إنّ وصف ما يجري منذ عام في العالم العربي بأنّه «صحوة» عربية، لا ينم عن جهل بتاريخ القرن الماضي فحسب، بل يقدم حجة استشراقية بأنّ الشعب العربي المستكين، الذي لم يثر على الطغيان الذي أخضعه لعقود خلت، استيقظ أخيراً، وفجأة، من سبات عميق. لقد ثار العرب في جميع أنحاء العالم العربي ضد الاستبداد الاستعماري والمحلي، في كلّ عقد، منذ الحرب العالمية الأولى. لكن القوى الأوروبية الاستعمارية، ووريثها الأميركي، هي من كانت تعترض سبيلهم، وتضع العراقيل أمام كل خطوة قاموا بها، وبتحالف مقيت مع حكامهم المستبدين وأسرهم «الحاكمة» (وكان الغرب، في كثير من الحالات، هو من ينتقي الحكام المستبدين ويتوّجهم على العروش).
إذن فإنّ التحديات الشعبية الراهنة للديكتاتوريات العربية التي يرعاها الغرب ليست بدعة جديدة في التاريخ العربي الحديث. فقد شهدنا ثورات مماثلة ضد الاستعمار الأوروبي في المنطقة منذ حلوله في الجزائر في١٨٣٠، وفي مصر في ١٨٨٢. واتسمت الثورات في سوريا في العشرينيات ضد الحكم الفرنسي، وفي فلسطين، على وجه الخصوص، في فترة ١٩٣٦ ــ ١٩٣٩، ضد الاستعمار البريطاني والاستعمار الصهيوني الاستيطاني، بالضخامة، وفقاً للمعايير العالمية. والواقع أنّ الثورة الفلسطينية ألهمت آخرين في العالم المستعمَر، وظلّت مصدر إلهام للعرب، حتى نهاية القرن العشرين وما تلاه. وقد تواصلت المقاومة المناهضة للاستعمار بمعارضة الأنظمة العربية التي فرضها الاستعمار في كلٍّ من الأردن ومصر والبحرين والعراق وشمال وجنوب اليمن، وفي سلطنة عُمان والمغرب والسودان. أما الثورة الجزائرية المجيدة، فقد انتصرت وحققت الاستقلال في ١٩٦٢، حين دحرت الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. وبذلك سقطت إحدى المستعمرتين الاستيطانيتين الأوروبيتين في العالم العربي، فيما بقيت الثانية، في فلسطين. أما على الجبهة الاستعمارية التقليدية، فقد بقي معظم الخليج العربي محتلاً من قبل البريطانيين، بانتظار التحرير في الستينيات وأوائل السبعينيات.

بعد حرب ١٩٦٧

في خضم النظرة السوداوية التي هيمنت على العالم العربي بعد هزيمة ١٩٦٧، كان التحدّي الذي شكلته المقاومة الفلسطينية والفدائيون لقوة إسرائيل الاستعمارية الذي تمثّل في معركة الكرامة في آذار/مارس ١٩٦٨ (على الرغم من مبالغات عرفات العديدة في سرده لمآثره في المعركة)، قد أحيا الأمل في نفوس عشرات الملايين من العرب، وأعاد كذلك القلق للديكتاتوريات العربية النيوكولونيالية. وقد مثلت الثورة الفلسطينية مصدر إلهام للعديد من الشعوب، لكنّها لم تكن منبتة الصلة عن جهود ثورية أخرى في أنحاء عديدة من العالم الثالث عموماً، وفي الدول العربية على وجه الخصوص، وتلك بدورها قدمت الإلهام للفلسطينيين أيضاً.
وقد جاءت أولى بشائر انتصار الثورة ضد الاستعمار في العالم العربي، بعد هزيمة حزيران/يونيو ١٩٦٧، من شبه الجزيرة العربية. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٧، ألحق ثوار اليمن الجنوبي بالبريطانييين هزيمة نكراء وحرروا بلادهم من نير الاستعمار البريطاني الذي حكم عدن منذ ١٨٣٨. وعلى اثر ذلك التحرر، أقام اليمنيون جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، التي استمرت مدة ٢٢ عاماً، قبل أن تطاح ويجري حلّها في نهاية المطاف على يد الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وحلفائها السعوديين.
وفي عُمان المجاورة، دخل الصراع المستعر لتحرير البلاد مرحلة جديدة تحت قيادة «الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي»، التي أُعلنت في أيلول/سبتمبر ١٩٦٨، نتيجة اندماج عدد من الحركات الثورية العُمانية التي كانت ثائرة آنذاك على السلطان سعيد بن تيمور المدعوم من بريطانيا. وقد حررت «الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي» أراضي إقليم ظفار، واتخذتها قاعدة لشن الهجمات لتحرير باقي البلاد. وكانت حركات التحرر الوطني في الواقع نشطة في جميع أنحاء الخليج، لا سيما في البحرين التي انخرطت في بوتقة النضال من أجل التحرر الوطني فيها حركات عمالية ونسائية وطلابية، موحدين جميعاً ضد الحكم الاستعماري البريطاني وخدمهم المحليين.

