لا شكّ في أنّ محطة «إم.تي.في» لم تأتِ من عدم. هي نتاج لتاريخ مُعاصر من الإعلام المتناغم أو المُتحالف (في سنوات الحرب الأهليّة فقط) مع دولة العدوّ الإسرائيلي. ولا يمكن تحليل الدور المشين لمحطة «إم.تي.في» في السياسة اللبنانيّة، من حيث التحريض الطائفي والمذهبي الصريح، إلى إرسال الإشارات الإيجابيّة للعدوّ الإسرائيلي، من دون الرجوع إلى بداية الإعلام الكتائبي المُتحالف مع إسرائيل. «صوت لبنان» هو الإعلام الأم الذي أنتج (من حيث الذهنيّة وصناعة الخبر) في ما بعد «إل.بي.سي» وبعدها «إم.تي.في». وكل واحدة من تلك الوسائل تضيف إلى سابقتها وتتخطّاها في الكراهية.«صوت لبنان»، تلك المحطّة الكتائبيّة التي بدأت بالضخ في 1958 بعد ورود المساعدات الإسرائيليّة، أدت دوراً دعائيّاً أساسيّاً في الحرب الأهليّة. نعلم اليوم أنّها كانت تعمل بإشراف إسرائيلي: اعترف واحد من المُتهمين «المرموقين» بالعمالة لإسرائيل، بأنّه إلتقى صديقه الإسرائيلي «المُشغّل» في محطة «صوت لبنان». كانت المحطة تستورد تعابير العدوّ الإسرائيلي ومصطلحاته لتدخله إلى عقول اللبنانيّين واللبنانيّات. ولا شكّ في أنّ المحطة كانت مسموعة حتى في بيروت الغربيّة، وساعدت في بلورة رأي عام عنصري مُناهض للثورة الفلسطينيّة في لبنان، على مرّ السنين. كانت «صوت لبنان» لا تشير إلى الفلسطينيّين إلّا بعبارة «مخرّبين» (وهي العبارة التي انتقتها إذاعة العدوّ باللغة العربيّة، قبل أن يعثر مستشرقو جيش الإرهاب الإسرائيلي على كلمة إرهابي) أو «إرهابيّين». وكانت على خطى محطتها الأم في إسرائيل تسمّي المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان «معسكرات» (ولا يزال بعض قادة 14 آذار يستعمل المصطلحات نفسها. كذلك، تحدّثت محطة «إم.تي.في»، قبل أيّام، في تقرير مقيت وعنصري، عن المخيّمات الفلسطينيّة، عن منظمات «إرهابيّة»).
وممّا أعان «صوت لبنان» أنّ الدعم الإسرائيلي للقوّات اللبنانيّة (الإسرائيليّة الهوى) أتاح لها أن تبثّ بقوّة على الأراضي اللبنانيّة، فيما كانت المحطات المناهضة تعاني من ضعف (المال الليبي كان شحيحاً أحياناً، كذلك فإنّ بعض الأمناء العامّين لأحزاب الحركة الوطنيّة أفرطوا في الرفاهية والتنعّم). صحيح أنّ محطة «صوت لبنان العربي» قامت بدور في منافسة «صوت لبنان»، إلا أنّ الأخيرة كانت مسموعة أكثر، في غياب الإحصاءات الدقيقة. وبرعت المحطة (مستعينة على الأرجح بجواسيس إسرائيل في لبنان) في بثّ تقارير سريعة وعاجلة عن انفجارات واشتباكات واضطرابات ـــــ وكان بعضها حقيقياً وبعضها الآخر مُختلقاً تماماً، للتأثير على معنوّيات الناس ـــــ في مناطق مختلفة من لبنان. نذكر أحياناً في بيروت الغربيّة أنّ المحطة كانت تسارع إلى بثّ نبأ عاجل عن اشتباك أو عن انفجار في منطقة ما وتكون (أو تكونين) أنت فيها من دون أن يكون هناك أي شيء من هذا