لم تتعرّض جريدة لما تعرّضت له «الأخبار» حتى قبل أن تصدر ـــ من سموم وهجوم وشائعات. وليد جنبلاط وغيره عيّروها قبل أن يصدر العدد الصفر منها. الاعتراض لم يكن على المضمون ـــ وهم لم يروه حينها ـــ بل على فكرة إيجاد صحيفة غير موالية لرأسمالهم.
لم تتورّع صحف مال النفط والسمسرة والاتجار بالرقيق الأبيض عن النيل منها عبر الحديث عن تمويلها آنذاك. هذه الحملة كانت واضحة في مراميها: الحقبة السعوديّة الثانية (منذ 11 أيلول) لا تسمح بوجهة نظر أخرى في الإعلام العربي، والراعي الأميركي طلب تطويع تام لتسهيل حروبه. لهذا، يتشارك الموساد مع النظام السعودي في الحملة على قناة «الجزيرة». ثم ذهبت 500 مليون دولار للإنفاق على محطة «الحرّة» أدراج الصحراء.
وكان ينقص أن يتحوّل إلياس المرّ إلى ناقد صحافي، يعطي رأيه في الكلام الصحافي، ويعدّ العدّة لإصدار صحيفة خاصّة به، وهو الذي تخرج الكلمة من فمه بصعوبة بالغة. هذا الذي تحوّل إلى بطل العار في وثائق ويكيليكس ـــ بعدما كذب على الشعب اللبناني عن اقتنائه لطائرات الميغ، وبعدما كذب على الشعب اللبناني عشيّة حرب تمّوز عندما وعد بأن يعلّم الجيش اللبناني إسرائيل درساً لن تنساه، والذي لا يجد وسائل العناية الطبيّة إلا في المنتجعات السويسريّة. للّو المرّ غير راضٍ عن «الأخبار» ووصف صحافياً شجاعاً ورصيناً في الجريدة بـ«العميل الإسرائيلي رقم واحد»، فيما كان يسدي النصح لإسرائيل. إلياس المرّ ساوى بين المطالبة بمحاسبته والقتل. وتحدّث ـــ لجهله في اللغة وفي المنطق ـــ عن «قتلته»، ناسياً أنه حيّ يُرزق. أقحم الياس المرّ الشعب اللبناني برمّته في الدفاع عن نفسه، وأقحم رئيس الحكومة ورئيس الجمهوريّة في بيان «حَرده»، الذي لم يجرؤ على أن يقرأه بنفسه، وإن كانت قدراته اللغويّة المتواضعة تُفسّر الإحجام. الماريشال للّو قال، في ما قال، إنّ هناك من يخوّن فقط بسبب الاختلاف في الرأي. هل هناك من ينصحه في أوساط المستشارين، الذين اقتناهم له أبوه، بأنّ التخوين الذي تلى نشر وثائق «ويكيليكس» كان بسبب إسدائه النصح لإسرائيل وبسبب قبح تحليلاته الطائفيّة الكريهة (لم تنفِ السفيرة الأميركيّة الحديث المذكور، كما أنّ وزارة الخارجيّة لم تنفِ صحّة أيّ من وثائق ويكيليكس).
الصارخ بابتذال وسوقيّة في بريّة الإنترنت، فارس خشّان ـــ وهو صحافي، فقط بمعايير صحافة آل سعود وآل الحريري ـــ نظّر أنّ وثائق «الأخبار» ليست من وثائق ويكيليكس. لم يعلم صاحبكم أنّ ويكيليكس نشرت بعد أيّام الوثائق التي نُشرت في «الأخبار».
