«الأسطول الشبح» هي التسمية الشعبية التي تُطلق على الأسطول الاحتياطي للبحرية الأميركية، وهو مكوَّنٌ من سفنٍ حربية تقاعدت، أو أُخرجت من الخدمة، ولكنها تظلّ عائمةً، وفي حالة تخزين، في قواعد بحرية في فيرجينيا وخليج سان فرانسيسكو، حتى تُعاد إلى الخدمة حين يحتاجها الجيش. بعد الحرب العالمية الثانية، مثلاً، وصل عدد سفن الأسطول الاحتياطي إلى الآلاف؛ وهو يضمّ اليوم العديد من البوارج والمدمرات التي كانت عماد سلاح البحرية أيام الحرب الباردة.
«الأسطول الشبح» هو أيضاً عنوان لروايةٍ عسكرية نُشرت هذا الصيف، تتخيّل «حرباً عالمية ثالثة» تقع بعد سنوات بين أميركا والصين. نمط روايات «الحرب القادمة» انتشر في الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاصة عبر كتب توم كلانسي التي أصبحت نموذجاً يقلّده الكتّاب في المزج بين الخيال والواقعية وتكنولوجيا المستقبل القريب (كتب كلانسي، عام 1986، عن طائرات خفية وأسلحة سرية أخرى قبل أن تعترف الحكومة بوجودها بسنوات). رواية «الأسطول الشبح»، مثلاً، هي عمل لمؤلّفَين لا شأن لهما بفنّ الرواية، بل هما محللان يكتبان عادة في المجال العسكري وقضايا الأمن القومي، وكلّ معلومة تقنية في الرواية ــ تقريباً ــ ترفدها حواشٍ تحيل إلى مقالات علمية ومراجع توثّق هذا السلاح أو ذاك.
في «الأسطول الشبح»، تتقاسم العالم، بعد سنوات من اليوم، قوّة صاعدة هي الصين، التي خرجت من حكم الحزب الشيوعي ويديرها حلف من العسكريين ورجال الأعمال، يتجادلون في اجتماعاتهم عبر تبادل مقولات «صن تزو»؛ وبين قوة تنحدر، هي الولايات المتحدة، يرتكز نفوذها على صادرات الطاقة (بعد تفجير قنبلة نووية في الظهران أخرجت إنتاج النفط السعودي من السوق) وعلى اتفاقٍ هش مع الصين لتصدير النفط مقابل استيراد السلع المصنعة. ثم تكتشف الإدارة الصينية احتياطات غازية هائلة في خندق «ماريانا» مقابل الفيليبين، فلا تعود في حاجة إلى أميركا كالسابق، وتصير الهيمنة على بحر الصين مسألة جوهرية بالنسبة إلى بيجينغ، فتشتعل الحرب.
في المستقبل القريب، تكون تكنولوجيا الروبوتيات والنانو قد نضجت وتحولت إلى معدات نستخدمها في الحياة اليومية: يفترض الحاضرون في كل اجتماع أو حفل أن كلامهم وهمساتهم تسجّل عبر وسائط التنصت المتناهية الصغر، وتُقام الاجتماعات الحساسة في غرفٍ «نظيفة» معزولة، وتكون سفن صيد الغواصات روبوتية بالكامل، وحسم الحرب لا يجري عبر القذائف والبنادق، بل ــ قبل كل شيء ــ في الفضاء وعلى الإنترنت.
في الحقيقة، إن الطلقات الأولى في الصدام بين العملاقين، كما تخيله الكاتبان، تجري في الفضاء الخارجي، حيث تقوم محطة الفضاء الصينية، التي جهّزت سرّاً بسلاحٍ لايزري، بضرب أقمار التواصل العسكرية، ومنظومة تحديد الموقع، وأقمار التجسس ــ لتسلب أميركا، قبل أن تبدأ الحرب الفعلية، أهم العناصر في منظومتها القتالية.
هذا النوع من الروايات لا يهدف إلى إمتاع القارئ وتسليته فحسب، بل تكون خلفه، عادةً، أجندة سياسية أو أمثولة يريد الكاتب إيصالها إلى الجمهور والمؤسسة العسكرية. «الأسطول الشبح»، بهذا المعنى، هي رسالة تحذيرٍ واحتجاج ضدّ النظرية العسكرية التي تحرّك الجيش الأميركي منذ أكثر من عقد.
يحذّر الكاتبان، عبر مسار الأحداث، من أنّ الاعتماد الأميركي المبالغ فيه على التكنولوجيا وتشبيك الوحدات المقاتلة إلكترونياً، وعلى طائرات متقدّمة مكلفة، كـ»إف ــ 35»، يفسح المجال للأعداء لتحويل هذه الاعتمادية إلى نقطة ضعفٍ قاتلة. ماذا يحصل إذا حُرم الجيش الأميركي أقماره الصناعية؟ الطيار في «أف ــ 35» يرى العالم من حوله من خلال كاميرات، لا بعينه المجرّدة، فماذا سيحصل لو تمكن الصينيون من التدخّل في عمل البرامج التي تدير الطائرة وتتحكم بها؟ في المعركة المتخيّلة، يفترض الكاتبان تحقّق كل هذه الاحتمالات: الصينيون زرعوا فايروسات بين ملايين الأسطر البرمجية المخزنة في ذاكرة الطائرات، فتتساقط الـ»إف ــ 35» من السماء بسهولة. الأسطول الأميركي، بعد فصله عن قيادته واختراق برامج الإدارة الإلكترونية على سفنه، صار هدفاً سهلاً للصواريخ البالستية الصينية. بل إن الصينيين لم يرتكبوا خطأ اليابان في الحرب العالمية الثانية، فاحتلّوا جزيرة هاواي لوضع الأميركيين على بعد آلاف الكيلومترات عن سواحل آسيا.
في القصّة، يستعيد الأميركيون توازنهم ويحقّقون النصر عبر إخراج «الأسطول الشبح» ــ الذي يعتمد على معدات ميكانيكية «قديمة» محصّنة ضد المبرمجين الصينيين ــ من سباته؛ وعبر مزيجٍ من الأسلحة الجديدة واستثمار الطاقات المدنية والصناعية في أميركا (فتسخّر سلسلة متاجر «والمارت» لخدمة الجيش لوجستياً، ويقدّم علماء «وادي السيليكون» حلولاً تكنولوجية للعسكريين ــ في تذكير بالمنشأ العسكري لـ»وادي السيليكون»، منذ أن اعتمدت مدينة سانيفايل الكاليفورنية كمختبرٍ للطيران الأميركي في ثلاثينيات القرن الماضي).
أهمية الرواية لا تكمن في تفاصيل أحداثها، بل في قراءتها كتعبير عن خطاب نقدي، يسلّطه خبراء أميركيون ضدّ سياسة البناء العسكري الأميركي في مرحلة الإمبراطورية. يوجد اليوم عددٌ كبير من المتابعين الذين يصرّون على أنّ مشاريع الأسلحة القائمة ترمي لتحقيق أرباحٍ لشركات السلاح، لا لخوض حروب واقعية؛ وأن الـ»إف ــ 35» هي كارثة مالية وعسكرية؛ وأن ترهّل المؤسسة القيادية في الجيش، وارتهانها لمصالح الصناعيين والسياسيين، ستدفع أميركا ثمنه مع أوّل مواجهة جدية ضد خصم كفء. «الأسطول الشبح» تتكلّم بلسان هؤلاء.