القمع

أصر تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وإسرائيل على سحق كلّ الجماعات الثورية التي كان بالإمكان هزيمتها، وعلى احتواء تلك التي لم يتمكن من سحقها. واستُهلت الحملة القمعية بمنطقة الخليج. وقد واصلت البحرين، التي كانت مسرحاً للنشاطات العمالية المناهضة للاستعمار لعقود، نضالها ضد الهيمنة البريطانية والعائلة الحاكمة المتحالفة مع الاستعمار البريطاني. وقد اضطرت بريطانيا، بعد انسحابها من اليمن الجنوبي، ونتيجة التهديد المستمر الذي كان يتعرض له وكيلها في عُمان، إلى نقل قيادتها العسكرية إلى البحرين، وهي الخطوة التي تبعها تدفق استثمارات ضخمة لرؤوس الأموال البريطانية على البلاد (وهو ما كان عليه الحال أيضاً في دبي). وقد جلبت تلك التطورات، كما كان متوقعاً، قمعاً أكبر ضد الشعب البحريني وحركة تحرره الوطني. وفي هذا السياق، في الواقع، أعلن شاه إيران مطالبته بأرض البحرين، وهدد بضمها إلى إيران بوصفها «المحافظة الرابعة عشرة.» ولم تُكبح طموحاته الإقليمية إلا بعدما ضمن له حلفاؤه الغربيون والأمم المتحدة في ١٩٧٠ حق إيران بالدخول باستثمارات ضخمة وبرؤوس أموال إيرانية في الدول العربية الصغيرة قيد الإنشاء في الخليج، بما في ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة، مما أدى إلى تخلي الشاه عن مطالبته بالبحرين. وقد عبرت الدول الغربية عن امتنانها لشهامة الشاه وكرمه، بمكافأته على الصعيدين الدبلوماسي والسياسي.
أما على الجبهة الأردنية، فقد رد جيش الملك حسين في أيلول/سبتمبر١٩٧٠ على انتصارات الثوار الفلسطينيين بشن هجوم شامل على قواعدهم في الأردن، ملحقاً الهزيمة بهم. وقام بطردهم من البلاد بالكامل في تموز/يوليو ١٩٧١، مقوضاً بذلك أيضاً الحركات اليسارية الأردنية المناهضة للحكم الديكتاتوري في البلاد. لكن على الرغم من ذلك، فقد واصلت منظمة التحرير الفلسطينية العمل ضد إسرائيل والديكتاتوريات العربية من قاعدتها القوية في لبنان.
أما في السودان، فقد واصل الحزب الشيوعي تعزيز حضوره في أواخر الستينيات، وحتى انقلاب جعفر النميري في ١٩٦٩، الذي لم يتمكن في البدء من تهميش الشيوعيين بالكامل، إذ انتظر للقيام بذلك حتى تثبتت دعائم نظامه في ١٩٧١، مقتنصاً فرصة فشل محاولة انقلاب ضد حكمه الاستبدادي، إذ شن حملة اعتقالات واسعة شملت آلاف الشيوعيين وقام بإعدام جميع قادة الحزب الأساسيين، مدمراً بذلك أكبر حزب شيوعي في العالم العربي. واستمرت ديكتاتورية النميري حتى ١٩٨٥. وبعدما فشل النضال الديموقراطي ضده، أدى ذلك إلى استيلاء مرشح المملكة السعودية عمر البشير على السلطة في ١٩٨٩ سائراً على خطى النميري.
و لم يتبق مع أوائل السبعينيات من هذا الزخم الثوري سوى «الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي» التي استمرت بالتقدم. وقد بذل تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وإسرائيل جهداً هائلاً لهزيمتها. وتم لهم ذلك من خلال التعاقد مع شاه إيران والعاهل الأردني للقيام بالمهمة. إذ قام الديكتاتوران بإرسال وحدات عسكرية تابعة لجيشيهما، مدعّمة بمستشارين عسكريين بريطانيين، إلى سلطنة عُمان. وقد تمكنت تلك القوات في نهاية المطاف من سحق الثورة وإلحاق الهزيمة بها، محافظين بذلك على عرش السلطان قابوس، الذي كان قد أطاح والده السلطان سعيد في ١٩٧٠ بانقلاب قصر خطط له البريطانيون. ومع هزيمة الثوار العُمانيين في ١٩٧٦، ظلت منظمة التحرير الفلسطينية الحركة الثورية الوحيدة التي نجت من هذه الهجمة الشرسة إلى جانب دولة اليمن الجنوبي الفقيرة والضعيفة، والتي ابتلعتها في النهاية اليمن الشمالي المدعومة سعودياً في ١٩٩٠.