لم تتهم إدارة «الأخبار» أحداً في عمليّة القرصنة وإن عبّرَ المُقَرصِن عن أهوائه عبر نشره صوراً للملك السعودي (اللغة العربيّة في القرصنة كانت ضعيفة ومُشوّهة على طريقة الاستشراق الإسرائيلي ـــ إنّها صدفة ـــ أو إنّها مُترجمة عبر «غوغل«). والقرصنة أتت في سياق نشر الوثائق. و«سرّ» نشر الوثائق في «الأخبار»، ليس بسرّ. أنقل عن الرفيق إبراهيم الأمين قولَه: وهل هناك في الصحافة العربيّة من يجرؤ على نشر الوثائق؟ الطريف أنّ الإعلام السعودي والحريري تجاهل العاصفة الإعلاميّة المحيطة بويكيليكس إلى أن جاءت الأوامر. وهل ينطق الإعلام السعودي والحريري (الذيلي للأوّل، طبعاً) من دون أمر؟ الأمر أتى بأن يتم التطرّق فقط إلى الوثائق من حيث تناولها لأمير قطر ورئيس سوريا وصواريخ حزب الله والسلاح النووي الإيراني. أي ظنّ مُخطّط لدن واحد من أمراء آل سعود أنّ الوثائق يمكن أن تفيد طرفهم (هذه كانت فتوى عقاب صقر مثلاً). فأتت أبواق هذا الإعلام بأنّ الفضيحة الكبرى في الوثائق كانت في إذلال الحكّام العرب من قبل راعيهم الأميركي. الملك السعودي يجتمع بمسؤول أميركي متدنّي المستوى، ويرجوه أن تُعدّل الحكومة الأميركيّة بعض إجراءات الهجرة بحق الوافدين والوافدات من السعودية كي لا يبدو هو حقيراً بنظر أصدقائه وأعدائه على حدٍّ سواء ـــ كما قال في وثيقة. الإعلام الحريري نفى أن يكون سعد الحريري قد حرّض على غزو إيران، كما جاء في واحدة من الوثائق ـــ هل هناك من ينفي الحظوة التي يتمتّع بها سعد ونادر الحريري عند الإدارة ـــ كل إدارة ـــ أميركيّة؟
في أبواق آل سعود، وخصوصاً في بوق الأمير سلمان وأولاده، تتصنّع رصانة صحافيّة (أبرزت وثيقة أميركيّة رصدت لواقع الإعلام السعودي مدى الاحتقار الذي تكنّه الحكومة الأميركيّة للإعلام السعودي) لا تليق بمن يعنوِن على صدر الصفحة الأولى أنّ خادم الحرمين طمأن الشعب إلى صحته. إعلام آل سعود قرّر أنّ نشر الوثائق كان خاطئاً، من وجهة نظر الصحافة الموضوعيّة. هؤلاء الذين يتلقّون الأدوار والأوامر والمناصب من لدن مستشار ابن الأمير أو أمينه لشؤون اللذات الملكيّة، لا يتورّعون عن إصدار أحكام وعظات في واجبات الصحافة. عقاب صقر كان أظرف عندما أفتى في موقع «ناو حريري» بأنّ نشر الوثائق كان مُضرّاً بفريق 8 آذار: لعل الأمر التبس على صقر هذا. لعلّه ظنّ أنّ محمد رعد، لا إلياس المرّ، كان يُرسل عبر السفيرة الأميركيّة في لبنان، نصائح وإرشادات إلى إسرائيل.
لكن من حق الحكم السعودي (والحريري) أن يثور على جريدة «الأخبار». هؤلاء كانوا قد قرّروا أن يحتكروا بالكامل كلّ الإعلام العربي بعدما سقط حكم صدّام، وبعد أن يمّم الطاغية الليبي وجهه نحو أفريقيا، حالماً بألقاب ملكيّة فارغة. رفيق الحريري، هو الذي قرّر أنّ الإعلام العربي يجب أن يماشي بالكامل، ومن دون أي استثناء، مشيئة أسياده في الرياض. هذا كان سبب محاربته من دون هوادة لمحطة «الجديد». وقد عمل الحكم السعودي على ابتياع الإعلام والأقلام والأفراد يمنة ويسرة (ويسار ديموقراطي، أيضاً). ثارت ثائرة الحكم السعودي على «الجزيرة» وقرّر أنّها باتت تمثّل خطراً على الأمن السعودي. لم يكن الإعلام السعودي أبداً ليعترف ـــ ولا حتى اليوم ـــ بأنّ هناك أكثر من رأي في السعودية، أو أنّ هناك من لا يشاطر آل سعود آراءهم. خرقت «الجزيرة» محرّمات كُبرى عندما أفردت شاشتها لعرض وجهات نظر مُعارضين ومُعارضات ـــ حتى لا ننسى الرفيقة الشجاعة مضاوي الرشيد. هكذا تفاقم الخلاف السعودي ـــ القطري، وهكذا تولّدت الصلحة بين السعوديّة وقطر في ما بعد.
