كيف أمكن حزب الله، بأيديولوجيته الدينية، الارتقاء في بيئة مذهبية متعددة ومتآمرة بعضها على بعض؟ لا بل أبعد من ذلك، كيف يستطيع ذلك الحزب الديني إدارة النظام السياسي الطائفي، بعد غياب الضابط السوري، بدون ان تدخل البلاد في حرب أهلية؟ إنّها براغماتية الحزب المتجددة.بعد انتخابه أميناً عاماً للحزب في أيار 1991، جعل عباس الموسوي من الوضع اللبناني الداخلي (السياسي والاجتماعي) من أولويات الحزب. فقد جعل من مقاومة الاهمال الرسمي للدولة اللبنانية عملاً مكملاً لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي. وبذلك يكون الموسوي قد افتتح مرحلة جديدة في تاريخ الحزب. مرحلة تقوم على استبدال نظرة الحزب الى السلطة السياسية من زاوية التباينات الطائفية، كما ورد في إعلانه التأسيسي الشهير، «بيان الى المستضعفين»، بالنظر الى السلطة من زاوية التباينات الاجتماعية.
لكن سرعان ما تم التخلي عن هذا المنحى المزدوج، الاصلاحي/ المقاوم، في سياسة حزب الله، ليس بفعل اغتيال الموسوي، بل لإدراك حزب الله المبكر لضرورة التخلّي عن التشدد العقائدي لصالح المرونة البراغماتية، شرطاً للنجاح في البيئة اللبنانية المتنوعة مذهبياً. استجابة لتلك البراغماتية، تم التخلي عن الدور الاجتماعي للدولة (باستبداله بالعمل الخيري) لصالح المقاومة.
اقتضت تلك البراغماتية عقد تحالفات مع الفاعلين الرئيسيين على الساحة اللبنانية، لا تضمن لحزب الله فقط استمرار مقاومته، بل تفسح له المجال لبناء هيمنته على الطائفة الشيعية، بما يعطيه لاحقاً قدرة «التأثير في التطوّر السياسي اللبناني انطلاقاً من وضع القوة ذاك»(جلبير الاشقر وميخائيل فارشفسكي، حرب الـ33 يوماً، دار الساقي). وبالمقابل ينأى حزب الله بنفسه (ويضبط قاعدته الشعبية الكادحة بواسطة شبكات الامان التي نسجها) عن أي ارتباط بالنظام السياسي والاقتصادي اللبناني.
ولأعوام خلت، استطاع الحزب حصاد ثمار براغماتيته تلك. فقد تمكن بفعل نجاحه المقاوم أن يمحو صورة الثمانينيات الايديولوجية المتشددة من ذاكرة التنوع اللبناني، وأن يكتسب شرعية، مكّنته من دخول الميدان السياسي والمؤسساتي، ليصبح إحدى القوى الاساسية الفاعلة على المسرح السياسي اللبناني، فضلاً عن هيمنته على الطائفة الشيعية، بعد استيعابه لحركة أمل في تحالف استراتيجي وثيق، لا فكاك لأمل منه، وذلك بعدما أصبح قوة عسكرية بأبعاد إقليمية.
تميزت تلك البراغماتية بطابعها المفرط، فنأى الحزب بنفسه بعيداً عن كل ما له علاقة بالنظام السياسي ــ الاقتصادي اللبناني، وكان لذلك عظيم الاثر السلبي على الحزب. وبدأت تتكشف الآثار السلبية لتلك البراغماتية المفرطة مع الانسحاب السوري في 2005. فالقبول بالمقاومة على مضض لم يأت جراء المكاسب المتحققة بفعل زهد المقاومة وتعففها تجاه النظام السياسي والاقتصادي القائم، بقدر ما كان إذعاناً للهيمنة السورية. إذ استطاع رفيق الحريري أن يرسي نيوليبرالية متوحشة كمنهج اقتصادي لعمليات إعادة الإعمار التي أدخلت البلاد في عملية نهب كانت «أكثر شراسة من إمارات الحرب في عملية تدميرها لمقومات بناء الدولة والوطن والمجتمع»، حسب تعبير نجاح واكيم. أيضاً ولأول مرة في تاريخ لبنان، يتمكن زعيم سني ليس فقط من تحقيق شبه إجماع للطائفة السنيّة خلف زعامته، بل في إنعاش الاسلام السني وفق البوصلة السعودية. وبذلك يكون الحريري قد تمكن ليس فقط من توطيد النفوذ السعودي في لبنان بشكل غير مسبوق (وهو بطبيعته معاد للمقاومة)، وإنما أيضاً في إيجاد بيئة مذهبية حاضنة لمشاريعه. وبالفعل فقد اصبح لكل مشروع سياسي ــ اقتصادي معارض لتوجهات رفيق الحريري (أصبح هذا الامر اكثر وضوحاً مع فؤاد السنيورة وسعد الحريري) تجذّر مذهبي سني مقابل.
جاء فشل تجربة التحالف الرباعي كنموذج لإدارة النظام السياسي اللبناني، بغياب أداة الضبط السورية، بمثابة إعلان انتهاء صلاحية براغماتية حزب الله بوجهها المفرط. فقد أصبح الحزب امام واقع مغاير لما عهده سابقاً، اذ لم يعد التعفف عن السلطة امراً محموداً، وكذلك لم يعد الافراط بالتنازلات مجدياً لاستيعاب المنحى التصعيدي لامراء الحرب. أكثر من ذلك، وجد الحزب نفسه مضطراً إلى التعامل مع الديموقراطية اللبنانية بما هي فخ يستهدف ربط شرعية المقاومة بالأكثرية النيابية.
فرض هذا الواقع السؤال المعضلة: هل يمكن الانخراط في إطار النظام السياسي اللبناني وتحييد المقاومة في آن؟ وهذا ما استتبع السؤال عن النموذج البراغماتي الذي يمكن ان يؤتى ثماره في البيئة الجديدة.
بعد أحداث أيار 2008، بدأت إرهاصات هذه البراغماتية بالبروز تباعاً، لتكتمل الصورة مع إسقاط حكومة سعد الحريري. تتألف تلك البراغماتية من ثلاثة عناصر مترابطة. يتمثل العنصر الاول بعدم الاخذ بالديموقراطية اللبنانية، وقد تمثل ذلك بانتزاع حق النقض لصالح الحزب داخل مجلس الوزراء، بعد اتفاق الدوحة. يقوم العنصر الثاني على كبح جماح أمراء الحرب، وذلك عبر إبراز الحزب استعداده لاستخدام القوة، وبدون ادنى تردد، متى تعلق الأمر بخطوطه الحمراء. وهذا ما أظهرته احداث ايار 2008 وحادثة القمصان السود، أما العنصر الثالث، فيتعلق بأولوية الشأن الاجتماعي ــ الاقتصادي داخل مجلس الوزراء، وهذا ما يتضح من خلال التركيز المتكرر لخطابات السيد حسن نصر الله على ضرورة جعل الشأن الاجتماعي للبنانيين أولوية حكومية.
لقد تمكن حزب الله بعد ثلاثة عقود من النضال العسكري، المغلف ببراغماتية مفرطة تجاه الداخل اللبناني، أن يقضي على فلسفة ميشال شيحا لدور لبنان الخارجي (الاستقلال المنقوص، والالتحاق بالقوة العظمى). تبدو هذه البراغماتية الجديدة وكأنّها قد باشرت بوضع الاسس لا لإنهاء ليس فلسفة شيحا الاقتصادية،فحسب، بل الدور التاريخي لأمراء الحرب.

* باحث لبناني