ثمة معلومة يتداولها السوريون على سبيل النكتة والسخرية، وهي أنّ النظام في سوريا هو القائد الحقيقي والفعلي للتظاهرات، وذلك لأنّ تصرفاته وطريقة إدارته للأزمة هي التي تدفع الناس إلى التظاهر ضده، عبر مقابلة كل خطوة بتصعيد أكبر، وإصرار أكبر.وخلف النكتة والسخرية التي تحملها العبارة، ثمة حقائق بالغة لا يمكن إنكارها، إذ إنّ الأخطاء الكثيرة والمكشوفة التي اقترفها النظام وأجهزته الإعلامية قد أسهمت إلى حد كبير في استفزاز الشارع، ودفعه باتجاه نزع الشرعية عن النظام، وخاصة إذا ما عرفنا أن لا أحد في سوريا في بداية الاحتجاجات كان يطالب بإسقاط النظام (الشعار لم يظهر إلا بعد ثلاثة أشهر من الاحتجاجات)، إذ كانت جل الشعارات هي «حرية حرية» وإسقاط لرموز الفساد والأمن الذين تجاوزوا القانون وأهانوا الناس. وكان الجميع يصرّ على أن يقود الرئيس المرحلة الإصلاحية، نظراً إلى الرصيد الإيجابي الذي كان يمتلكه حقاً عند الغالبية من السوريين.
أولى الصدمات الخفيفة تلقاها الشارع السوري من حديث الرئيس السوري مع صحيفة «وول ستريت جورنال»، الذي أحال الربيع العربي في تونس ومصر إلى أنظمة ابتعدت عن شعوبها، مؤكداً استمرار المسيرة الإصلاحية في سوريا! ابتلع الشارع الأمر على مضض، منتظراً إجراءات عملية بدأت تطل رويداً، عبر زيادة الرواتب وفتح فايسبوك وتويتر الذي اتضح لاحقاً أنّه لإجراءات أمنية، لملاحقة الناشطين وكشفهم، وليس بفعل إيمان النظام بالحرية، ونيته فتح البلاد وتحقيق الإصلاح المطالب به آنذاك.
لكن تصرفات الأجهزة الأمنية الرعناء، التي دخلت في تحدٍّ مع مجتمع محتقن منذ عقود، ويغلي بفعل الربيع العربي، منتظراً شرارة البدء، دفعت الناس إلى الشوارع، مرغمين.
ولعل أول تلك القرارات المستفزة قد تجلّى بالحكم على المدوّنة السورية طل الملوحي بالسجن خمس سنوات، بعد اتهامها بالتجسس، إذ تم إصدار الحكم في وقت كان فيه الشارع السوري ينتظر قرارات شجاعة برفع منع السفر عن الممنوعين منه، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإطلاق حرية الأحزاب. زاد الأمر من احتقان الشارع الذي عبّر عن ذلك بتغليف تظاهره، بدعم الثورات العربية في مصر وتونس وليبيا، عبر الاحتجاج أمام سفارات تلك الدول. لكن قمع السلطة للتظاهر ومنعها له، وخاصة أمام السفارة الليبية (سمحت بالتظاهر الجزئي أمام سفارتي تونس ومصر)، أسهم في تأجيج الناس، مع الطريقة التي تم التعرض بها لبعض الناشطين، مثل الناشطة سهير الأتاسي التي ضربت وأهينت أمام أعين رجال الشرطة الذين وقفوا يتفرجون في ساحة باب توما!
جاء التهديد الأول للنظام عند انطلاق أول تظاهرة حقيقية ذات طابع سياسي، من الجامع الأموي ودخولها في سوق الحميدية الشهير (مع حدوث احتجاج في سوق الحريقة قبل أسابيع، بسبب تعرض شرطي لمواطن، إذ تجمع حوالى ألف وخمسمئة شخص وهتفوا «الشعب السوري ما بينذلّ»).
إلا أن النظام صمّ آذانه وقام باعتقال من تمكن من التعرف عليهم في تظاهرة الخامس عشر من آذار، وأتبعه باعتقال أهالي السجناء السياسيين الذين تجمعوا أمام وزارة الداخلية. ولعل تعرض بعضهم للإهانة والاعتقال، وعلى رأسهم المفكر طيّب تيزيني الذي اختارته مؤسسة ألمانية بين أفضل مئة فيلسوف في القرن العشرين، أسهم في بلوغ الاحتقان عند الناس أوجه.
