أثبت السوريون منذ بدء انتفاضتهم السلمية أنّهم شعبٌ قادرٌ على زعزعة أركان النظام وإفقاده أيّ شرعية. ولكن النظام أثبت بدوره أنّه لن يتوانى عن استخدام كل أسلحته من أجل تصفيتها. ما حصل على الأرض أنّ معظم المدن السورية أصبحت خارج سيطرة النظام، وأنّ قدرته على دخولها لا تتمّ له إلّا بأدوات القتل من قِبل قوى الأمن والشبيحة والجيش، والتمركز فيها. والانتفاضة الشعبية بدورها لم تتراجع أو تتهاون، بل هي في توسّع نوعي وكمّي مستمر. الضغط الدولي والإقليمي والعربي ليس ذا أهمية لولا قوة الانتفاضة واستمراريتها.ما ظهر جديداً أنّ قوى سياسية تُحاول ركوب موجة التدخل العسكري الخارجي، كما حال ليبيا، وتتجاهل كارثة العراق بعد احتلال الولايات المتحدة الأميركية له، وهي تستدعيه بأشكالٍ وصيغٍ متعدّدة أصبحت واضحة المعالم. فهناك المجلس الوطني السوري، وهناك هيئات سياسية تتألف لذلك الاعتبار بالتحديد. تلك الجهات لا تثق بالانتفاضة وتتوهم تعثّرها، ولا تفهم أنّه خلال ثمانية أشهر وأكثر توسّعت بسبب كونها بلا رأس محدّد، وكونها شعبية، وسلمية، وغير مسلحة، وأنّ التسليح الذي فرضته الممارسات الأمنية العنيفة والقتل مهمته الوحيدة هي حماية التظاهرات السلمية حصراً، وهو ليس هدفاً بذاته. النظام يدفع من خلال ممارساته نحو عسكرة الانتفاضة، وجزء من المعارضة يعقد الصفقات. المحزن أنّ الشعب المنتصر في انتفاضته السلمية سيكون وقودها، عدا عن مفاعيل التدخل الخارجي في سوريا، أولاً، وعموم لبنان والعراق والأردن وتركيا وبقية الدول العربية، وهو ما سيفتح البلاد للعبة التقاسم الإمبريالي والإقليمي، ما يسهم في إعادة بناء الدولة السورية وفق المكونات الطائفية والقومية، وبما لا يخدم السوريين ولا العرب، وهو ما سيعقّد المهمّة أمام السوريين في إعادة بناء سوريا كدولة مدنية ديموقراطية، ويدخلنا في مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية السوريون في غنى عنها تماماً. ما هو ضروري بالتأكيد، وخاصة بعد تصاعد الضغط الدولي، وضغط النظام على الانتفاضة من أجل العسكرة، واشتراك فئات من داخل المعارضة بالدعوة إلى العسكرة والحماية الدولية المؤدية إلى ذلك، أنّ هؤلاء لا يفهمون أنّ الذهاب إلى عسكرة الانتفاضة سيصفّي شعبيتها، وسلميّتها وأخلاقيّتها، ويوهن عزيمتها، ويُخرج قطاعاتٍ شعبيةٍ كاملةٍ من الشارع، لأنّ السلاح سيكون له الدور الأساسي. فإذا أخرج النظام ببطشه النساء وكبار السن والأطفال ـــ ما عدا بعض التظاهرات الخجولة، والمدروسة جيداً، كي لا يعتقلوا ــــ من الاشتراك في الانتفاضة، فإنّ هؤلاء، هواة العسكرة، سيُخرجون بقية الشعب كذلك. المنشقون العسكريون قد يكونون مفيدين فقط في حماية التظاهرات السلمية. غير ذلك، ستكون ممارساتهم بمثابة أعمال ضد الانتفاضة.
يمثّل التنديد بكلّ جهة تدعو إلى التدخل العسكري الخارجي أو عسكرة الانتفاضة بحجة تخفيف التضحيات، ضرورة سياسية، لأنّ ذلك سيزيد منها. عدا عن أنّ كل انتفاضات العالم قدمت الشهداء، وكل من يتوهّم غير ذلك ويبحث سلفاً عن نهاية لها، ويُغرم بوضع خطط المراحل الانتقالية وتحديث الوعي والتهويل من خطر حرب أهلية مقبلة، خوفاً على تلك الأرواح، يشكك في قدرة الانتفاضة على التقدم.
من يتمتع بحس نقدي يرى أربع مشكلات على الانتفاضة تجاوزها حتى تنجح، بأقل الخسائر. المشكلة الأولى: عدم إيلاء المشكلات الاقتصادية أيّ أهمية، إذ كان لأزمة الزراعة وتدمير كثير من الصناعات بفعل التحرير الاقتصادي الليبرالي أثر في اندلاع الثورة في المناطق الريفية ومن الشباب العاطل من العمل، والمهمّش، وسيؤدي الاهتمام بتلك المشكلات إلى إدخال فئات جديدة في الانتفاضة.
المشكلة الثانية: عدم تطور الانتفاضة في المدن التي لم تدخل فيها كانتفاضة شعبية؛ فقد اقتصرت المشاركة على أغلبية الفئات النخبوية فيها، ما يتطلّب نقاش علاقة الأقليات الدينية والقومية بالأكثرية الدينية والقومية، حيث لا يزال هناك تشويش وعدم فهم لما يحدث من ثورة شعبية وطنية في سوريا. فلا شك في أنّ مستقبل سوريا يُصنع الآن، وهي فئات مُفقرة ومهمشة، والثورة السورية هي في هذا الاتجاه، ولا تخرج عن سيرورات الثورات العربية المستمرة. وبالتالي هناك ضرورة للتخلص من عقلية الخوف من الآخر ـــ وهي مسألة طارئة رغم الكلام الكثير عليها ـــ التي زرعها النظام بعنفه وبطشه وبإعلامه الملفّق والكاذب، وكذلك تيارات من المعارضة الإسلامية والليبرالية «الطائفية»، ولم تستطع قوى المعارضة المختلفة وتنسيقيات الانتفاضة حلّها.
المشكلة الثالثة: محدوديّة الثورة في المناطق الكردية، وعدم أخذها أشكالاً جديدةً تصل إلى مستوى إقامة اعتصامات مفتوحة في ساحات المدن التي يغلب عليها الطابع الكردي، إذ إنّ أغلبية الشعب السوري، ولا سيما الفئات المفقرة، تثور وتضحي، وبالتالي هناك مصلحة حقيقية في ذلك التصعيد، وذلك من أجل الوصول إلى حل ديموقراطي للحقوق الكردية المسفوكة تاريخياً، وللسوريين. ومقتل القيادي البارز مشعل تمو لم يضف جديداً يذكر.
المشكلة الرابعة: هي عدم التوصل إلى برنامج يمثل قوى الانتفاضة، ويحدّد أهدافها، ولا إلى تأليف قيادة موحّدة لها، وهو ما سمح للقوى السياسية، القديمة والمفارقة للواقع الجديد، بعقد كثير من المؤتمرات الداخلية والخارجية الفاشلة «للتسلبط عليها». الخلافات في المجلس الوطني، وهزال مبررات وجوده، تؤكد فكرتنا. الكلام نفسه ينطبق على التنسيقيات التي لم تحدّد برنامجاً للانتفاضة، وقد يكون بسبب عقلية «الدكان» والعمل السياسي الضيق والمحدود، وهو عقل سياسي سوري بائس لطالما اشتهرت به المعارضة السورية، وكان دائماً يوصلها إلى الفشل في صراعها مع النظام، دون أن نغفل أنّ شمولية النظام كانت هي الأساس في تدمير نضالات القوى السياسية السورية، وفي منع القوى الناشئة حديثاً من التنسيق الميداني والسياسي.
إذاً، يقع على عاتق قوى الانتفاضة من تنسيقيات وقوى سياسية ناشئة حديثاً وغيرها مواجهة المشكلات السابقة، وأن تكون هي الأساس في كل ما يتعلق بتطور الأوضاع في سوريا، وبما يتوافق مع المرحلة المتطورة التي وصلت إليها الانتفاضة فيها.
* كاتب سوري