الاحتواء

ولضمان أنّ الثورة الفلسطينية، التي هزمت جزئياً في الأردن لن تصوّب سلاحها ضد أي نظام عربي آخر، أخذت الأموال السعودية والخليجية بالتدفق على خزينة منظمة التحرير الفلسطينية. وقد تمكنت تلك التدفقات النقدية بالفعل من تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى حركة تحرير «تقدمية» يتم تمويلها من قبل أكثر الأنظمة رجعية في العالم الثالث. وعلى وقع هذا التمويل الهائل الذي أخذ يتلقاه ياسر عرفات بُعيد حرب ١٩٧٣ من كل الديكتاتوريات العربية المتخمة بالثروة النفطية، من القذافي إلى صدام حسين وصولاً إلى جميع ممالك وإمارات الخليج، بدأ القائد الفلسطيني السير في طريق أوسلو. وقد أدى تدجين منظمة التحرير الفلسطينية ذاك إلى اعتراف الأنظمة العربية بها في ١٩٧٤، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما كان السبب الرئيس لتأييدهم لها في الأمم المتحدة في العام ذاته. في واقع الأمر، وصل تحالف عرفات الرجعي مع الطغاة العرب حد تعاون بعض أجهزة استخبارات منظمة التحرير الفلسطينية معهم لتبادل المعلومات الاستخبارية عن معارضيهم، بما في ذلك قيام جهاز استخبارات «أبو الزعيم»، التابع للمنظمة، بتسليم المعارض السعودي ناصر سعيد في كانون الأول/ديسمبر ١٩٧٩ إلى الاستخبارات السعودية، بناءً على طلب من السفير السعودي في لبنان. واختفى سعيد من بعدها، ويرجح أنّ السلطات السعودية قامت بتصفيته. أما على الجبهة الدبلوماسية والتضامنية، فقد رفض عرفات الاعتراف باستقلال الصحراء الغربية الذي أعلنته في ١٩٧٦ جبهة البوليساريو (المتضامنة مع الشعب الفلسطيني)، احتراماً منه لتحالفه مع الملك الحسن الثاني (المتعاون في حينها وحتى آخر يوم في حياته مع
إسرائيل).

