... وعاد جورج بوش. الرئيس الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، والرجل الذي يتحمل جزءاً كبيراً من مآسي منطقتنا والعالم، واعتقدنا أنّه رحل إلى غير رجعة، عاد. لم يستطع الرئيس الثالث والأربعون للولايات المتحدة أن يغيب عن الأضواء، وبعد سنة وثمانية أشهر على خروجه من واشنطن، في العشرين من كانون الثاني 2009، عاد ليذكرنا بما فعله لنا طيلة حياته السياسية في كتابه «لحظات القرار». لكنّها لم تكن عودة موفّقة. فبعد أيام على صدور الكتاب توالت الفضائح. اقتبس بوش أجزاء كبيرة من الكتاب حرفياً من كتب نشرت سابقاً، ونسبها لنفسه: «بوش في الحرب» و«خطة الهجوم» لبوب وودورد، و«جندي أميركي» لقائد القيادة المركزية في الجيش الأميركي تومي فرانكس، و«رئاسة جورج بوش» للصحافي روبرت درايبر،

و«تحمل اللوم» للمتحدث السابق باسم البيت الأبيض في عهد بوش آري فلايشر، ومقالات من مجلة «تايمز»، وصحيفة «واشنطن بوست».كما ثارت ثائرة الكاتب والصحافي الباكستاني أحمد رشيد بسبب سرقة بوش لمقاطع من كتابه «الفوضى في أفغانستان» تتعلق بتفاصيل من حفل تنصيب حميد قرضاي رئيساً لأفغانستان. حفل لم يكن بوش موجوداً فيه ونقل تفاصيل لم يلاحظها غير رشيد، ولم ينشرها أحد غيره. وتدير صحيفة «هافينغتون بوست» الإلكترونية، منذ صدور الكتاب الشهر الماضي، مسابقة بين قرائها لمن يستطيع إيجاد سرقات إضافية من مصادر أخرى.
وكأنّ هذا لا يكفي، فإنّ والدة بوش، باربارا، نفت، من برنامج «لاري كينغ لايف» على محطة «سي إن إن»، أن تكون أرته جنينها الذي أجهضته، حين كان جورج الابن مراهقاً، بعدما وضعته في وعاء زجاجي. وأكّدت أنّه فقط أقلّها إلى عيادة الطبيب. أهم ما يمكن استنتاجه بعد قراءة الكتاب أنّ بوش كان مصاباً بعقد كثيرة. فمن بكامل قواه العقلية يحتفظ في درج مكتبه بقطعة قرميد من بيت الملا عمر الذي فجره الأميركيون في قندهار طيلة فترته الرئاسية؟ قد يبدو الموضوع عادياً لو أنّ الحرب انتهت في 2001 وقضي على الطالبان في أفغانستان. لكن أن يفعل المرء ذلك والجيش الأميركي في تراجع مستمر، هي المازوشية بعينها. إلى جانب ذلك هناك هوس واضح جداً بوالده جورج، الذي كان الرئيس الواحد والأربعين للولايات المتحدة. علاقة الاثنين غير واضحة المعالم، تشوبها المنافسة ومحاولة تفوق الابن على والده في صراع أوديبي الملامح. لا تمر صفحة دون وجود كلمة «أبي» (dad) فيها. يقارن دوماً ما يفعله بمنجزات سلفه، لينتصر على والده يوم نجح في تولي فترة رئاسية ثانية. وحين تخلو صفحة ما من ذكر الوالد، يحل مكانه يسوع. كلمة Jesus هي ربما الأكثر تكراراً في الكتاب، وليست مستغربة من شخص مثل جورج بوش. لكن لا يستطيع المرء كبح ابتسامته حين يقول هذا الأخير «لطالما توجّست من السياسيين الذين يستخدمون الدين للحصول على الأصوات».
كما يبدو من الكتاب سعي بوش إلى الحصول على صديق حقيقي يقبله على علاته، فحاول أن يكون صديقاً للرئيس الصيني هو جينتاو وفشل. لكنّه وجد ضالّته في رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير. فلا يعفينا في معظم فصول الكتاب من تفاصيل مملة عن عشرات الزيارات التي تبادلها معه خلال سنواته الثماني في منصبه. ويخبرنا كيف أهداه بلير تمثالاً نصفياً لرئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل، تملكه الحكومة البريطانية ليزيّن به مكتبه في البيت الأبيض.
