلاق النار، من شأنه أن يعيد فتح باب المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها، مع استئناف أو من دونه، للرعونة التفاوضية الإسرائيلية، في مراحل التفاوض الأولى ما بعد وقف إطلاق النار.
هي إذن مفاوضات، بين إسرائيل والفلسطينيين، نجحت الفصائل الفلسطينية في الدفع إليها وتركيزها على رأس سلم أولويات إسرائيل، في استغلال واضح وجريء لظروف تل أبيب وانشغالاتها الاستراتيجية. مفاوضات قد تسفر، وقد لا تسفر، عن نتائج تتعلق بفك الحصار عن غزة، أو جزء كبير منه. إصرار الفلسطينيين وجرأتهم، وتمسّكهم بخياراتهم وإصرارهم عليها، من شأنها أن تجبر الإسرائيليين، وحلفاءهم الإقليميين، وأيضاً جزءاً من الداخل الفلسطيني، على الانصياع وتحقيق مطالب غزة، التي ما كان يمكن الرهان على تحققها لولا خيار المقاومة وصدّ الاعتداءات الإسرائيلية، وإظهار الندية أمام الاحتلال.