نام طويلاً، لأشهر وسنوات عديدة، وكان صوت الشخير يقلق أطفال الجيران، لم يقدروا على النوم مثله لكنهم لم يعملوا على إزعاجه، فأكل وجباتهم المدرسية كل صباح، وكان يضربهم وقت الظهيرة، هي فقط الأوقات التي يستيقظ فيها، ليعج المكان بالفوضى واللعنات والويلات، ويعود لسريره العفن.
في ليلة ما، وبعد أن قام أطفال الجيران ببناء بيتهم الصغير والحالم، بيت ملون بقوس قزح، وركّبوا ألعابهم البسيطة ليرفّهوا عن أنفسهم قليلاً، وحملوا معهم وجباتهم من الزعتر وزيت الزيتون، وكأس الشاي بميرمية جبلية، سمعوا صراخ بعض جيرانهم، فتركوا كل شيءٍ وهبّوا لنجدتهم، هكذا، وقفوا بوجه الغول الكبير، ودافعوا عن ساحات أحلامهم الصغيرة، وانتصروا، وبعد أن عادوا ليغنوا بعض أناشيدهم الجميلة، ويشبكوا أصابعهم بكفوف أصدقائهم، وشعرهم الممشط بعناية يتراقص مع نسائم الهواء، استيقظ جارهم العفن فجرّ نفسه ككتلة من الدهون، وتدحرج مثل بالون من الغاز الفاسد نحوهم، ونثر غباره عليهم، ثم رمي بنفسه متمرغاً في بحر الطين ليغسل نفسه قليلاً من عفنه.
لبس بيجامة ملونة، ودعا أخوته الذين يشبهونه ليقضموا الأطفال الجميلين كالسكاكر، أمسكوا ببعضهم، وأخذوا يقرشون عظامهم الصغيرة، وشربوا من دمائهم الكثير، ورووا ببعضها شجر الصبار الصغير، فعلوا كل ما اشتهوا بهم.
ربما هذه البيجامات الجديدة كانت السر في دفعهم لقتل أبناء أصدقائهم، ربما شخص ما يفكر أن يستولي على بقايا الضوء ويمنعه عن الفقراء هو من دفعهم لفعلتهم.
متشاركون بالأرض والسماء، وبالهواء وماء المطر الساقط على رؤوسهم كل شتاء، لكنهم يختلفون على معنى الوطن، " فأبو بيجامة " يشعر أن حدود وطنه مرتبط بشكل الأوامر المُسقطة عليه، وتنفيذ القمع والاضطهاد، ونسي أن أطفال الجيران الواقفين على الحدود وفي مواجهة العدو هم من يحمون كرامته ووجوده، وأن خططهم المسائية على المقاعد الفارهة ما هي إلا رذاذ سيسقط بعد حين، في حين أن الأطفال الوسيمين يعرفون الوطن بكل ما يحمل من تفاصيل بسيطة، وأن الورود التي تنمو على حواف الطرق هي لهم، وأن الفراشات التي تطير في السماء ورائحة التراب هي من حقهم، وكذلك كل أشجار الجبال والحواكير، وذلك البحر الذي يبكي كل يوم خلف قلاع البنايات البيضاء المُستعمِرة لأرضهم.
الوطن ليس صندوقاً مكعباً من الإسمنت، وليس بالوناً صغيراً لا يسعه الهواء الفاسد، وليس بيجامة صنعت في الصين ستُحرق في مدفأة وقت الصقيع، ولا مربعاً شائكاً ببوابةٍ حديديةٍ صدئة، ولا شكلاً هندسياً يُمنع تجاوزه، أو بيتاً صغيراً فارغاً يقتله الخواء، ولا هو كذلك مساحةً لشخصٍ لا يعرف مساحته، ولا حدوده، ولا شروط ظروفه.
الوطن ليس حالة مزاجية لآخر دون سواه، ولا أبناء زعيم يعيث في الأرض ما يشاء، ولا هو ثكنة عسكرية لرعاة أغنامه، ولا يسكن الوطن مواشي وأبقار مستوردة، وشعبه لم يُصنع في الصين ولم يأت من الهند، ولم يأت بالصدفة أو من فراغ.
رحم الله غسان كنفاني، في روايته عائد إلى حيفا، حينما قال: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو أن لا يحدث ذلك كله".