لكن لا قطر أرادت أن توسّع نطاق الخلاف (في العلن على الأقلّ)، ولا الحكم السعودي أراد أن يحتمل المزيد من «الجزيرة». اختلف الأمراء في شأن المصالحة مع قطر، وإن كان الأمير نايف (وزير التعذيب وقطع الرؤوس الذي نال شهادة دكتوراه فخريّة من الغالي على قلب الموساد ـــ وفقاً لوثيقة من ويكيليكس ـــ فؤاد السنيورة) من المُتحمّسين للمصالحة كي تكفّ المحطة عن استضافة وجوه من المعارضة السعوديّة. اتفق الجانبان على تجميد الخلاف وعلى اصطناع الودّ وذلك لكسب هدنة بين الطرفيْن المُتحاربيْن (تتجاهل وسائل الإعلام العربيّة لأسباب واضحة سوء علاقة الحكم السعودي بكلّ من الإمارات وسلطنة عُمان). ضيّقت المصالحة نطاق التعبير في «الجزيرة»، واختفت أصوات المُعارضة السعوديّة عن المحطة. باتت «الجزيرة» تعتمد على وكالة الأنباء السعوديّة في تغطيتها لمملكة القهر الوهّابي.
الإعلام هو السلاح الأبرز في أيدي آل سعود: هم الذين قرّروا أنّ الرياضة والفن والدين يجب أن تكون أفيون الشعوب العربيّة. الإلهاء الشعبي هو عنوان المرحلة خدمة لحروب أميركا وإسرائيل بين ظهرانينا. هم الذي قرّروا أنّ قضيّة فلسطين يجب أن تغيب عن التغطية العربيّة وأن تصبح تغطية إسرائيل أخويّة وحبيّة (وصل أكاديمي إسرائيلي إلى السعوديّة هذا الأسبوع بدعوة من الأمير تركي الفيصل ـــ الصديق الصدوق لأسامة بن لادن ـــ ونوّه بغياب مشاعر العداء ضد إسرائيل).
لهذا، فإنّ الحكم السعودي (وتابعه الحريري) قرّر مُبكِّراً أنّ «الأخبار» عدوّ للمشروع السعودي ـــ الأميركي ـــ الإسرائيلي. ولو كانت «الأخبار» ناطقة تقليديّة (ومُبتذلة) بالخط المُؤيّد لمنطق المقاومة لكان الاكتراث السعودي ـــ الحريري أقلّ بكثير. لهذا، فإنّ تنبّه آل سعود ضد «الأخبار» يعود لا فقط لتعوّدهم على انعدام أي نوع من النقد الطري أو القاسي ضد نظام حكمهم وضد سياساتهم، بل إنّ طبيعة الحلف السعودي ـــ الإسرائيلي الذي يمثّل حلقة أساسيّة في الخطة الأميركيّة لمنطقة الشرق الأوسط تقتضي السيطرة الاحتكاريّة على وسائل التعبير العربيّة من أجل تغييب أي تسليط للضوء على هذا الجانب من العلاقات الدوليّة في الشرق الأوسط. ويضيرهم أنّ «الأخبار» فعّالة في ما تقوم به. لو أنّ «الأخبار» تنتمي إلى إعلام مؤسّسة «العبث» لما كان أعداؤها قد اكترثوا. لعلّهم تمنّوا ذلك.
