يأتي توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم إلى العواصم الأوروبية الثلاث: لندن، باريس وبرلين، التي تمثل ثقلها الرئيسي، بعد المسارات التي بدأت تتبلور في أعقاب خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات تصاعدية ضد إيران. وتتمحور المباحثات التي ينوي إجراءها مع قادة هذه الدول – من ضمن عناوين متعددة –، حول الملفين الأساسيين اللذين يحتلان رأس اهتمامات المؤسستين السياسية والأمنية: مستقبل البرنامج النووي الإيراني ومآلات الوضع الإقليمي، لما يترتب عليهما من نتائج وتداعيات تتصل مباشرة بمكانة إسرائيل الاستراتيجية وأمنها القومي. وأوضح نتنياهو خلال افتتاح جلسة الحكومة، أن «التركيز سيكون على إيران، أولاً وقبل كل شيء على مواصلة كبح برنامجها النووي، وأنا بالطبع سأشدد على الحقيقة غير القابلة للتغيّر: إسرائيل لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي». وتابع أن القضية الثانية التي سيبحثها هي كبح ما يسميه «الخطط التوسعية والعدوانية لإيران في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها في سوريا»، في إشارة إلى التهديد الذي تشكّله على الأمن القومي الإسرائيلي. ولذلك أوضح بشكل صريح ومباشر «هنا سأصر على المبدأ الأساسي: إسرائيل تحتفظ وستواصل المحافظة على حرية عملها ضد التمركز الإيراني العسكري في كل منطقة في سوريا». ولفت أيضاً إلى أنه تحدث بشأن هذه المواضيع في الفترة الأخيرة، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومع وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، واصفاً إياها بأنها «محادثات مهمة جداً لأمن إسرائيل».تكمن أهمية تصدي نتنياهو لهذه المهمة بنفسه، في كون الموقف الأوروبي بات مفصلياً في تحديد مستقبل الاتفاق، وأيضاً في مدى نجاح إحكام الطوق الاقتصادي الذي تعمل عليه تل أبيب وواشنطن ضد الجمهورية الإسلامية. وترى تل أبيب أن هناك أرضية واسعة لإمكانية إقناع أوروبا أو إخضاعها للخيار الذي تسلكه واشنطن، وصولاً إلى توحيد جبهة المعسكر الغربي حول الخيار الذي تنتهجه إدارة دونالد ترامب، ومنع الانقسام الذي لن تستفيد منه إلا طهران وحلفاؤها. وتتشكل أرضية الإقناع، بالاستناد إلى المواقف والتقديرات السائدة في تل أبيب، من كون الدول الأوروبية تتفق معها ومع الولايات المتحدة حول ضرورة مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، والحد من تطورها الصاروخي. لكن في المقابل، ترى الدول الأوروبية أن لا بديل من الاتفاق النووي لكبح تقدم إيران في هذا المسار، وتخشى من أنّ أي محاولة لفرض صيغة أخرى ستؤدي إلى انفجار اقليمي واسع. أما أرضية الإخضاع، فتنبع من رهان تل أبيب على أن تداخل المصالح الاقتصادية الأوروبية مع الولايات المتحدة سيحول في نهاية المطاف دون تفردها في قرار مفصلي واستراتيجي بهذا المستوى ضد الجمهورية الإسلامية. ولم يخفِ المسؤولون الإسرائيليون رهانهم على موقف أميركي حازم يصل إلى حد فرض عقوبات قاسية على الشركات الأوروبية التي ستعارض الخيار الأميركي ضد إيران. واستناداً إلى هذه الرؤية، يسود التفاؤل في تل أبيب إزاء الخاتمة التي سينتهي إليها هذا المسار.
تأتي زيارة نتنياهو أيضاً، في مقابل المساعي الإيرانية التي يبذلها وزير الخارجية محمد جواد ظريف، والتي تهدف الى انتزاع ضمانات عملية أوروبية تتصل بالجانب الاقتصادي بشكل رئيسي، إضافة إلى بعض المطالب الأخرى، أو على الأقل استنفاد هذا المسار بهدف محاولة حسم الموقف الأوروبي كي يتطابق الموقف السياسي المعلن مع الأداء الاقتصادي إزاء إيران.
رغم الدور الذي يحاول نتنياهو أن يقوم به، بأن يبدو كما لو أنه يملك التأثير الحاسم في هذا المسار، إلا أن النتائج المفترضة لهذه المباحثات وغيرها مرتبطة بالدرجة الأولى بنظرة القادة الأوروبيين إلى الخيارات الأميركية الفعلية، وتقديرها للأثمان التي ستجبيها من خلال البديلين المطروحين أمامها، إما الالتزام بضمانات عملية مع الجمهورية الإسلامية، أو الالتحاق بالخيار الأميركي.
مع ذلك، إحدى نقطة الارتكاز التي تستند إليها المقاربة الإسرائيلية حول الخيار الواجب اتباعه في مواجهة محور المقاومة، بعد الانتصارات التي توالت في العراق وسوريا ولبنان، أنه ثبت بالتجربة أن فك الطوق الاقتصادي الدولي حول إيران، نتيجة الاتفاق النووي، منحها هامشاً واسعاً في دعم حلفائها ووفّر لها قدراً من الاستقرار الاقتصادي ويمهد الطريق أمامها لتحقيق المزيد من التطور على المستويات الداخلية والعسكرية والإقليمية. في ضوء ذلك، من الواضح أن نتنياهو سيقدم مفاعيل استمرار تصاعد إيران ومحور المقاومة في المنطقة، على أنه يشكّل خطراً على أوروبا ونفوذها في المنطقة، فضلاً عن التهديد الذي تشكله إيران وحلفاؤها على النفوذ الأميركي وعلى الأمن القومي الإسرائيلي. ويستند المنطق الإسرائيلي إلى نقطة قوة إضافية في مقابل الطرف الأوروبي أن الالتحاق بالخيار الأميركي يأتي بعد فشل الخيارات البديلة في العراق وسوريا، والتي كان يراهن من خلالها على تطويق حزب الله تمهيداً للانقضاض عليه، وتطويق الجمهورية الإسلامية، وإطلاق يد إسرائيل في المنطقة.
في كل الأحوال، تبقى زيارة نتنياهو محطة في سياق الحراك الإقليمي والدولي الذي تشهده مرحلة ما قبل حسم واقع الاتفاق النووي، والعقوبات الاقتصادية على إيران، وفي ضوئه قد تتشكل معادلات وقواعد جديدة في الصراع، مغايرة كلياً للمرحلة التي سبقت، ومن أبرز معالمها أن إسرائيل والولايات المتحدة قررتا رفع منسوب انخراطهما المباشر في المواجهة بأدوات وتكتيكات متعددة. وما خروج الولايات المتحدة من الاتفاق وفرض عقوبات على إيران وحزب الله، وليلة الصواريخ عبر جبهة الجولان... والحراك السياسي والدبلوماسي للأطراف جميعها مع أوروبا، إلا عناوين فرعية للمرحلة الجديدة التي دخلها الصراع في المنطقة، بعد فشل الرهان على دور الجماعات التكفيرية في الساحتين السورية والعراقية.