وحين لا يتحدث عن والده وعن الدين وعن بلير يكون بوش يبكي. بكى كثيراً على مدى صفحات الكتاب الأربعمئة والسبعة والسبعين، ليشاركه في بعض هذه اللحظات عائلته وبعض أفراد إدارته أحياناً، مثل دونالد رامسفيلد والملك السعودي عبد الله. فكانت عينا هذا الأخير «دامعتين» حين تحدث لوالد بوش ووالدته عن زيارته لمزرعة الابن في تكساس، التي أثرت فيه كثيراً. هذه اللحظات يحاول ربما بوش خلالها أن يتأنسن ليغطي على مآثره الحربية، فلا يتوانى عن السخرية من نفسه والمواقف الحرجة التي خلقها لنفسه: من صفع مؤخرة إحدى لاعبات فريق كرة الطائرة النسائية في أولمبياد بكين، إلى خطابه أثناء استقبال الملكة البريطانية وتلميحه إلى عمرها. كما يخبرنا كيف سأله ابن أحد موظفيه عن باراك أوباما حين زاره في المكتب البيضاوي، قبل انتخابه حتى رئيساً، لكثرة ما رآه على التلفاز فاعتقده الرئيس. إجابة بوش كانت «لم يأت بعد».
لكن يبرهن الكتاب أنّ بوش أفضل من أوباما في علاقته مع موظفيه. فهو يعرف الأغلبية الساحقة منهم قبل وصوله إلى البيت الأبيض، فبعضهم من أصدقائه والآخرون ورثهم من علاقات والده، وليس كما بدا أوباما في كتاب بوب وودورد «حروب أوباما» كرئيس لا يستطيع اختيار مساعد له. ولا يمر فصل دون أن نتعرف على صديق طفولة أو دراسة لبوش وقد عيّنه هذا الأخير سفيراً له في مكان ما حول العالم. ورغم ذلك، لم يكن بوش يعرف مثلاً أنّ وزير عدله جون آشكروفت كان في المستشفى في 2004 يخضع لعملية، فيما كان ينتظره ليوقّع على مذكرة. ولم يكن يعرف حتى أنّ هناك من ينوب عنه، فيما نسي مستشاروه أن يخبروه عن انتهاء مفعول برنامج مراقبة الإرهابيين، ولم يعرف سوى قبل يوم على حدوث ذلك. يتحدث الكتاب أحياناً عن شخص لا نعرفه، يتشارك مع الرئيس الأميركي بالاسم والعنوان ويختلف عنه جذرياً. فجورج بوش الذي يتناوله الكتاب لا ينام الليالي، يفكر في مرضى السيدا في أفريقيا، يريد حماية البيئة وتخفيف الاعتماد على النفط كمصدر للطاقة لأنّه ملوّث. لكن بعد صفحات عدّة، نعرف أنّه الرئيس الأميركي عندما يعود للتكلم عن نفسه، بدون تجميل أو تنقيح، فيردّ كالأطفال الصغار على جاك شيراك خلال اجتماع الدول العشرين، ويراسل ابنتيه في الجامعة ليتكلم على تفاصيل الحرب في العراق ولا شيء آخر. في الفصل المخصص لهذه الحرب، يخبرنا أنّه اتخذ القرار بها بعد الانتصار في أفغانستان، «فقد حققنا ما أتينا من أجله في كابول، والناس أصبحوا يحبّوننا». وينسى ربما أنّه كتب في الفصل المخصص لحربه الأولى أنّ الحرب فشلت لأسباب تقع على عاتق الحكومات المشاركة من الحلفاء وفساد الأفغان (لا دور للأميركيين في فشل هذه الحرب من وجهة نظره).
ماذا عن الانتقادات ضده؟ يفسرها بوش بأنّها «سوء فهم» الناس لنياته في كلّ ما يفعله، من شن الحروب إلى ردّة فعله بعد إعصار كاترينا والأزمة المالية. لكن هناك ما يندم عليه جورج بوش، ولكنّ ليس ضحاياه الكثر حول العالم، بل الاسم الذي أطلق على «قانون الوطنية»، إلى جانب عدم التقاطه الحذاء الذي رماه به منتظر الزيدي في العراق. فالقانون الذي «صمم لمشاركة المعلومات بين وكالات الاستخبارات والقوى الأمنية فقط»(!) «سمح بوصف بعض المنتقدين بأنّهم غير وطنيين».
جورج بوش، شكراً لك على هذا التوضيح.
* من أسرة «الأخبار»