يقال إن «المكتوب يقرأ من عنوانه». هذا ينطبق تماماً على مسرحية مفاوضات التسوية وفصلها الجديد الذي تمثّل باجتماع لجنة المتابعة العربية وقراراتها. قرارات جاءت لإعطاء انطباع رافض للمفاوضات، غير أنه احتوى ضمناً على معطيات معاكسة تؤكد أن الباب لا يزال مفتوحاً وبقوة للعودة إلى الدوامة القديمة بشكلها الجديد، الذي حمله معه جورج ميتشل في جولته الأخيرة.من الممكن القول إن ميتشل استطاع إقناع المجتمعين، قبل اجتماعهم، بأن الإدارة الأميركية تحمل أشياء جديدة في ملف التسوية. إقناع تُرجم على نحو مباشر في قرار اللجنة العربية، الذي جاء في ظاهره رافضاً للمفاوضات، غير أن باطنه يحمل معطيات مختلفة تماماً، ولا سيما في ما يخص طلب «العرض الجدي» لاستئناف «عملية السلام». عبارة العرض الجدي جديدة على قاموس القرارات العربية، وإدخالها في مثل هذا الوضع قد لا يكون بريئاً كليّاً. فتحديد الجديّة هو حكر على المسؤولين المعنيين في الملف التفاوضي، وتحديداً الفلسطينيين والمصريين الذين حرص ميتشل على إبلاغهم شخصيّاً بالأفكار الجديدة، وهم بدورهم نقلوها إلى المجتمعين العرب.
لم تخرج تفصيلات ما حمله ميتشل إلى العلن. عناوين عريضة فقط للأفكار الأميركية الجديدة تسرّبت إلى بعض وسائل الإعلام، وجاءت على شكل خريطة للمرحلة المقبلة التي من المقرر أن تتضمن «بحث الحدود بمشاركة مصر والأردن، وحلاً عادلاً ومنطقياً للاجئين واتفاقاً على تقاسم مصادر المياه، وبحث مطالب الطرفين في القدس»، إضافة إلى إجراءات «بناء ثقة» كتعديل مسميات مناطق «أ» و«ب» و«ج» وإزالة حواجز وإطلاق أسرى والسماح ببناء مدن فلسطينية، ستقدّم كبديل لعمليات الاستيطان الإسرائيلية.
هذه هي الأفكار، التي غلفت بعنوان جديد هو «المفاوضات المتوازية»، ستكون عملياً مفاوضات غير مباشرة. وقد يكون جزء من هذه الأفكار مستوحى من رسالة كان قد أرسلها محمود عبّاس إلى باراك أوباما قبل أشهر. رسالة تضمّنت الرؤية الفلسطينية لحل الصراع في ملفات الحدود والمياه والقدس واللاجئين. قد لا تكون أفكار الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية متطابقة، إلا أن الصيغة بحد ذاتها قد تكون مطابقة لما تريده السلطة الفلسطينية منذ زمن، فهي طلبت مراراً وتكراراً أن تقدّم الولايات المتحدة رؤيتها للحل الشامل وتطرحها، أو تفرضها، على الطرفين.
على هذا الأساس، فإن قرار الانسياق خلف الأفكار الأميركية الجديدة قد يكون اتخذ قبل اجتماع لجنة المتابعة العربية، والذي لم يكن بيانها إلا لذر الرماد في العيون. كثير من المعطيات تشير إلى مثل هذا الأمر، لعل في مقدمتها ما أعلن عن إجراءات عربية لمواجهة «فشل المفاوضات». إجراءات لا تمتّ بصلة لخيارات محمود عبّاس الذي كان يلّوح بها سابقاً، فالتوجه إلى مجلس الأمن اقتصر على تجريم الاستيطان غير الشرعي في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وهو قرار كان قد سبق للسلطة الفلسطينية أن أعلنت عنه وبدأت الإجراءات العملية له، أي أن كل ما فعله العرب هو التصديق على قرار اتخذ مسبقاً. لم يتكلم العرب على طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية، رغم أنهم تحدّوا الفيتو الأميركي. الاعتراف بالدولة يُغضب الولايات المتحدة، وهو ما لا يريده العرب والفلسطينيون، فالحل هو بالخيار الوسطي: التوجه إلى مجلس الأمن لبحث الاستيطان فقط واستصدار قرار أو بيان يدينه. مهمة ليست صعبة على الإطلاق، ولا سيما أن الإدانات للبناء الإسرائيلي تأتي من كل حدب وصوب، وحتى من الولايات المتحدة التي لن تمانع في اعتبار البناء غير شرعي لتقديم ما يساعد عباس وسلطته.
هذا المعطى العلني يؤكّد أن ما يطبخ خلف الأبواب مخالف لما أعلن على الملأ. معطى علني آخر عنوانه الزيارة المفاجئة لدينيس روس إلى إسرائيل لبحث الترتيبات الأمنية للدولة العبرية. ومن المعلوم أن روس هو العنصر الأساس في تركيبة الفريق الأميركي لإدارة المفاوضات، حتى وإن كانت صفته مستشاراً لشؤون إيران. هذا ما أقرّ به مسؤولون أميركيون في وقت سابق، حين أشاروا إلى أن جورج ميتشل هو واجهة العمل، وروس هو باطنه.
على هذا الأساس، فإن زيارة روس ليست بمعزل عن «أفكار ميتشل» التي جال بها على المنطقة، ولا سيما أن «الترتيبات الأمنية» هي المطلب الأول لبنيامين نتنياهو، الذي أعطى موافقته على السير في الأفكار الأميركية التي اعتبرها «مثيرة للاهتمام»، وأبدى استعداده لبحث قضايا الحدود.
وإذا أضيفت إلى هذه المعطيات ما تسرب عن نيّة عباس تغيير الفريق التفاوضي، فإن الصورة تصبح أكثر وضوحاً. صورة سيكون ظاهرها الرفض التفاوضي، غير أن باطنها هو القبول، وربما السير بمحادثات سريّة، على غرار تلك التي سبقت اتفاق أوسلو، على الأقل إلى حين انتهاء المهلة التي حددها باراك أوباما لإعلان الدولة الفلسطينية وهي نهاية 2011.
وفق هذه الرؤية، من المؤكد أن ما شهده مسرح الجامعة العربية هو غير ما يحاك خلف الكواليس. المنبر كان للرفض الصارم وإعلان وفاة المفاوضات ووصولها إلى طريق مسدود، لتغطية ما يجري في الخفاء لجهة تمديد المهل التي لا تنتهي.