لقد بدا تطور الأحداث منذ اندلاع الانتفاضة في تونس في كانون الأول والثاني الماضيين، وما أعقبها من انتفاضة في مصر في كانون الثاني ــ شباط واضحاً بجلاء. فعلى الرغم من محاولات كبت الصحافة والإعلام، وصلت معظم أخبار الانتفاضتين إلى الجماهير في الداخل والخارج على الفور. ولكن الوضع ما لبث أن تغيّر جذرياً مع اندلاع الانتفاضات في البحرين واليمن وليبيا وسوريا وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية.
فبينما ضُرب ساتر إعلامي شبه تام على الانتفاضة البحرينية المتواصلة آنذاك وعملية قمعها الوحشي من قبل القوات السعودية والبحرينية (وقد كانت التغطية الإعلامية لما كان يدور في عُمان آنذاك متقطعة)، فقد تواصلت التغطية الإعلامية لتفاصيل الانتفاضة في اليمن. أما الأكاذيب والفبركات السياسية فلم تظهر في الإعلام بطريقة منهجية حتى الأسبوع الأول من بدء الانتفاضة الليبية. ففي ليبيا تولّت قوات دولية، تمتد من الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة، عملية الدعاية السياسية ضد نظام معمر القذافي (وزعمت في ما زعمت أنّ طائراته قصفت المتظاهرين، وأنّه أمر قواته بتناول حبوب الفياغرا واغتصاب المئات من النساء، وأنّه استعان بمرتزقة «أفارقة» ضد شعبه، وأنّه كان بصدد استخدام الأسلحة الكيميائية أيضاً ضد المتظاهرين، وأنّه قتل بالفعل خمسين ألف ليبي، وما إلى ذلك ــ وقد ثبت أن كل هذه المزاعم كانت محض أكاذيب وافتراءات لا أساس لها من الصحة حسب الوكالات والمراقبين الدوليين الذين ذهبوا إلى ليبيا لاستقصاء الحقيقة ــ)، وصولاً إلى عملية إطاحته تحت ستار الانتفاضة الشعبية التي قادها حلف شمالي الأطلسي الذي قصفت قواته المدنيين الليبيين، وقتلت المئات منهم.
وقد شهدنا تطورات مماثلة على الساحة السورية مع الكثير من الدعاية الإعلامية والسياسية، إن من جانب النظام السوري أو من جانب أعدائه الدوليين الذين أخذوا يتحدثون باسم الانتفاضة الشعبية، سواء في الصحافة والفضائيات الخليجية، أو عبر وسائل الإعلام الغربية، أو من جانب سوريين مقيمين في الغرب يزعمون أنّهم «يمثلون» المتظاهرين السوريين أو حتى الشعب السوري بأجمعه.
في حالة تونس ومصر والبحرين واليمن (فضلاً عن المغرب والأردن وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، حيث التظاهرات أقل حجماً ولكن لا ينقصها الزخم، وهي متواصلة منذ شهور)، لم تحرك جامعة الدول العربية، بناءً على تعليمات الولايات المتحدة، ساكناً، في حين سارعت الجامعة في حالة سوريا وليبيا، وحسب توجيهات الولايات المتحدة مجدداً، إلى العمل الدؤوب. وتلك ليست المرة الأولى التي تتحرك فيها الجامعة ضد دولة عضو لتسهيل الغزو الأجنبي. فقد تمثلت «بروفة» ما تقوم به اليوم في تحركها ضد العراق في ١٩٩٠ ــ ١٩٩١، عندما أصبحت جامعة الدول العربية (شأنها شأن الأمم المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي) حينها ذراعاً أخرى للإمبريالية الأميركية. وقد مثل انضمام الجامعة آنذاك إلى القوات الأميركية والأوروبية لغزو الخليج الخطوة الأولى في إضفاء الشرعية على الغزو الأميركي الثاني لإطاحة صدام حسين في ٢٠٠٣. وقد كان صدام ديكتاتوراً وحشياً، رعته الولايات المتحدة وفرنسا في الثمانينيات، وقد غزا، نيابة عنهما، إيران. ذلك الغزو الذي أدى إلى مقتل مليون إيراني وأربعمئة ألف عراقي. لكن صدام لم يكن مطيعاً تماماً للإرادة الإمبريالية. وعلى الرغم ممّا قدمه من خدمات جليلة لها، احتفظ بقدر من الاستقلالية عن الإمبريالية الأميركية في ذلك الوقت. وقد حذر الكثيرون، وأنا منهم، ما كان يسمّى آنذاك المعارضة العراقية في المنفى، التي دعت إلى غزو العراق، من أن غزو الولايات المتحدة سوف يؤدي إلى فرض نظام لا يقلّ استبداداً عن نظام صدام، إن لم يكن أسوأ. وقد ظن البعض أنّ إزهاق أرواح مئات الآلاف من العراقيين، وتدمير البلد بالكامل، واستمرار القمع والفساد الهائل في النظام الجديد الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق، قد قدم العبرة لمن يعتبر ولكل عربي يفكر في دعوة الولايات المتحدة لمساعدته في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية العربية.