الانتفاضات الجديدة

بما أنّ الحركات الثورية الفلسطينية هي الوحيدة التي بقيت، في نظر الولايات المتحدة والقوى الكولونيالية الأخرى، غير مدجنة بالكامل، على الرغم من أنّها كانت، من وجهة نظر الأنظمة العربية، قد دُجنت بما يكفي، فقد جاء التحدي الجديد في ١٩٨٧ من جانب الشعب الفلسطيني نفسه الذي انتفض في وجه محتليه الإسرائيليين. وإذ كانت انتفاضته تلك هي ثاني أكبر انتفاضة فلسطينية في نصف قرن (ينظر إليها الكثيرون الآن على أنّها ملهمة الانتفاضات الحالية في العالم العربي)، فكان لا بد من سحقها. وبذل الإسرائيليون قصارى جهدهم لهزيمتها، لكن جهودهم باءت بالفشل. وسرعان ما قامت منظمة التحرير الفلسطينية بالاستيلاء على قيادة وسير الانتفاضة خشية أن تبرز قيادة فلسطينية جديدة تحل محل سلطة المنظمة في تمثيل الفلسطينيين. ومع استيلاء منظمة التحرير على الانتفاضة، بدأت جهود الإسرائيليين والأميركيين تتحوّل باتجاه احتواء منظمة التحرير، وتحييد قدرتها على إفساد السياسة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وقد جاء في هذا السياق التوقيع على اتفاق أوسلو في ١٩٩٣، الذي حوّل منظمة التحرير الفلسطينية بالكامل من قوة تهدد الديكتاتوريات العربية وراعيتهم الإمبراطورية الأميركية والاحتلال الإسرائيلي، إلى عميل لكل منهم، تحت مسمى «السلطة الفلسطينية»، التي ستصبح عوناً للاحتلال الإسرائيلي بتحالف بغيض مع طغاة الخليج والولايات المتحدة. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، سوف تصوب بنادق منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية صوب الشعب الفلسطيني وحده.
يتبع تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وإسرائيل في المنطقة اليوم الاستراتيجيات نفسها التي اتبعها في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، مواصلاً أيضاً استخدام الإستراتيجية التي اتبعها مع منظمة التحرير الفلسطينية، في أوائل التسعينيات. يقوم هذا التحالف من جديد اليوم بسحق ما يمكن سحقه من الانتفاضات، واحتواء تلك التي لا يمكن هزيمتها. وقد قطعت الجهود المبذولة لاحتواء الانتفاضتين التونسية والمصرية أشواطاً كبيرة في الأشهر القليلة الماضية، على الرغم من أنّها لم تنجح في إسكات أو تسريح الشعبين المعبأين. وعلى الجانب الآخر، كانت الانتفاضة في البحرين أول انتفاضة يسحقها التحالف، فيما يواصل دون هوادة جهوده الحثيثة في سبيل سحق انتفاضة الشعب اليمني. أما اختطاف الانتفاضات والسيطرة عليها كلياً، فكان من نصيب الانتفاضتين في ليبيا وسوريا. فبينما يواصل السوريون، شأنهم شأن الليبيين من قبلهم، انتفاضتهم الباسلة ضد نظام قمعي وحشي مطالبين بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية، فإنّ نضالهم قد بات محسوماً بغير ما تشتهي سفنهم، وحُكم عليه بالفشل، وهو ما لا يمكن تداركه إلا إذا تمكنوا من إخراج محور الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وقطر الذي نصب نفسه قائداً لثورتهم، وهو أمر بات بعيد المنال.

