تقابل في حياتك الألوف من الأشخاص، إلا أن القليلين منهم يبقون راسخين في ذاكرتك.. بالنسبة إليّ: كان هو واحداً منهم.
■ ■ ■


قابلتهُ ذات مرة في مركز للأطراف الاصطناعية، بمدينة غزة: كان يحاول أن يتكيف مع ساقه المعدنية الجديدة، بعد أن تعطلت القديمة: كان وقتها في أوائل الثلاثينيات، جسده نحيل ذو بشرة نحاسية اللون، وقامته تميل إلى القصر. تأملني بتمعن، قبل أن يقول لي: "مش انتا وعيلتك كنتو ساكنين بمخيمنا زمان؟ مش متذكرني؟"، تذكرته أنا الآخر، لنتبادل عبارات الترحيب المعتادة في مثل هذه المواقف، والسؤال عن الأحوال من باب المجاملة.

لقد كان موظفاً في الشرطة، قبل أن تسيطر حركة حماس على قطاع غزة. كنتُ أمتعض من نعته لي وقتها بـ"الولد المثقف"، استهزاءً بحبي لقراءة الكتب منذ الصغر، فيما كان هو جزءاً من "شلة شباب" من هواة "الروقان"، والسهر ورحلات "الشوي" والتخييم أمام البحر. كم اعتبرته آنذاك مستفزاً وتافهاً!
كان قد أنهى استلام "ساقه الجديدة": استخدمها مراراً، قبل أن يقول: "ماشي حالها!". عرضتُ عليه بإلحاح تناول وجبة غداء خفيفة، بحكم حنيني لأيام سكني بالمخيم، ورغبتي في الاستماع إلى حكايات أزقته وحواريه الضيقة، ليقبل دعوتي في نهاية الأمر. عرضتُ عليه سيجارة من علبتي، فتقبلها شاكراً. تفرعت بنا الأحاديث، قبل أن يحدثني عن ظروف إصابته: "انتا بتعرف إني بأشتغل شرطي من زمان. من قبل ما تحكم حماس غزة. بعد ما رسبت في "التوجيهي" (الثانوية العامة - البكالوريا) مرتين، قررت إنو "بلا علم بلا كلام فاضي". قدمت بدورة شرطة، وقبلوني وأموري كانت تمام. أكيد انتا بتعرف إني متزوج. صح؟ وعندي ست أولاد!". (قالها بفخر للدلالة على فحولته!).
كان يستمتع بإطلاق الدخان على شكل حلقات من فمه، راحت تتعالى في فضاء المطعم الذي كنا فيه، قبل أن تبددها بلا رحمة المروحة الصدئة الملتصقة بالسقف، التي راحت تئن شاكية من العمل بلا انقطاع. التفت إلي وهو يكمل كلامه: "بعد ما مسكت حماس غزة، كنت بين نارين يا صاحبي: ايش أعمل؟؟ أجتنا الأوامر إنو ضلوا بالبيوت وما حدا منكم يداوم، ورواتبكم راح تضلوا تستلموها. لكن أنا فهمي للمسألة غير: أنا شرطي. لو بدهم القرود ييجوا يحكمونا لازمنا نضل نشتغل، لأنو احنا "الشرطة" لازمنا نكون محايدين وما إلنا دخل بحدا. بس انتا عارف الصحيح".

■ ■ ■


سحب بعدها نفساً عميقاً جديداً، أطلق بعدها الدخان من صدره: "قررت بهداك الوقت إنو أنزل ع الشغل حتى لو قطعوا راتبي. انتا بتعرفني منيح: ما إلي لا بالسياسة ولا بالتنظيمات. "بايعها يا حاج"! بس كمان ما بأعمل إلا بأحس إنو الصح، ولو قطعوا راسي. ومنشان هيك رحت رجعت ع الشغل لما مسكت حماس الوضع". كان يسترسل في حديثه، موضحاً لي كيف أقنع بعض أفراد "شلته القديمة" في المخيم، والذين التحقوا مثله في العمل بجهاز الشرطة بأن يستمروا بالبقاء على رأس عملهم، وأن يدربوا الأفراد الجدد الذين التحقوا بالعمل معهم.

