يمثُل الرئيسُ الإيفواري السابق لوران كودو غباغبو اليوم أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة «مسؤوليته عن اقتراف جرائمَ ضد الإنسانية» في كوت ديفوار، هي «القتلُ والاغتصاب وأعمال اضطهاد وأفعال فظيعة أخرى»، حسب بيان أصدره المدّعي العام لهذه الهيئة في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011.وكانت ميليشيات الرئيس الإيفواري الحالي، الحسن واتارا، قد أوقفت لوران غباغبو، بمساعدة الجيش الفرنسي، في 11 نيسان/ أبريل 2011، إثر أسابيعَ من مواجهات دامية، تلتْ إعلانَ اللجنة الانتخابية الإيفوارية عن هزيمته في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، وفوزِ غريمه بها. وقد تمّ احتجازه في بلده طيلة ثمانية شهور، قبل أن يُنقل في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى لاهاي، حيث أُودِع السجن ذاته الذي يقبعُ فيه الرئيس الليبيري السابق، تشارلز تايلور، المتّهم مثلَه بارتكاب جرائمَ ضد الإنسانية.
صحيحٌ أن رفضَ الرئيس الإيفواري السّابق تسليمَ مقاليد السلطة إلى الحسن واتارا كان السببَ المباشر لأعمال عنف طاحنة أودت بحياة مئات الإيفواريين، لكنْ من الصعب أن نصدّق كونَ محاكمته في لاهاي نقطةً فارقة في تاريخ القضاء الدولي أو فرصةً ذهبية لتسليط الضوء على الحرب الأهلية الإيفوارية، وتحديدِ المسؤوليات عن اندلاعها، وعمّا عرفته من أحداث أليمة. من الصعب تصديقُ ذلك، والمدّعي العام الدولي، لويس مورينو أوكامبو، يرفض النظرَ بعين الاعتبار إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان المذكّرة بمسؤولية قوات الحسن واتارا عن جزء من مآسي تلك الحرب. ويجعلنا إهمالُ تلك التقارير نتساءل عمّا إذا كانت الجنائية الدولية هيئةً لمحاكمة «المجرمين المغلوبين» دون غيرهم. لماذا لا توجِّه أصابعَ الاتّهام إلى غير الدكتاتوريين «المهزومين» ولماذا ــ في ما عدا «الحالة الكينية» اليتيمة ــ لا تحقِّق في انتهاك «الغالبين» لحقوق الإنسان؟ هل يُعقل، في حرب أهلية كالحرب الرواندية أو الكونغولية، أن ينتميَ المجرمون كلّهم إلى معسكر واحد؟ كذلك نتساءل: لماذا لا تُلاحق سوى الأفارقة منذ إنشائها في تموز/ يوليو 2002؟ هل أفريقيا هي القارةُ الوحيدة التي تُقترف فيها جرائمُ ضد الإنسانية؟
ومن اللافت للانتباه التوافقُ التّام بين حميّةِ الجنائية الدولية في «تخليص» العالم من بعض الطغاة، وحميّة بعض قادة القوى العظمى في «التخلص» منهم، لأنّ التحالفَ معهم أصبح مكلفاً على المستوى السياسي الداخلي، أو لأنّهم شقّوا عصا الطاعة، فوجب أن يدفعوا ثمنَ عصيانهم غالياً. لهذا السبب يأمر لويس مورينو أوكامبو بإحضار لوران غباغبو مقيّداً إلى العاصمة الهولندية، فيما يجتمعُ بصديق الناتو الحسن واتارا (علناً في أبيدجان في 14 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وسرّاً في باريس منذ أقل من أسبوعين)، رغم اتّهام قسم من المعارضة الإيفوارية له بإصدار أوامرَ أدّى تنفيذُها إلى عشرات الإعدامات غير القانونية. لذلك السبب أيضاً «يتفهم» لويس مورينو أوكامبو رفضَ السلطات الليبية، صديقة أميركا والاتحاد الأوروبي، تسليمَ سيف الإسلام القذافي إلى محاكم لاهاي، فيما «لا يتفهم» رفضَ بعض البلدان الأفريقية تسليمَ الرئيس السوداني عمر البشير.
لا تفسيرَ لذلك التناقص سوى شيء واحد: لا مصلحةَ لفرنسا في استدعاء الحسن واتارا للشهادة أمام الجنائية الدولية، لأنّه قد يفضح الدورَ الفرنسي المحوري في النزاع الإيفواري. ولا مصلحةَ لبعض دول الناتو في أن يكشف ابنُ العقيد القذافي مساعدتها لنظام والده في قمع المعارضة الليبية والتجسس على الليبيين (منح ترخيص لشركة أمسيس الفرنسية ببيعه منظومة إبجل لمراقبة مجموع شبكة الإنترنت الليبية).
لقد أصبح في حكم المسلّم به أنّ القوى العظمى تستخدم فزاعةَ الملاحقة أمام هذه الهيئة القضائية، لتُضعف موقف خصومها من الزعماء «الأشرار»، وأنّها لا تستهدف محاسبتَهم، بقدر ما تستهدف إقناعَهم بالانسحاب من المشهد لصالح أصدقائها الجدد «الأخيار». أليس أبلغ دليل على ذلك اقتراح الإدارة الأميركية على لوران غباغبو الاستقالةَ مقابل إيقاف المتابعات الجنائية ضدّه، ومنحِه اللجوءَ السياسي (كتاب الصحافي الكاميروني شارل أونانا، «كوت ديفوار: الانقلاب»، «Côte d›Ivoire, un coup d›Etat، 2011) وعرضُ وزير الدفاع الفرنسي، جيرار لونغي، صفقةً مماثلة على معمّر القذافي في 10 تموز/ يوليو 2011؟
شيء آخرُ يعابُ على العدالة الدولية هو أنّها إذْ لا تتابع غيرَ الأطراف المهزومة، صارت غطاءً لديكتاتوريات جديدة حلّت محلَّ تلك التي تريد القضاءَ عليها. في كوت ديفوار، يستغل الحسن واتارا تركيزَ الإعلام العالمي على جرائم لوران غباغبو لإرساء دعائم سلطة غير ديموقراطية (في يوم وصول هذا الأخير ذاته إلى لاهاي، ألقي في السجن بثلاثة صحافيين من جريدة معارضة هي Notre Voie). وفي رواندا، لا يزال الرئيس بول كاغامي يسعى إلى كتم صوت معارضيه بعدما «برأ ذمته» بتسليم بعض «المجرمين ضد الإنسانية» إلى محاكم لويس مورينو أوكامبو.

* كاتب جزائري