قد تكون قرصنة موقع «الأخبار» مُتعلّقة بنشر وثائق ويكيليكس أو بسياق خط الجريدة منذ انطلاقتها المزعجة. والإعلام اللبناني يعكس الإعلام العربي في مسألة تكرار الشعارات والمواقف: ماذا يتغيّر من مواقف راشد فايد في «النهار» إلى مواقف الحاشية الحريريّة في نشرة الحريري، إلى مواقف المعلّقين اللبنانيّين (واللبنانيّات) في مختلف الصحف السعوديّة؟ على الصحف أن تكرّر إحداها الأخرى، وهذا هو صلب الدعاية السياسيّة (أي على طريقة «غوبلز» في تعريفه في يوميّاته عن «التكرار المُتكرِّر» كتعريف بسيط للدعاية السياسيّة). أي على مختلف أمراء آل سعود أن يصدروا صحفاً من أجل تكرار الرسالة الدعائيّة. أما «الأنوار» فهي من مخلّفات اهتمام الشيخ زايد بالإعلام العربي (لكن أعترف بشغفي بكتابات الصحافي الرصين، رفيق خوري).
لا يمكن أن يمر نشر وثائق ويكيليكس مرور الكرام. هذا حدث كبير في سياق العلاقات الدوليّة وسيشكّل علامة فارقة في التاريخ الدبلوماسي الأميركي. كان وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، على حقّ عندما قلّل من خطورة نشر الوثائق ومن مضاعفات نشرها. قال إنّ نشر الوثائق قد يكون مزعجاً، لكن الحكومات المختلفة ستستمرّ في تعاطيها وأحاديثها مع ممثّلي الحكومة الأميركيّة لحاجتهم إليها. قد يكون نشر الوثائق (و1000 منها قد نُشر إلى الآن فقط ـــ أيّ أنّ هناك الكثير الكثير مما لم يُنشر) من العلامات الفارقة في التاريخ الأميركي المُعاصر، وخصوصاً في ما يتعلّق بالشرق الأوسط. إنّ جولتَي الوزيرة كلينتون والوزير غيتس الأخيرتيْن كانتا من أجل التعامل مع مفاعيل نشر الوثائق ـــ وإن كان هدف الجولتيْن مُغلّفاً تحت عناوين مراوغة كالمُعتاد. لم تنف الحكومة الأميركيّة صحّة أي وثيقة من الوثائق، وإن كان المسؤولون الأميركيّون يكرّرون اعتراضهم على حقّ النشر (كما عملت إدارة ريتشارد نيكسون على منع نشر «أوراق البنتاغون» إلى أن أصدرت المحكمة العليا في أميركا قراراً مُبرماً إلى جانت حق النشر ـــ ولا يزال القرار سنداً أساسيّاً في مسيرة المعركة الطويلة من أجل تعزيز حريّة التعبير في البلاد). لكن هؤلاء ـــ وخصوصاً ليبراليّي أمراء آل سعود ـــ لا يريدون حريّة التعبير. يخافون منها لعلمهم بالمسافة بين أهواء الأمير وأهواء الناس.
مُساعد وزيرة الخارجيّة الأميركيّة لشؤون الشرق الأدنى، «العزيز جيف» فيلتمان لا يتورّع في حديث مع صحف سعوديّة وحريريّة عن اتهام «الأخبار» من دون أن يسمّيها ـــ بـ«إساءة استعمال» الوثائق لأهداف سياسيّة. فيلتمان هذا سمح لنفسه في لقائه الأخير مع وليد جنبلاط بأن يحدّد له المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة وضرورة دعم عمل محكمة أميركا الحريريّة (وفق رواية جنبلاط نفسه في حديث مع روجر كوهين، المُعلِّق في صحيفة «نيويورك تايمز«). ومن الطبيعي أن تنزعج الولايات المتحدة من نشر الوثائق لأنّ فيها ما يُحرج حلفاءها الأذلاء. هناك من يُشكّك بصحّة الوثائق ومن ينشر نظرّيات مؤامرة عن أهدافها (نشر موقع غير موثوق إطلاقاً خبراً مُختلقاً عن اتفاق سرّي بين أسانج ونتنياهو من أجل حماية إسرائيل ـــ وقد نقلت «المنار» الخبر، مع أنّ عدداً من مسؤولي حزب الله أشار بالاسم إلى وثائق ويكيليكس في هذا التشكيك أو التقليل من أهميّة الوثائق، تماشياً مع ردّة فعل أحمدي نجاد على الوثائق).