القبيل. وكان هناك من يقول إنّ المحطة كانت تبثّ أخباراً عن انفجارات قبل حصولها، لكن هذا يدخل في باب التكهّن، في غياب قرائن وإثباتات (يمكن أن ننتظر سنوات لفتح الأرشيف الصهيوني). وكانت المحطة كذلك تجاهر بضخ العنصريّة ضد الشعب السوري وضد البشرة السوداء والسمراء. من يذكر تقارير تلك المحطة المشينة عن العثور على جثث «مرتزقة صوماليّين» بين صفوف المقاتلين الفلسطينيّين؟ وكانت صحيفة «العمل»، وغيرها من صحف العدوّ المزروع بين ظهرانينا، تنشر صور جثث لفلسطينيّين ذوي البشرة الداكنة (كما دأبت محطات أعوان إسرائيل الجدد والقدماء في حرب تمّوز على بثّ خبر إسرائيلي عن العثور على جثث إيرانيّين في جنوب لبنان)، وقد يكون مصدر تلك الأخبار هو مصدر الأخبار ذاته عن «براهين» (أكيدة بنظر فارس خشّان الذي هتف في حرب تمّوز من على شاشة «إل.بي.سي» «كلنا إسرائيليّون») لوجود جنود إيرانيّين أو (و) جنود لحزب الله في سوريا أو لعناصر «جيش المهدي». ومحطة «صوت لبنان» كانت تصرّ على حشر التحليل والتفسير الطائفي والمذهبي، في كل ما تبثّ، حتى قبل زمن الحريري البغيض الذي أوصل السعار المذهبي والطائفي إلى حدّ لم يبلغه لبنان في تاريخه. وكانت تقارير «صوت لبنان» حريصة على تبرئة إسرائيل من كل ذنب حتى عندما تقصف وتجتاح وتقتل وتحرق وتحتلّ، وقد فعلت فعلها في الإعداد للغزو الإسرائيلي في 1978 و1982.
لكن الحرب الأهليّة انتهت ولم ينته الإعلام الحربي الموالي لإسرائيل. لم يكن إنشاء «إل.بي.سي» سرّاً من الأسرار. فقد أنشأت مجموعة بشير الجميّل تلفزيوناً خاصاً كي يُواكب باقي أدوات الإعلام الموالي لإسرائيل. لم يكن بيار الضاهر إلّا واحداً من الفريق الحربي في الحلقة المحيطة ببشير الجميّل (هناك شريط قديم له على «يوتيوب» وفيه يكرّس المحطة لخدمة «المقاومة اللبنانيّة» ـــــ يعني ميليشيات إسرائيل في لبنان). ولقد استفادت «إل.بي.سي» في صعودها من عوامل عدّة. قد تكون استفادت، مثلها مثل «صوت لبنان»، من دعم إسرائيلي وأميركي، وغيره في البدايات. لم يكن إعلام «القوّات اللبنانيّة» لبنانيّاً على الإطلاق (كان ذلك قبل زمن سمير جعجع وحلفه الوثيق هذه الأيّام مع دولة الإمارات والكويت والسعوديّة). كذلك إنّ زمن صعود «القوّات» ساهم في إضفاء صدقيّة دعائيّة على إعلامهم، حتى لو كان الكذب والاختلاق والخداع عنصراً ثابتاً في إعلامهم. ثالثاً، كانت محطة «إل.بي.سي» سبّاقة في الانطلاق، ما أعطاها أفضليّة في السبق. ولا ينفصل هذا الانطلاق عن الخبرة التي كانت الحركات الصهيونيّة (المسيحيّة واليهوديّة) في الغرب تمدّ بها القوات وأجهزتها، بالإضافة إلى المعونة. طبعاً، ليست محطة القوّات، «إل.بي.سي»، كما كانت عليه آنذاك، لا من ناحية الصراع التجاري (المحض) بين جعجع والضاهر، بل من حيث تفجّر المحطات الفضائيّة العربيّة والإصرار السعودي على السيطرة.
