وفق بودريار وديبور، ما يجذبنا نحو الأحداث المفجعة في مجتمع الصورة، هامشي، أو غير أساسي. ففي حادثة السفارة الإسرائيلية في الأردن، كانت لحظات الاستغراق الأكبر في تفكيك خيوط الحادثة، باعتبارها مشهداً سينمائياً مثيراً للشكوك والاستقراء والتفكير والتخمين... كيف جرت عملية القتل، ما السبب وراءها، ما هي طبيعة العلاقة التي جمعت بين العناصر البشرية للقصة، بين قاتل وضحيتين؟ نال ذلك النصيب الأكبر من الشعور العام.
لا يمكن القول إن الشعور العام المقاوم في الأردن بخصوص الصراع مع الكيان الصهيوني قد تلاشى، ولكن ما يمكن الجزم به أن هذا الشعور ما زال يتعرض لهزات واحتواءات يديرها النظام الرسمي، هزات من ابتكاره أحياناً، أو نسخ من تلك التي ينتجها النظام العالمي أساساً.
إعلام التسلية الرائج يصوغ أذهان البشر ضمن منطق واحد، وهذا المنطق تحت التكرار المستمر، والتعرض المستمر لقصف إعلام التسلية. يتلقى لاحقاً الأحداث المفجعة على وتيرة الاستجابة نفسها دون إحساس عميق بعمليات التفكيك التي لحقت بأصحابه من الداخل.
إعلام التسلية ودعاية الأمن والأمان، وأكذوبة السلطة «الذكية» المتحاذقة لحماية البلد الآمن في وسط ملتهب، جميعها جعلت الشعور العام المقاوم شعوراً فقط لا يحال إلى فعل. وهذا الشعور الذي لا يحال إلى فعل هو شعور حدثي طارئ، لحظي أو موسمي، والأهم أنه مفكك وغير منهجي أو شامل.
فحتى يصبح هذا الشعور منهجياً ومستمراً، لا بد أن يربط بعداء يومي للكيان الصهيوني، ولا بد أن يربط بالتضامن اليومي مع الأسرى، وبالتفكير اليومي لتحرير الأرض المغتصبة... وكل هذا يتطلب ممارسة يومية، وبيئة حاضنة من الصدامات العملية المتكررة مع الكيان الصهيوني. هذا ما تمنعه السلطة في الأردن وتحاول دائماً تجنبه والبقاء بعيداً جداً عن تخومه، بعيداً عن نمط الحياة اليومي القائم على بغض الاحتلال ومحاولة تحرير الأرض.
ولكي يصبح هذا الشعور متماسكاً وغير مفكك ومعزول، لا بد من ربطه بالأحداث الأخرى التي تدور في الفلك نفسه. لقد تزامن فعل القتل للأردنيين، مع إصدار الحكم على الجندي الأردني معارك أبو تايه بالسجن المؤبد، ولم يكن ذلك ازدواجاً في المعايير، إنه المعيار نفسه الذي أنتج الحدثين، فمعيار السلطة واضح ومتماسك، والحكم الأخلاقي عليه واضح أيضاً.
... رائد زعيتر وحادثة السفارة ومعارك أبو تايه، وقبلها جميعاً وادي عربة، هي أمثلة فقط، ليست انعطافات تاريخية، وليست طفرات، وليست لحظات استثنائية، كذلك فإنها ليست أحداثاً متفرقة، يعالج كل منها بخبر مستقل ورواية مستقلة تماماً.
قد تكون السلطة معنية أحياناً بجعل هذه الأحداث حالات استثنائية مستقلة، وتمارس ردود فعل صورية لتأكيد ذلك، فهي تغطي الصورة السائدة في خروج القاتل آمناً من حدود البلاد بتصنيع حدث استثنائي في الضغط على الكيان الصهيوني لإزالة الكاميرات والحواجز الإلكترونية (من المسجد الأقصى) والمطالبة بتقديم القاتل إلى المحاكمة في المحاكم الإسرائيلية.
الصورة الكلية، التي صنعتها السلطة للأردنيين، أنهم الأبعد عن الاشتباك، مع أنهم الأقرب إليه جغرافياً، ونجحت في منع إحالة الشعور العام المقاوم إلى فعل مقاوم، عبر إعلام التسلية ودعاية الأمن والأمان، والسياسة «الذكية»، وصناعة الأحداث الاستثنائية.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن وادي عربة كانت نتيجة ولم تكن حدثاً تاريخياً، وسبقها الكثير من التمهيدات على هذا النحو، ومنها الاتصالات العسكرية بين الجيشين.
ما يلزم الأردنيين للخروج من هذه الأزمة المزيد من أجواء الاشتباك التي قد تحوّل الشعور العام الكامن إلى فعل، وهذا ما ستحاول السلطة تجنبه دائماً. حادثة السفارة هي مثال على الموقف التاريخي للسلطة في الأردن، ولكنها في الوقت نفسه مثال آخر يوقف اتساع أوهام الحياد، وأوهام الأمان من مرمى النيران.
ابن الخليل وابن مأدبا كانا ضحية فعل القتل الصهيوني. الجغرافيا تنتقم من أكاذيب الإعلام.
إعلام التسلية في عالم السياسة هو نوع من أنواع إحالة الكارثة إلى سخرية لاذعة من الذات، وتحويلها إلى ما هو «مضحك». لاحظوا أن حجم المشاركات للمواد المصورة ومواقع تحريف الأخبار واختراعها أكبر بكثير من الإنتاجات الجادة «الجافة»، والمستندة إلى رؤى أيديولويجية أو تحليلات علمية.
إعلام التسلية يحفز أيضاً أحداث التسلية الواقعية، ومن ذلك دعوة النائب الأردني يحيى السعود، عضو الكنيست وحزب «الليكود»، إلى التعارك بالأيدي. ولم تكن حادثة التسلية تلك إلا تعبيراً آخر عن إحالة الفاجعة إلى حدث سينمائي و«مسلٍّ»!