صحيح أنّ أميركا لم تتضرّر كما تضرّر حلفاؤها في المنطقة، لكن متى عرف السبب بطلت بعض النظريّات التي تروّج لها الصحف السعوديّة. إنّ قدرة ضابط الاستخبارات الأميركي، برادلي مانينغ، على خرق نظام السريّة المطلق في تعميم الوثائق الأميركيّة الرسميّة على شبكة الإنترنت الخاصّة بالحكومة الأميركيّة (والمحصورة بمن لهم ولهنّ تصريح بالاطّلاع السرّي) كان محدوداً بعدد كبير من الوثائق ذات صفة التصنيف الرسميّة «السريّة» وهو تصنيف سرّي، لكن متدنّ في السريّة. ولأنّ الوثائق المُصنّفة بـ«السريّة» هائلة من حيث الحجم، وهذه الوثائق قد تترك الانطباع بأنّ الدبلوماسيّين والدبلوماسيّات الأميركيّات في الوثائق كنّ صامتات أو مصابات ومصابين بعقدة لسانيّة. لكن السبب واضح: إنّ كتابة التقارير المُعمّمة على نطاق واسع جدّاً ـــ خلافاً للتقارير المُصنّفة بـ«السرّي للغاية» تحجب عن قصد الأقوال الرسميّة الأميركيّة كي يقع الإحراج فقط على الأجانب إذا وقعت أنظار ما على الوثائق تلك. ثانياً، يتم نقل التقارير التي تتضمّن معلومات ومواقف أميركيّة رسميّة (خاصّة وغير مُعلنة) على سكّة إلكترونيّة خاصة، خارج نطاق الوثائق التي حصلت عليها ويكيليكس (هناك أحاديث عن حصول ويكيليكس على وثائق ذات تصنيف سرّي أعلى مما نُشر إلى الآن).
لكن نظريّات المؤامرة المُنتشرة في الإعلام السعودي ـــ الحريري تدعو إلى الضحك. هم اضطربوا وقلقوا ولم يدركوا كيف يتعاملون مع الوثائق المنشورة. لبضعة أيّام، كانت الأوامر تشير بالصمت، إلى أن أتت الأوامر بالكذب. محطة «إم تي في» اختلقت وثيقة لتنال من «أو تي في»، فيما محطة «العربيّة» وصحف صفراء سعوديّة ـــ هل هناك صحف غير صفراء لآل سعود؟ ـــ جعلت من مطالبة الملك السعودي بغزو إيران و«قطع رأس الأفعى» مطالبة «بموقف حازم». عندها، بدأت الأقلام المُسخّرة في إعلام آل سعود وآل الحريري بالتطرّق إلى الوثائق للتقليل من أهميّتها من ناحية، ولاستخدامها ضد إيران وضد حزب الله عبر ذكر عدد صواريخ حزب الله وفق تقديرات أميركيّة أو إسرائيليّة، وكأنّ تسليح شعب لبنان للدفاع عن نفسه بوجه عدوان إسرائيل مُشين. عندها، تناطحت الأبواق للنيل من صدقيّة الوثائق. والكذب والاختلاق سمة دائمة في دعاية النفط. هناك من نقل عن «مسؤول أميركي» تشكيكاً في صدقيّة وثائق «الأخبار»، مع أنّ ذلك لم يحصل أبداً.
وهناك من استعان بنظريّة المؤامرة للقول إنّ أميركا هي وراء تسريب الوثائق، أو إنّ إسرائيل ضالعة أيضاً. (وهناك في إعلام الفريق المُعادي للفريق السعودي من صدّق تلك النظريّات وروّج لها من دون علمه أو علمها بمصلحة الأنظمة العربيّة بتقويض صدقيّة الوثائق لما أحدثته من إحراج تاريخي لها). لم يكن يخفى على المواطنة والمواطن في العالم العربي درجة الإذلال التي يتعرّض لها حكّام العرب على أيدي أميركا وإسرائيل، لكن درجة الإذلال كانت أسوأ بكثير من مضامين الأدبيّات اليساريّة والقوميّة في الستينيات عن خنوع أنظمة الخليج.