ولكن إذا أمكن تجاهل مأساة العراق، فكيف يمكن أيّاً كان أن يتجاهل الكارثة التي تعصف بليبيا في الوقت الراهن، تحت مظلة الحكومة الجديدة التي يقودها حلف شمالي الأطلسي، والتي تقدم الآن الجرعة الأولى من العنف والقمع للشعب الليبي باسم ديموقراطية حلف شمالي الأطلسي (وثمة جرعات كثيرة أخرى من ذات النوع بانتظار الشعب الليبي)؟ فهل قام الشعب الليبي بانتفاضته ضد ديكتاتورية القذافي الوحشية لاستبداله بالسلب والنهب والقمع التي يرعاها حلف شمالي الأطلسي؟
هذا هو الدرس الذي على المنتفضين الذين يقاومون الديكتاتورية ويكافحون من أجل تحقيق الديموقراطية في سوريا أن يتعلموه. فها هي الأدلة ماثلة أمام عيونهم بكل جلاء: إن كنتم شعباً في بلد عربي ديكتاتوره عميل للأميركيين، فسوف تبذل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لقمع انتفاضتكم، فإذا ما نجحت انتفاضتكم على الرغم من جهود الولايات المتحدة لقمعها، فسوف ترعى الولايات المتحدة من خلال حلفائها المحليين، لا سيما المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وأخيراً قطر، ثورة مضادة ضدكم بطرق مباشرة وغير مباشرة. وينطبق هذا بالطبع على الأوضاع في تونس ومصر والبحرين واليمن والمغرب والأردن وسلطنة عمان والسعودية نفسها. أما إذا كنتم شعباً في بلد يحافظ ديكتاتوره على خط مستقل في السياسة الخارجية أو على الأقل خط لا يمكن أن يكون مضموناً دائماً لخدمة المصالح الغربية، وذلك ينطبق على سوريا وإيران، مع أنهما قدمتا خدمات جمّة للغرب، وهما على استعداد لتقديم المزيد (فنحن لا ننسى أنّ كلا النظامين قد بذلا جهوداً حثيثة لدعم مساعي الولايات المتحدة لإطاحة صدام حسين، ولا ننسى ما قام به النظام السوري أيضاً من دعم لجهود الولايات المتحدة في لبنان عندما دعم القوات اليمينية المتصهينة ضد اليسار الوطني اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات)، وينطبق إلى حدّ ما أيضاً على ليبيا، فستساعدكم الولايات المتحدة، وسترعى انتفاضتكم ضد الديكتاتور القائم لاستبداله بديكتاتور أكثر مرونة في خدمة مصالحها دون مواربة، وستفعل ذلك باسم «دعم الديموقراطية». تماماً كما تصف الولايات المتحدة أيضاً جهودها وتدابيرها لإنجاح الثورات المضادة في البلدان التي نجحت فيها الانتفاضات في إسقاط الطغاة الذين ترعاهم الولايات المتحدة بأنّها جهود «لدعم الديموقراطية».
يترتب، في سياق عالم كهذا تهيمن عليه الولايات المتحدة، على أولئك الذين ناضلوا ويناضلون في سوريا من أجل إنهاء الديكتاتورية، لا سيما الآن بعد أن استولت جامعة الدول العربية والقوى الإمبريالية على قيادة نضالهم وتولّته، مواجهة بعض الأسئلة المركزية: هل الهدف من انتفاضتهم المتواصلة هو إطاحة نظام بشار الأسد من أجل إحلال نظام ديموقراطي مكانه، أم الهدف هو إسقاط النظام فقط؟ فكما بات واضحاً من خلال السابقتين العراقية والليبية، فإنّ جامعة الدول العربية والقوى الإمبريالية قد استولت على الانتفاضة السورية من أجل إزالة نظام الأسد والاستعاضة عنه بنظام مطيع كلياً للولايات المتحدة، شأنه شأن الأنظمة المفروضة أميركياً على جميع البلدان العربية الأخرى. أما السؤال الثاني للمنتفضين السوريين، فهو أيضاً واضح ولا لبس فيه: بما أنّ هذا هو هدف القوى الإمبريالية وجامعة الدول العربية، فهل يرى المنتفضون السوريون في القيادة الجديدة لانتفاضتهم، المكوّنة من طغاة الخليج والولايات المتحدة، هزيمة نكراء لانتفاضتهم، أم هي في نظرهم خطوة ضرورية لتحقيق نجاحها؟
إنّ من يرى عملية الاختطاف التي تعرض لها النضال الشعبي السوري من أجل الديموقراطية من قبل هذه القوى الإمبريالية والقوى الموالية لها داخل سوريا وخارجها، يدرك أنّ استمرار الانتفاضة السورية بعد اليوم لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي نتيجة غير ديموقراطية، تتمثل في نظام بديل أكثر طواعية وقمعاً، ستفرضه الولايات المتحدة على غرار ما فعلت في العراق وليبيا. إذا كان هذا هو ما يناضل المنتفضون السوريون من أجله، فليس عليهم سوى أن يواصلوا انتفاضتهم. أما إذا لم يكن هذا هدفهم، فيتعيّن عليهم مواجهة الحقيقة الشديدة المرارة، وهي أنّهم وانتفاضتهم قد تعرضوا لهزيمة كاسحة، ولكن ليس على يد نظامهم الديكتاتوري وقمعه الوحشي الذي قاوموه ببسالة، بل على أيدي القوى الدولية التي تريد أن تحرم الشعب السوري، شأنها في ذلك شأن النظام السوري نفسه، من الديموقراطية التي يستحقها. فمن غير المستبعد، في ضوء الخطوة الأخيرة التي اتخذتها جامعة الدول العربية والولايات المتحدة وأوروبا، أن ينجح مشروع إسقاط نظام الأسد، ولكن من المؤكد أن النضال من أجل إحلال نظام ديموقراطي مكانه في سوريا قد هُزِم تماماً.
لقد كانت الولايات المتحدة هي من قوّضت الديموقراطية السورية في ١٩٤٩، عندما رعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أول انقلاب في البلاد لإنهاء النظام الديموقراطي. وها هي اليوم تقوّض مرة أخرى إمكان تحقيق الديموقراطية التي تسعى إليها انتفاضة الشعب السوري العظيمة. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتقدم بأحر التعازي إلى الشعب السوري.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك