■ قلّما ألفنا وجود معاهد فلسفة إسلامية في لبنان والعالم العربي. وها هو «معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية» يقوم بنشاط علمي فلسفي رصين. ماذا عنه؟افتتح المعهد في 1999، وكان المقصود في بداية تأسيسه تعليم الفلسفة الإسلامية من خلال تحصيل دراسي يدوم أربع سنوات ندرّس خلالها مواد عدة، كالمنطق والفلسفة الإسلامية والعرفان، أي التصوف من منطلق فلسفي. وقد اهتممنا بنحو خاص بمدرسة فلسفية يطلق عليها اسم «الحكمة المتعالية» للفيلسوف صدر الدين شيراز (إيران، 1571 ــ1640). تطوّرت الفكرة في ما بعد إذ قام المعهد بإصدار مجلّة «المحجّة» المتخصصة بالفكر الديني المعاصر وفلسفة الدين والفلسفة الإسلامية بفكرها الأخير الذي تمثّله مدرسة «الحكمة المتعالية»، ومسألة الحوار الإسلامي ــ المسيحي. ونحن نرصد كل جديد في الفكر الديني المعاصر، في الشرق والغرب. وبعد انطلاق المجلّة التي هي منبرنا، شرعنا بنشر الكتب وأنشأنا دارنا الخاصة التي أصدرت إلى الآن ما يقارب الثمانين إصداراً. كذلك أنشأنا «المنتدى الفلسفي» الذي نستضيف به دورياً شخصيّات معيّنة لها طرحها الفكري أو بحثها الخاص.

- لكن أليست العلاقة بين الفلسفة والدين الإسلامي إشكالية منذ عدّة قرون؟
لدي إيمان شخصي بأنّ كلّ دين من الأديان يحمل سعة واسعة جدّاً من التأويل، وذلك ما سمح بإنتاج الكثير من المذاهب والاتجاهات الخاصة، ومنها من أنتجت تطرّفاً، أو عزلة، أو انكفاء أو حتى ديناً شعبياً. ولكن هناك أيضاً مساحات من التأويل الديني تنتج السؤال، وأقول ذلك اعتقاداً منّي أنّه لا دين خارجاً عن نطاق العلاقة مع الإنسان. فلا شكّ أنّ الله هو، في إيماني على الأقل، حقيقة موجودة، بغض النظر عن الإنسان، لكن ذلك لا يعني أنّه يوجد دين من دون الإنسان. بناءً عليه، إن لم يكن الخطاب الديني موجّهاً إلى الإنسان، يصبح خطاباً عبثيّاً. صحيح أنّ هناك نظرة موجودة عن الأديان قوامها أنّها بعيدة عن العقل الناقد وأنّها تمارس الترويج للفكرة أكثر من ممارسة السؤال النقدي، وتلك الصورة تكثّف بنحو كبير في الفترة الأخيرة عند الحديث عن الإسلام، وسبب ذلك أنّ التفكير السائد بين المسلمين يذهب باتجاه مدارس منعت السؤال النقدي بفعل ممارستين: ممارسة داخليّة عند بعض المسلمين الذين لجأوا إلى ترهيب الآخر في الموقف من خلال جمود ذهني، وممارسة الغرب، الذي جعل من هذه الصورة النمطية حقيقة مطلقة، فأصبح المسلم، في المشهد الهوليوودي، يساوي زمناً معيّناً، وهو العربي الخليجي الذي يضع العقال، ولديه تفكير يشبه الصحراء.