قال لي ممتعضاً: "الله وكيلك كانت الأمور وقتها سَلَطة. قعدنا فترة منشان نفهمهم الوضع والأمور كيف ماشية، ونشارك في تدريب الشباب الجداد. لحد ما أجت "ضربة مدينة الشرطة" سنة 2008. الله يسامحو "الحاج"!".

- مين هاد؟

- الحاج توفيق جبر (قائد جهاز الشرطة السابق في حكومة غزة). قلناله الوضع بيخوف و"الزنانات" (الاسم المحلي للطائرات الإسرائيلية دون طيار) معبية السما، وفيه خطر ع الشباب، وكانت الهدنة مع "إسرائيل" مخلصة جديد، والقسام ضارب صواريخ خير الله عليها. لكنه أصر نكمل الدورات تبع الشرطة. كنت بأشارك في تدريب مستجدين في دورة من ها الدورات، وألاقي حالي طاير في الهوا مع القصف".
كانت الضربة شديدة وقتها: استشهد وأصيب على الفور العشرات من رجال الشرطة - والذين كانوا في معظمهم من المتدربين المستجدين - في "مدينة عرفات للشرطة"، ومن بينهم "صديقنا" بالطبع: "بعد ما راحت الغبرا و"زوبعة" القصف، لقيت حالي ممدد على الأرض ورجلي اليمين ممزعة من القصف. رجلي التانية كمان كانت بتوجعني بس وضعها كان أحسن بكتير. لقيت حالي بأكلم رجلي الأولانية وبأقولها: "انتي الله يسهل عليكي. راح تنقطعي"، أما انتي يا رجلي التانية، فانتي اللي باقيالي إن ضلينا "الطيبين" (الأحياء)".

■ ■ ■


شيئاً فشيئاً، راحت خطوط حكايته تتكشف أمامي أكثر: "تلفتت حوليي بعدها، لقيت الشباب غالبيتهم استشهدوا. الصاروخ أجا في نصهم بالضبط. شوي إلا هو جاي زلمة في الأربعينات، بيجري وراح يدور بين ها الشهدا، لحد ما لقى جثة شاب زغير وصار يبكي. طلع أبوه للشاب، والاتنين التحقوا بالشرطة جديد. بدوا شوية من الشباب الجرحى اللي زي حالاتي يصحصحوا، وبدينا نتشهد (نتلو الشهادتين) ونكبر ونهلل لحد ما أخدنا الإسعاف ع مستشفى الشفا".
توقف لثوانٍ. كانت عيناه مغروستان في السقف، وكأنه يستدعي تلك الذكريات للقدوم إليه: "عرفت وقتها إنو معظم "شلتي القديمة" استشهدت. في قسم الاستقبال بالمستشفى، بأتذكر الأهوال اللي شفتها من اللي صار بزملائي: شرطي منهم كان بيصرخ وهوه شايل إيده اليمين المقطوعة من القصف بإيده الشمال. واحد تاني كان شايل راس صاحبه المقطوع بين إيديه. واللي كان بيحكي مع جثة صاحبو اللي مددوها في الممر - لأنو ما كان فيه وسع في ثلاجات الموتى - وصار يبكي. أجاني خبر ساعتها إنو توفيق جبر كمان استشهد في القصف".
راح يحدثني عما جرى له بعدها: بتروا له ساقه اليمنى من أسفل الركبة، ثم أخذوه للعلاج في إحدى الدول العربية، قبل أن يعود إلى قطاع غزة مجدداً. بعد شهرين فحسب من عودته من العلاج في الخارج، فوجئ به الضابط المسؤول وهو يدخل إلى مكتبه، وهو يعرج بسبب ساقه الاصطناعية التي لم يعتد عليها بعد، طالباً منه العودة إلى الخدمة! سألته مندهشاً: "ليش عملت هيك؟".

- اللي قصفوني كان بدهم يدفعوني التمن غالي لأني قررت أخدم أولاد بلدي وناسي. بس أنا "راسي يابس" يا صاحبي. طلبت إني أرجع ع الشغل. حبوا يحولوني ع الشغل الإداري، قلتلهم: "انتوا بتحلموا". رجعت ع شغلي القديم، وهايني شغال لليوم. العمر واحد والرب واحد. بأطلب من الله شغلة واحدة بس: إنو يحفظلي أولادي ويعيني على تربايتهم منيح"!