ليست هذه حملة مُضادة، لكن إعلام النفط أعلنها حرباً على «الأخبار». يدرج صحافيّو وصحافيّات «ناو حريري» وغيرها من أبواق عائلات النفط والفساد والسلفيّة في عالمنا العربي على الوشاية بـ«الأخبار» عبر وصفها لصحافيّين وصحافيّات أجانب بـ«جريدة حزب الله». لكن الصحافة الأجنبيّة تبيّنت الخطأ وباتت تصف الجريدة كما هي: جريدة مُعارضة ويساريّة ومؤيّدة لمقاومة حزب الله. وحدها جريدة «وول ستريت جورنال»، اليمينيّة الليكوديّة، وصفت الجريدة ببوق حزب الله، وكان ذلك بناءً على وشاية من واحدة من كتبة موقع حريري. وغابت معظم الصحافة عن ندوة التضامن مع «الأخبار» قبل يومين. وكان الرفيق فوّاز طرابلسي على حقّ عندما نبّه إلى غياب الإشارة إلى دلالة ظهور رسم الملك السعودي على الموقع المُقرصن. ليس في منطقة الشرق الأوسط أجهزة متطوّرة للقرصنة الإلكترونيّة إلا عند الموساد الذي عطّل (جزئيّاً)، وفق تقارير صحافيّة، أجهزة الكومبيوتر الخاصّة بالمنشآت النوويّة الإيرانيّة. هؤلاء الذين يرفعون أقلامهم وشموعهم في احتفالات واحتجاجات مدفوعة الثمن في الغالب لا يتضامنون إلا مع أنفسهم. هؤلاء، كانوا لينزلوا في تظاهرات احتجاجيّة لو تعرّض موقع نادر أو سعد الحريري للقرصنة. هؤلاء، كانوا قد رفعوا عريضة الى مجلس الأمن لو ترك واحد رسماً لخصم لهم على مواقعهم على الإنترنت. هؤلاء تعلّموا الصحافة تحت أقدام من يكتب عناوين طلبات الصلاة لشفاء هذا الأمير وذاك الملك، أو لطلب صلاة الاستسقاء.
الذعر بادٍ على محيّاهم بعد ويكيليكس. تذكرت السعوديّة أهل غزّة وأرسلت مساعدات مع أمير سعودي. السنيورة ـــ لا، لن ننسى دورك المشين في حرب تموز إلى الأبد ـــ أصدر في صدر الأسبوع بياناً شديد اللهجة ضد إسرائيل بسب طلعاتها الجويّة فوق لبنان. يريد أن يكسب سياسيّاً بعد إذلاله على يد ويكيليكس، وهو الذي لم يصدر بياناً واحداً شديد اللهجة أثناء عدوان تمّوز. يبقى أن يصدر للّو المرّ بياناً يعبّر فيه عن رغبته في استخدام طائرات «الميغ» الروسيّة (الوهميّة) للهجوم على إسرائيل. وقد تضطرّ الأمانة العامة لـ14 آذار للإشارة إلى إسرائيل كعدوّ أكثر من مرّة في السنة.
الإعلام العربي في أزمة وهو في أسوأ درك بلغه. كان التنافس والصراع السياسي في مرحلة «الحرب العربيّة الباردة» مفيداً لتعدّد الآراء في الصحافة. أطبق آل سعود (وذيلهم الحريري) على الإعلام العربي. يتبرّمون من صحيفة واحدة تنقدهم. لكنّهم لا يعلمون أنّ هناك سبباً أساسيّاً لنجاح «الأخبار» يكمن في أنّها ـــ خلافاً للسائد في الثقافة العربيّة ـــ تنتقدهم وتنتقد أنظمتهم. لن يهنأ بالهم بوجود «الأخبار». لن يهنأ لهم بال. لا يجب أن يهنأ بال لأمثال هؤلاء، أبداً.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)