■ كيف تواجهون إذاً تلك المعضلة، وكيف تفهمون الفلسفة؟
هل يوجد شيء اسمه فلسفة كحقيقة مطلقة ومستقلّة؟ بتقديري كانت هناك محاولات لم تنجح لتحويل الفلسفة إلى علم، وبقية الفلسفة تحتضن طبيعتها الخاصة التي تنبع من الدهشة، إذا صح ما ينسب إلى أرسطو، والدهشة تعني ملاقاة ذاتي مع المحيط، ومع الآخر، أكان إنساناً، أم السماوات وما فيها، أم أنا بذاتي. هذه الدهشة التي تعبّر عن حقيقتك، تلفت نظرك إلى الأمور المحيطة وتثير بك السؤال. ولذلك، فإنّ الأصل في الإنسان هو طرح السؤال قبل التكلّم عن الإجابات. وكل إجابة قد تسمى فلسفة، أو ديناً، أو فكراً. لكن المنبع الأساسي هو السؤال الإنساني. بناءً عليه، إن كان الدين ينتسب إلى ذلك الإنسان، فالفلسفة تنتسب إلى هذه الدهشة الخلاقة الموجودة عند الإنسان، أو القلق الخلاق، والذي لا بدّ من أن يولد السؤال. لا إنسان من دون سؤال، ولا دين من دون سؤال، ولا فلسفة من دون سؤال. وسر الاختلاف بين الفلسفة والدين هو الاختلاف في الجواب، لا الاختلاف في المنشأ. نحن نعتقد أنّ علينا أن نوحّد الحقيقة الإنسانية التي توحّد السؤال. وينبغي أن يكون السؤال دائماً مفتوحاً ودائماً مهاجراً، يتنقل بين الفلسفة ونقدياتها، وبين الشعوب والأمم، وبين الأفكار والاتجاهات والأديان، وأستغفر الله على هذا الكلام، بين الآلهة التي نعتقد فيها في كافة الأديان. هذا السؤال يتنقل دوماً برغبة جانحة نحو شيء لا يستطيع أحد أن يقبض عليه وهو الحقيقة، تلك التي ترغبها من دون أن يكون بوسعك أن تقبض عليها. وأخيراً، إنّ أجمل شيء في السؤال الفلسفي هو اللحظة التي يرف فيها بالغيب وجع الإنسان. نحن أضعنا الفلسفة الحقيقية للأديان عندما استغرقنا في اللاهوت ونسينا الناسوت الذي له علاقة بالوجع وبالألم وبالموت وبالحياة وبالاختبار وبتقارب الناس وبالسلم وبالحرب. وهنا الفلسفة الحقيقية. فكل شيء متعلّق بالله له علاقة بالإنسان. الرحمن مثلاً أو الرحيم، هو متعلّق بالإنسان. رابطه هو الناسوت. لا شيء خارج هذا الناسوت، وأنا لا أعرف أن أصلي من دون الفلسفة، من دون أن أفهم.


■ كيف تشخّص إذاً مشكلة الفلسفة الإسلامية الحالية بمخاطبتها مع العالم المعاصر؟
نحن المسلمين ندفع ضريبة بالحقيقة، لكون اللغة التي نستخدمها بتحليلنا الفكري وبقراءتنا الفلسفية لغة هي بالغالب خارج الإطار المعاصر. لا يمكنني أن أكلّمك اليوم بلغة القرن الرابع الهجري مثلاً، لأنّك لن تفهم لغتي. لكن هل يقبل الدين بالمعاصرة؟ عند المسلمين قاعدة اسمها «قاعدة الجري»، والمقصود فيها أنّ النص الديني ينبغي أن يجري مجرى الزمن. الثمن الذي ندفعه أننّا لم نعمل على لغة التفكير فضلاً عن لغة المحادثة، واللغة عامل أساسي لفهم الوجود ولمخاطبة الآخرين. فعندما أصبح منتمياً إلى لغة أخرى، كما هي الحال الآن مع الغرب، يحصل عدم فهم بيننا. أنا أدّعي أنّ المعهد يسعى لتقديم محاولات كهذه، وأنا على صعيد شخصي معني بهذا الموضوع، لأنّه ممنوع علينا أن نكون مجرّد مستهلكين في الشرق، بحيث نستجلب السؤال من أفق معرفي غربي. من حقي أن يكون لدي سؤالي الخاص بي النابع من انتمائي وهويتي وبيئتي. هكذا نحاول أن نوجّه الأمور ولا نزال.

■ وما دور هذا النوع من الفلسفة في عالمنا العربي المعاصر؟
قدرة العالم العربي على الاستهلاك تدهشني. مثلاً في أغلب ما كتب في العالم العربي، نحن دائماً معنيون بمنهجيات أخرى. لا أقول ذلك انطلاقاً من عداوة للغرب وأنا لا أكنّ له أي عداوة. أنا جزء منه وهو جزء مني ولا يمكننا أن ننفصل. فنحن نعيش الآن بوحدة إنسانية. أنا أرى أنّ كل ما أنتج تقريباً في الشرق على مستوى الفلسفة هو دون أي أطروحة دينية، سواء كانت مسيحية أو إسلامية، لأنّ هذه الأطروحات فيها إضافات اليوم. لكن في الإطار الفلسفي ما الذي يقدّم؟ لا يوجد إلا ترجمات لفلان بلغة ينسبها لنفسه، أو يترجم أقوالاً مشوهة. تنتهي الموضة في بلاد الغرب ونحن نكمل بها. نشاطنا في هذا المعهد يبغي الخروج من هذا المأزق مع أنّني لا أعرف إلى أي مدى قد نجحنا. ولكنني أراهن على رغبة الاستقلالية الموجودة الآن عند شعوب المنطقة، عسى إرادة الاستقلالية أن تنتج فكراً يرغب في الاستقلال. فالفكر المفصول عن حراكك اليومي ليس بفكر. فإن كنا اليوم في صحوة جديدة نفكر أن نحرر إرادتنا من قيود وارتباطات، من الممكن أن يعمل ذلك في لحظة من اللحظات بعقول قابليّاتها مبدعة لكن ظروفها لم تكن سانحة حتى تبدع. فهناك استفاقة في العالم العربي، وأنا لا أراهن فقط على نزول الناس إلى الشوارع، بل أيضاً على أن يوّلد شارع الشباب والفقراء نموذجاً جديداً. مثلاً، فلنتكلّم عن الحالة المصرية: ليست الحركات الإسلامية من عملت هذه الانتفاضة، ولا جهات مسيحية أو علمانية. من صنع هذه الاستفاقة هم شباب، أي الضمير الحي والطموح. والآن يتناقشون بكل شيء إلا مع الشباب. لكن أين هي إرادتهم وموقعهم في الحكم وشكله ونظامه. حقهم على الأقل أن يأخذ هذا الشكل من الحكم نظراتهم وتطلعاتهم وتضحياتهم، والخوف هو أن تصبح الإرادة التي يجسدها الشباب في ميل ومن يدعي الحكمة في ميل آخر.

■ ماذا عن الطائفية والعلمانية في لبنان؟
المفردة الوحيدة التي أعرف معناها في لبنان هي الطائفية. لكنّني لا افهم ما المقصود بالعلمانية، وهنالك لغط. فكلمة علماني في الأوساط المسيحية غير فهمها في الأوساط الإسلامية. ففي الأوساط الإسلامية تمثّل العلمانية عقدة تاريخية لدخول الغرب إلى بلاد العالم الإسلامي ومحاولة لإقصاء الدين. فالمشكلة ليست في المصطلح بل في عقدة موروثة تاريخياً. أمّا العلمانية في الفهم المسيحي فهي حكم مدني لا يشارك فيه الإكليروس. أعتقد أنّ العلمانية هي اتجاه في ممارسة الشأن الحياتي، قد يكون متطرفاً وقد يحمل الكثير من الإيجابية والاعتدال. أنا لست معها أو ضدها لكنّني أريد أن تحدد الأمور بشكل واضح وهذا ليس ببديهي. خرجت مثلاً في الآونة الأخيرة مسيرة تطالب بالعلمانية. ومن بعدها، بدأت الهتافات ضد الطائفيين. ماذا يقصدون بذلك؟ الجماعات؟ وإلى مَ يؤدّي ذلك؟ إلى تكوين طائفة جديدة ومحدّدة وموجودة في الزاوية، وهذا ما حصل. فأوضح شيء في لبنان هو الطائفية، وفي الوقت الذي تظن فيه أنّك تحاصر بقية الطوائف، فأنت لا تحاصر إلا نفسك. قدر هذه الطوائف أن تبقى منفتحة على بعضها، وأن نتحمّل جوانب الطائفية السيئة. لكن تبقى مشكلة العلمانية أنّها غير محدّدة في لبنان، وحتى تعريف الدين غير محدد. فالأمر الوحيد المحدد هو الطائفية.



تعريف

ولد الشيخ جرادي في بيروت في 1962، واهتم بالفلسفة في عمر مبكر، فبدأ يخوض النقاشات الفكرية في الثالثة عشرة مع اليساريين والقوميين، ممن يكبرونه سناً وثقافة. سافر إلى حوزة قم في إيران حيث تابع دراساته الدينية لفترة سبع سنوات طبعت وجدانه بشكل فريد. فلسفياً، أعجب بفلسفتي ماركس وهيغل، وإسلامياً، تعلّق بشخص الخميني. وهو لا يخفي إعجابه برسالة الأم تيريزا. التزم العمل المقاوم ضد العدو الإسرائيلي منذ بداية الثمانينيات. أسس في 1999 «معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية» (حارة حريك) الذي يلعب دوراً ليس فقط على صعيد الفلسفة الإسلامية المعاصرة، بل أيضاً على صعيد الحوار الإسلامي المسيحي. له إصدارات عديدة، أهمها: «مقاربات منهجية في فلسفة الدين» (2004)، و«إلهيات المعرفة، القيم المتبادلة في معارف الإسلام والمسيحية» (2006).