لكن المحطة تميّزت. تميّزت بإضفاء شرعيّة إعلاميّة «وطنيّة» على التنميط الطائفي وعلى الــ(لا) منطق الطائفي والمذهبي. أنا زرت محطة «إل.بي.سي» مرتيْن قبل اغتيال الحريري بدعوة من مي شدياق في برنامجها «نهاركم سعيد». كانت المرّة الأولى في 2003، وأذكر عندما وصلت أنّني لاحظت أنّ كل الشاشات كانت متسمّرة على محطة « تيلي لوميير». ما إن جلست في غرفة الانتظار حتى انهالت عليّ الأسئلة من كل حدب وصوب: «شو دكتور؟ متى تأتي أميركا إلينا لتخلّصنا؟» كذا. «ألن يمرّوا من العراق نحوَنا». كان واضحاً أنّ الجماعة وضعوا فرضيّات سياسيّة (وطائفيّة؟) عنّي. أجبتهم بما لم يسرّهم. ساد الصمت المطبق وطاف التوتّر. وعندما ظهرت مع الشدياق على الشاشة، انتظرت أوّل فقرة إعلانيّة كي تسألني: «إنت شو؟» تصنّعت البراءة الشديدة وأجبتها: ماذا تعنين؟ قالت: «إنت سنّي؟ شيعي؟ مسيحي؟ مش قادرة أعرف؟». لم أكن أحتاج إلى تلك الزيارة كي أدرك أنّ المحطة غارقة في الذهنيّة الطائفيّة الصريحة، وتلك الذهنيّة عادت وسادت بوضوح أكثر قليلاً في محطة «إم.تي.في».
بدا الدافع الطائفي في إنشاء «إل.بي.سي» (و«إم.تي.في» في ما بعد) ليس فقط في الخطاب الصريح، بل في غياب التنويع الطائفي في الضيوف أو العاملين والعاملات (طبعاً، عمد بيار الضاهر أخيراً إلى إحداث تنوّع سياسي وطائفي وذلك لأهداف تجاريّة تتعلّق بخلافه غير السياسي مع سمير جعجع). والتغطية هي طائفيّة من حيث المناطق التي تحظى بالتغطية والاهتمام. فهناك مناطق في بعلبك الهرمل أو البقاع أو الجنوب أو عكّار لا تنتمي إلى لبنان، باستثناء تلك «المناطق» التي تتعاطف معها المحطة طائفيّاً. استطاعت «إل.بي.سي» (وبعدها «إم.تي.في») أن ترسم معالم وطن مُتخيّل لا ينسجم مع الخريطة الجغرافيّة أو مع الواقع الديموغرافي. فالجنوب هو بعض القرى غير الشيعيّة، حيث يجري احتفال بين حين وآخر للقوّات أو الكتائب، وزحلة تختصر البقاع. (لكن الجنوب يحضر بقوّة عندما تتذكّر «إل.بي.سي» و«إم.تي.في» عملاء إسرائيل وعائلاتهم الذين فرّوا مذعورين إلى إسرائيل). أما جبيل فهي ليست تلك المنطقة التي تنوّعت طائفيّاً لقرون، بل منطقة مسيحيّة تعرّضت لتطفّل من غزاة الشيعة. حتى حوادث السير وانقطاع الكهرباء وتطورّات الطقس تبقى محض مناطقيّة وطائفيّة.
وقد أثّرت «إل.بي.سي» على سائر الفضائيّات العربيّة في تصوير المرأة: الهدف هو «البورنو» من دون عري (حتى إشعار آخر) لاستثارة الغرائز في مجتمع يزهو بممنوعاته وكبته. تخصّصت المحطة في تصدير نموذج (لا) جمالي للمرأة اللبنانيّة إلى دول الخليج والدول العربيّة، وإلى باقي الشاشات العربيّة التي تقلّد التقليد اللبناني المبتذل للرجل الأبيض. المرأة العربيّة على الشاشة جميلة بقدر ما تبتعد عن ذاتها: ناجحة وجميلة بقدر ما تنجح في تقليد المرأة الغربيّة البيضاء. المرأة ليست إلا سلعة للتصدير إلى أسواق الخليج، في مفهوم صناعة الثقافة الجنسيّة (لا الجنسويّة) من على شاشة «إل.بي.سي» أو «إم.تي.في» في ما بعد. وتستطيع «إل.بي.سي» أن تزهو بكونها بدأت بالترويج لفنّ يعتمد على الشكل والإيحاء الجنسي، أكثر من التركيز على الموسيقى أو الغناء. ونقد المفاهيم الثقافيّة (بالمعنى التجاري السلعي) لا يعني الموافقة على التزمّت الديني (يجمع الإعلام السعودي بين شاشات «البورنو» من دون عري والتزمّت الديني الرجعي). لكن الحريّة الاجتماعيّة والجنسيّة لا تكون على حساب المرأة واحترامها (عقلاً وجسداً). ولم تكن سابقة «إل.بي.سي» في إدراج اللهجة اللبنانيّة للغة العربيّة (أو هي «اللغا اللبنانيّي» كما يسمّيها أدعياء الوطنيّة الفينيقيّة) كبديل من الفصحى كلّما أمكن وبطريقة تحاكي لهجة بشير الجميّل. لكن «إل.بي.سي» وقعت في فخ: لم تستطع أن تمضي بعيداً في معاداة العربي (مع أنّ برامجها الكوميديّة غير المُضحكة تزخر بالسخرية من العربي كعنصر). إنّها تحتاج إلى أسواق الخليج للدعاية وللترويج وللتمويل. عندها، واءمت بين عقيدتها الشوفينيّة الضيّقة وعروبة تجاريّة تبتغي الرأسمال الخليجي (وقد أتى إلى محطة «إل.بي.سي» عبر الأمير وليد بن طلال).
محطة «إم.تي.في» تكرار لصيغة «إل.بي.سي» مع درجة أقلّ من التوجّه لإرضاء أهل الخليج، ولعلّ ذلك يعود للاكتفاء المالي (الذاتي؟). المحطة تتطرّف أكثر من «إل.بي.سي» في قوميّتها اللبنانيّة وفي إهانتها للمشاعر الدينيّة لمن تضعه في صفّ العدوّ من اللبنانيّين. الأخطر أنّ «إل.بي.سي» و«إم.تي.في» استبطنتا الصهيونيّة في تغطيتهما للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. لم تكن تغطية «إل.بي.سي» حياديّة قطّ في حرب تمّوز بالرغم من جهود سلطان سليمان.
نحن نعلم اليوم من «ويكيليكس» أنّ منى صليبا، التي كانت مراسلة ميدانيّة أثناء الحرب، كانت مُناصرة للفريق الإسرائيلي في الحرب. وظهر ذلك بقوّة في التغطية، عندما تنافست المحطة مع محطة آل الحريري في الترويج لشائعات وأكاذيب إسرائيليّة، للنيل من معنويّات مقاتلي المقاومة (لحسن الحظ، فشلت خطة المحطتيْن).
لكن «إم.تي.في» تذهب أبعد من «إل.بي.سي» في مناصرتها للمصالح الصهيونيّة. تغطّي إعلان إيران بأنّها ستردّ على هجوم إسرائيل عليها، بأنّه تهديد إيراني لإسرائيل. والمواقع والشاشات الحريريّة، خصوصاً موقع فارس خشّان الذي يرقص ويدبك عند أي تهديد إسرائيلي بضرب لبنان، تحرص على الابتهاج بأي تهديد إسرائيلي. وتتوافق الدعاية لمصلحة إسرائيل مع عنصريّة وعدائيّة للشعب الفلسطيني والعمّال السوريّين في لبنان. هؤلاء يتحمّلون مسؤوليّة عن الإجرام الذي تعرّض له الشعبان في لبنان (لا نستطيع طبعاً أن نلوم المحطتيْن حصراً على المجزرة في نهر البارد، لأنّها لاقت تأييداً ومناصرة من مختلف القوى السياسيّة والإعلاميّة في مسخ الوطن). محطة «إم.تي.في» تغطّي المخيّمات على أنّها «بؤر أمنيّة» أو «إجراميّة» ـــــ على طريقة «إل.بي.سي» التقليديّة. لا ترى أبداً تغطية إنسانيّة على المحطتيْن للمخيّمات. وهذا نتاج العقليّة الإسرائيليّة التي رعت نشوء الإعلام اليميني الطائفي في لبنان.
والمحطتان وجدتا صيغة جديدة لتجاوز الحد الأدنى من المبادئ الصحافيّة البديهيّة، مثل تغطية وجهتي نظر أو دعم الخبر من مصدريْن موثوقيْن أو الحرص على عدم نشر شائعات أو دعاية (غالباً إسرائيليّة) ضد بعض الأطراف في لبنان. برنامج «نهاركم سعيد» على مرّ السنوات كان يأتي بضيوف من طرف واحد ـــــ ومن دون تنوّع طائفيّ (مفترض في بلد الحصص) ـــــ بنسبة تقترب من 90 في المئة، (وإن كان يندر وجود دراسة جادّة في ذلك الخصوص). ثم يظن أطراف الإعلام الحربي الطائفي أنّهم يستطيعون أن يتجاوزوا المهنيّة عبر التشديد على الإكثار من استعمال كلمة «موضوعيّة»، على طريقة برنامج «بموضوعيّة» لوليد عبّود. يستطيع البرنامج أن يحتفظ باسمه عندما يدعو نحو أربعة أو خمسة ضيوف من طرف واحد ـــــ يساندهم المُضيف، ويأتي بضيف ضعيف من الطرف الآخر. يكفي أن تكون دنيز رحمة فخري مراسلة أساسيّة في «إم.تي.في» لتعلم أنّ المهنيّة ليست عنصراً في إعلام المحطة: هي التي كادت تصفع الوزراء الشيعة في حرب تمّوز، ولا تحاول أن تخفي حماستها لسمير جعجع. أما جويس عقيقي، فهي مهمومة بالتعدّي الشيعي الغريب على أراض لبنانيّة في لاسا. للاستيلاء الكنسي على الأراضي تاريخ طويل، لا تكترث محطات الطائفيّة له.
وتعمد «إم.تي.في» (على خطى «إل.بي.سي») إلى تعيين ناطقين وزعماء لطوائف بما يتماشى مع الخيارات السياسيّة لتوّجهات المحطة، حتى لو تناقضت قناعات هؤلاء مع أهواء الناخبين الذين نبذوهم أو نبذوا قناعاتهم. وذلك الأسلوب مُقتبس من الإعلام اليميني في أميركا، مثل فوكس نيوز. إنّ الأميركيّين السود يؤيّدون بأكثر من 90% منهم ومنهنّ الحزب الديموقراطيّ. لكن محطة «فوكس» قرّرت أن تتجاهل الأمر وأن تجلب سوداً لا يتمتّعون بقاعدة شعبيّة، كي تنصّبهم زعماء وقادة متخيّلين على السود. قرّرت «إل.بي.سي» عبر السنوات، مثلاً، أنّ رجلاً حاز نسبة 1% من أصوات الشيعة في آخر انتخابات نيابيّة (أحمد الأسعد)، هو الزعيم الفعلي والأوحد للشيعة. فيظهر الرجل على «إل.بي.سي» أو «إم.تي.في» كي يصول ويجول في وعظ الشيعة، والتحدّث باسمهم، بصرف النظر عن نبذ الناخب الشيعي له. يكفي أنّه ينتمي إلى الطائفة المنبوذة ويعارض المقاومة ويردّد شعارات تتوافق مع سياسة محطتيْ اليمين الطائفي المسيحي. وبناءً عليه، لا حاجة لدعوة زعماء أو ممثّلين من تلك الطائفة ممن يتمتّعون بشرعيّة انتخابيّة: يستطيع محمد عبد الحميد بيضون، أو أي خصم لحزب الله وأمل، أن يقوم بالواجب. يصبح عقاب صقر وأمين وهبي زعيمين مُعيّنين. وهذا أسلوب سياسي مُوجّه، يعتمد على التمنّي أكثر من الواقع.
وعلاقة المحطتيْن بالطائفة الشيعيّة ترتبط بموقف المحطتيْن المُتعاطف مع إسرائيل (والمتحالف مذهبيّاً مع غير الشيعي). فكلمة احتلال هي إشارة فقط إلى سيطرة النظام السوري في لبنان. تقرير في محطة «إم.تي.في» تحدّث في عيد الاستقلال عن سنوات احتلال سوري من دون إي إشارة إلى احتلالات إسرائيل: اكتفى التقرير بالقول إنّ إسرائيل تحتفظ بـ«وجود خجول» في بعض أراضي الجنوب. ولا تحظى جرائم إسرائيل في لبنان (أو في غيره) بالتغطية التي تحظى بها كل أفعال النظام السوري. لكن تغطية «إم.تي.في» ـــــ وهي محطة متمرّسة بالطائفيّة والمذهبيّة والعنصريّة والصهيونيّة الصريحة في خدمة مصالح إسرائيل عبر نشرة الأخبار ـــــ للموضوع السوري الحالي تصبح مادّة للتندّر والهزل. المحطة العنصريّة التي لم تبد يوماً تعاطفاً مع الشعب السوري أو مع وضع عمّاله الذين يعانون قمعاً واضطهاداً فظيعين أصبحت عطوفة على الشعب السوري وتواكب محنته عبر الساعة (الطريف أنّ تغطية المحطّة للانتفاضة السوريّة تنتهج أسلوباً دعائياً لا تتبعه المحطّة في تغطية جرائم إسرائيل). كذلك إنّ تعذيب العمّال السوريّين وقتلهم في لبنان وتحويل كل بائع كعك إلى عميل للاستخبارات السوريّة، أمر مألوف في كل إعلام 14 آذار (يتفّوق عليهم جميعاً فارس خشّان على موقعه؛ إذ إنّه لا يهزج فقط لكل التهديدات الإسرائيليّة ولا ينشر كراهية لكل العلويّين من دون استثناء وينعتهم بالكذب، بل يتهم «شبيحة حسن نصر الله» باغتصاب نساء في سوريا ـــــ هذا نسق إعلام آل الحريري وتوابعه.
وتعامل المحطة مع قضيّة بيع أراض في «نيو جديدة» من «شيعة»، أو قضيّة لاسا التي لم تنته فصولاً (من الأكيد أنّ قسم الأخبار في «إم.تي.في» جاهل بتاريخ الشيعة في كسروان وجبيل). والمحطة لا تتورّع عن التعامل مع الأخبار وكأنّ أغراباً من كوكب آخر يحاولون الاستيطان في أراض مُحرّمة عليهم. قضيّة «الاستيطان» الشيعي في لاسا وفي «نيو جديدة» (وهي غير «نيو دلهي» وغير «الجديدة»)، تشغل بال المحطة أكثر بكثير من احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانيّة.
لذلك، فإنّ موقف جهاد المرّ من مناهضة حملات مقاطعة إسرائيل، والدعوة التي أقامها على الرفيق سماح إدريس ورفاقه، تدخل في حيّز الموقف السياسي الذي يتستّر بالسعي وراء الربح التجاري. يقول المرّ إنّ مقاطعة إسرائيل مضرّة بمصالحه التجاريّة. وبناءً عليه، فإنّ المرّ يمكن أن يصبح مستورداً رسميّاً للبضاعة الإسرائيليّة سعياً وراء الربح الذي لا هدف له سواه، كما يقول ببراءة. ويسخر المرّ على فايسبوك، وفي المقابلات من مقاطعة إسرائيل، ويجعلها منافية لحريّة الرأي (على ما فعلت منظمة «إعلاميّين ضد العنف (ضد إسرائيل؟)» عندما أدانت مقاطعة المخرج الصهيوني، ستيفن سبيلبرغ، وعدّت المقاطعة عملاً عنفيّاً. لكن هناك ما لا يدخل في حيّز حريّة الرأي: الولايات المتحدة تمنع أي تعبير شفهي أو كتابي أو حتى رمزي، إذا كان مؤيّداً لمنظمّات مُصنّفة إرهابيّة. لذلك، إنّ حريّة التعبير باطلة، إذا كانت لدعم عدوّ لا نزال في حالة حرب معه (حتى تحرير كل فلسطين، لا حتى تطبيق مبادرة آل سعود للاستسلام إلى إسرائيل).
إنّ محطة «إم.تي.في» هي من إفرازات إعلام الحرب الأهليّة. يمكن مسؤولاً إسرائيلياً أن يشاهد نشرة أخبار المحطة يوميّاً، من دون أن يجد ما يختلف معه فيها. وضعت نفسها في خانة غير المعني بالصراع العربي الإسرائيلي إلا من حيث استبطان الصهيونيّة تماشياً مع بشير الجميّل ـــــ أسوأ لبناني على الإطلاق ـــــ الذي يحظى بتبجيل مُستمرّ في المحطة. ولكن، لماذا يكون لبشير الجميّل أبواق ناطقة باسمه وهو ميت، وليس هناك بوق ينطق باسم حبيب الشرتوني، وهو حيّ يرزق؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)