وبعدها بدأت أحداث درعا، التي فجرها أطفال ومراهقون، تعامل معهم مسؤول الأمن السياسي في درعا بوحشية قل نظيرها، وعمد الى إهانة أهلهم، لتشتعل المدينة بكاملها. وامتدت الشرارة إلى مدينة بانياس وبعدها حمص، لتبقى هذه المدن الثلاث تتظاهر وحدها لمدة شهر تقريباً، مترافقة مع تظاهرات طيارة هنا وهناك، إلى أن بدأت تكر سبحة الاحتجاجات ولتدخل المدن في أتون التظاهر، الواحدة بعد الأخرى.
وكان تعامل الأجهزة مع التظاهرات هو المولّد الرئيسي لكل احتجاج لاحق، فكلما زادت الأجهزة من عسفها توسعت التظاهرات في تحدّ يجعل المرء يتساءل: من أين أتى هذا الإصرار بعد عقود من الاستبداد الدامي؟
وإلى جانب الجهاز الأمني، كانت أجهزة الإعلام الرسمية بتخبطها واستفزازها السافر للمواطنين من أهم الأشياء التي دفعت الناس إلى الاحتجاج، وخاصة أنّها كانت تنفي وقوع الأخبار وتعود لتؤكدها في غباء مدهش قلّ نظيره في العالم كله، عدا عن قصص يتم تغييرها بين ليلة وضحاها، فمن المندسّين إلى مؤامرة بندر، إلى قصة الإمارات السلفية، ووجود أشخاص من حركة 14 آذار اللبنانية وضباط إسرائيليين في بعض مناطق الاحتجاجات، وصولاً إلى قصة العصابات المسلحة، وذلك في استغباء واحتقار لعقول الناس وتفكيرهم، من دون أن تفكر الأجهزة بأنّ المواطن الذي قلق من قصة بندر والإمارات سيسأل أين هي الآن؟ ولماذا لم يقدَّم دليل واحد بشأنها بعد مضي ثمانية أشهر؟ ولماذا لم يحل أحد من المتهمين إلى المحاكم، رغم أنّ القوانين الجديدة تجبر السلطات الأمنية على مثول الشخص أمام القضاء بعد اثنتين وسبعين ساعة فقط؟ ولم تتوقف الأجهزة لحظة لتفكر بأنّ المواطن سيقارن رواياتها السابقة بما يجري الكذب بشأنه الآن، ليكتشف وحده كل شيء، ومن أجهزة إعلام السلطة نفسها!
ولعل أمثلة مثل قصة أحمد البياسي واعترافاته، وقصة الهرموش الذي أكد وجود انشقاقات في الجيش، رغم نكران الإعلام كل ذلك سابقاً، ولا يزال! وقصة زينب الحصني، إذ أكد بطريقة غير مباشرة أنّه قتل زينب أخرى، وكأنّ هناك فرقاً بين زينب أو عائشة؟
وكأنّ السلطة والإعلام لا يهمهما هنا أن يدرك الناس أنّهما يكذبان، بقدر ما يهمهما خلق بلبلة وانقسامات حادة، سترتد عليهم بعد حين، وخاصة مع استمرار الانتفاضة التي يزيدها هذا الاستخفاف بعقول الناس تأججاً.
هكذا، كان لتخبط الثلاثي، سياسة ـــــ أمن ـــــ إعلام، وكذبه المفضوح، وطريقة تعامله مع الأزمة، أثر مستفز في دفع الناس إلى الاحتجاج، لأنّهم أدركوا أنّ نصف ثورة يعني الموت، إذ يقول لسان حالهم: هم في لحظات الضعف يفعلون ذلك، فماذا سيفعلون إذا استتبّت لهم الأمور؟ وخاصة أنّ سلوك السلطة حتى اللحظة يدل على أنها مصممة على الاحتفاظ بمفاتيح كل شيء أو أن تخسر كل شيء!

* شاعر وكاتب سوري