الفلسطينيون

ويحملنا هذا إلى الساحة الفلسطينية. فقد كانت الانتفاضة الفلسطينية في ١٩٨٧ أول انتفاضة شعبية مدنية وغير مسلحة منذ عقود. وقد قررت الولايات المتحدة احتواء الانتفاضة عقب سقوط الاتحاد السوفياتي والغزو الأميركي الأول للخليج، من خلال منح مزايا سياسية ومالية لطبقة البيروقراطيين المتنفذة داخل منظمة التحرير الفلسطينية التي ستمضي بالمقابل قدماً في التخلي عن النضال الفلسطيني. وبناءً على هذه الترتيبات الجديدة، قام عرفات بتقويض الانتفاضة الفلسطينية في أوسلو في ١٩٩٣، وبينما كان شعبه لا يزال يعيش مشرداً أو يرزح تحت الاحتلال كان هو يشارك في السهرات الاحتفالية وحفلات العشاء مع قادة إسرائيل والولايات المتحدة.
وبينما كان الفلسطينيون يقضّون مضاجع الأنظمة العربية بعد ١٩٦٨، خشية أن يلهموا ويساعدوا إخوانهم العرب في الثورة على طغاتهم، فقد باتت السلطة الفلسطينية، اليوم، هي من يشعر بالقلق من أن تلهم الانتفاضات العربية فلسطينيي الضفة الغربية بالثورة على السلطة الفلسطينية، التي تواصل التعاون الأمني المكثف مع الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي. وفيما أخفقت الجهود الإسرائيلية، في أواخر السبعينيات، في إنشاء هيئة سياسية من المتعاونين الفلسطينيين من خلال «روابط القرى» سيئة الذكر، فإنّ السلطة الفلسطينية اليوم ليست «روابط المدن» كما سماها العديد من الفلسطينيين، بل هي بمثابة «الرابطة الوطنية» للمتعاونين الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي، في حضر وريف وبوادي فلسطين بأجمعها. إنّ محاولة السلطة الفلسطينية في الآونة الاخيرة انتزاع الاعتراف بها كدولة من قبل الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو ليست سوى محاولة للخروج من حالة الركود الحالي في «عملية السلام» المتوقفة والمفاوضات العقيمة مع الإسرائيليين قبل أن يثور الفلسطينيون عليها، لا سيما مع تناقص المزايا التي تمنحها عملية أوسلو للمستفيدين منها.
كان أمام السلطة الفلسطينية في مواجهة انهيار ما يسمى«عملية السلام» طريقان: إما أن تقوم بحل نفسها وتتوقف عن لعب دور وكيل الاحتلال، أو أن تواصل التعاون مع الاحتلال من خلال ترسيخ نفسها أكثر، عبر انتزاع اعترافات دولية ستساعدها على الحفاظ على السلطة ومزاياها. وقد اختارت السلطة الفلسطينية الخيار الثاني تحت ذريعة «دعم الاستقلال الوطني الفلسطيني». ولا نعرف إلى الآن مدى نجاح أو فشل تلك المحاولة، لكن ما نعرفه هو أنّ نجاحها أو فشلها سيكون كارثياً بالمقدار نفسه على الشعب الفلسطيني الذي لن يحقق استقلاله ويهزم الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، طالما بقيت السلطة الفلسطينية تقوده.
كما سبق وعرضت في مقالات سابقة، فإنّ الخلاف بين السلطة الفلسطينية من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، هو حول شروط ومساحة الأراضي المتناثرة التي ستحوّل إلى بانتوستانات وتُعطى للسلطة الفلسطينية، وكذلك حول طبيعة وكمية الأسلحة وحجم قوة الشرطة التي سيكون بمقدور السلطة استخدامها لقمع الشعب الفلسطيني، مع ضمان أنّ هذه الأسلحة لن تقع بأيدي من سيتستخدمونها ضد إسرائيل. فإن أظهرت إسرائيل بعض المرونة في هذا الشأن، عندئذ سيتم الاعتراف بالبانتوستانات في أسرع وقت على أنّها «دولة فلسطينية ذات سيادة»، دون أن يضطر أي مستوطن يهودي غير شرعي التخلي عن أي شبر من الأراضي المسروقة من الفلسطينيين والعودة إلى بروكلين، بلد المنشأ للكثير من المستوطنين اليهود المستعمرين. والسيناريو الذي تحاول السلطة الفلسطينية إقناع إسرائيل والولايات المتحدة به، هو أنّه إن لم يقوما بمساندتها في القريب العاجل، فإنّ فلسطينيي الضفة الغربية سيثورون عليها، مما سيعود بنتائج وخيمة على إسرائيل والولايات المتحدة. أما الولايات المتحدة وإسرائيل بدورهما، فلا تزالان غير مقتنعتان بحجج وتحذيرات السلطة.

ويستمر النضال

أما في السياق العربي الأكبر، فإنّ رعاية الولايات المتحدة وأوروبا للثورات المضادة الجارية في مختلف أنحاء العالم العربي اليوم هي استمرار للتقاليد الامبريالية العريقة، كما أنّ استمرار المقاومة العربية للإمبريالية والاستبداد المحلي هو أيضاً استمرار لتقاليد المقاومة العربية العريقة. فلا تزال الانتفاضات التي بدأت من تونس في كانون أول/ديسمبر ٢٠١٠ مستمرة على قدم وساق على الرغم من نكسات كبرى حلّت بها جميعاً. وهذا لا يعني أنّ الأمور لم تتغير أو أنّها لم تتغير بشكل كبير، بل يعني أنّ هذه التغييرات يمكن إبطالها وإعادة الكثير منها إلى ما كانت عليه من قبل، وهو بالفعل ما تقوم به الثورات المضادة التي تعمل جاهدة على ذلك. فعلى الذين يناضلون من أجل التغيير الديموقراطي والعدالة الاجتماعية أن يكونوا متيقظين في تلك الأوقات من الاضطرابات والحشد الامبريالي الهائل، إذ إنّ اليقظة ضرورية وأساسية لنجاح مساعيهم. قد يكون المنتفضون قد خسروا بعض المعارك المهمة في العام الماضي، ولكن حرب الشعوب العربية ضد الإمبريالية، وفي سبيل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية لا تزال مستمرة في جميع أنحاء العالم العربي.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك