خاص بالموقع | كلما اقتربت نسائم ورياح ربيع العالم العربي من حدود إحدى دوله، واستشعر الحاكم بواسطة مجساته الاستخبارية الخطر، استدعى في الحال وسائل الإعلام الخاصة والعامة، ليطلق تصريحات مباشرة مدوية، قاطعة حاسمة، بأنّه لا شأن لدولته السعيدة الهادئة المستقرة بذلك الحراك والاضطراب الشعبي الناتج عن القلق والفساد وسوء الإدارة في الدولة، التي أصابها إعصار الربيع، والحاكم هناك غير شعبي ولا يتمتع بالتأييد الداخلي.تدور العاصفة الربيعية وترفع المستور شرقاً وغرباً، لأنّ الهم واحد، والأسر الحاكمة متشابهة، رؤساء أو ملوك، منذ أن ابتدع جنرال جمهوري فقرة التوريث وأضافها إلى الأعراف والدساتير المفصلة على مقاس الطبقات الحاكمة إلى الأبد. الفرق بين تلك الجمهوريات والدول ذات الأنظمة الملكية العربية أنّ تلك الأخيرة مستقرة أكثر ضمن هيكلياتها الموروثة القديمة، وشعوبها تتفهم مسألة التوريث، ولا يصيبها الحسد أو الغيرة من جمهوريات القادة التاريخيين، وهي تشاهد التجهيز العائلي للأبناء ليأخذوا مكان الآباء الرؤساء القادة المنتخبين (ديموقراطياً)، بعد عمر طويل.
في العراق، نحاول البحث عن طريقنا الخاص، الذي لا يختلف في أهدافه الأساسية عما ناضل وسعى إليه الإنسان المتحضر، في كل زمان ومكان. درجة الوصول نسبية وتختلف كثيراً من دولة إلى أخرى. هنا، يظن الحاكم الحالي ومن هم حوله، أنّه محصن من المعادلة. فقد تلاشت العائلة الحاكمة والقائد التاريخي والأقلية المستفيدة، وما كانت عليه من قهر للآخرين وفساد، وذلك بعد التدخل الأميركي العسكري المباشر واحتلال العراق في 2003، وتطبيق المبادئ الديموقراطية وتمكين الشعب من الانتخاب لاختيار حكامه ونوابه وقادته ــ كما قيل ــ وكتابة دستور جديد يحظى بثقة الشعب ويصون حقوقه وواجباته ــ كما قيل ثانية، لكن أين الخطأ والمصيبة اللذان أوصلانا إلى إنشاء أقلية طبقية فئوية فاسدة تحكم لتسرق وتخرب وتجعل البعض يترحم على ما فات؟
لست هنا في وارد تقديم دراسة يحتاج إليها أي تقويم لوضع مظلم تراجعنا إليه، لكن على الأقل هنالك ملاحظات من الواجب أن تقال، ونحن نشاهد الآخرين يستفيدون من أخطاء ما حصل في بلدنا، كي لا يكرروا نكباتنا. أولى تلك الملاحظات أنّ الشعب العراقي استيقظ نهار 9 نيسان 2003 ليشاهد انهياراً كاملاً لنظام شمولي دام ما يقرب من 40 عاماً، احتوى الدولة ومؤسساتها ووزاراتها وجيشها وشرطتها ومجتمعها المدني، وما بقي من هياكل مزيفة لأحزابها واتحاداتها المهنية والعمالية. ولم يبق في البلد إلا شعب، مجتمع أشبه بجسد بلا رأس أو قيادة وطنية، سياسية في المقام الأول، لأنّ البقية تفاصيل ملحقة. وجاء الاحتلال، أو «المحرر»، كما وصف نفسه، ليكمل التجربة المرة المأساوية، وينصّب نفسه حاكماً فعلياً أجنبياً لدولة وشعب قديمين، وحضارة عمرها 7000 سنة. وتكر سبحة الأخطاء والألم عبر إنشاء مجلس الحكم الطائفي القومي «مجلس الحكم»، الذي حوّل دولتنا المنهارة إلى حقل تجارب يقوم على حكم شهري لكل عضو في هذا المجلس الموقر. وبدأت الجماهير ثانية وكالعادة هي من يدفع الثمن للتخريب المستمر حتى الآن. وتواصل صعود متسلقين مغامرين كثر من الخارج وقلة من الداخل، تجمعوا في المنطقة الخضراء تحميهم الأسوار القديمة للنظام السابق، وربما أفكاره، وما زادوه هم أيضاً عليها حتى اقتنعوا بأنّها الطريقة الأنجح للبقاء في السلطة والحكم في العراق.
باقي الشعب الغفير هو كالعادة خارج اللعبة، خارج الأسوار، بدأ أهل الداخل الطائفي العنصري القومي يصدِّرون أمراضهم الخبيثة وألوانهم المكتسبة، ليصبغوا بها الشعب العراقي. أصروا على أنّ علاج المجتمع هو في تفهم الفروق العمودية بين أفراده، وقراءتها كأنّها أساس صراعاته، فالشعب من وجهة نظرهم وبالأساس ليس واحداً، وذا توجه إنساني، بل هناك دينياً، المسلم والمسيحي والصابئي والأيزيدي، كما أنّ هنالك الشيعي والسنّي وما يحتويان من جماعات فقهية ذات ولاء مختلف. وقومياً هناك العربي والكردي والتركماني وباقي القوميات الممثلة في مجلس نواب المنطقة الخضراء. المشكلة أنّهم نجحوا خلال السنوات الثماني الماضية في فرض وجهة النظر المجتزأة تلك، وتحويل الثانوي إلى رئيسي، وتلقف التخلف والجهل المنتشر بين فئات الشعب لتلك اللعبة، ليقدم خدمات جليلة إلى الأقلية الحاكمة من وراء الأسوار. وغيِّب الشعب وخدر تماماً إلا في ما ندر، بينما أكملت الأقلية الحاكمة لعبتها وهي تعلم جيداً أنّ فروق المجتمع أفقية حتماً وتتمثل في بلدان الأنظمة الفاسدة، بين أقلية متماسكة، لديها عناصر النفوذ، المال والسلطة والقوة المسلحة، وأغلبية متخلفة متحفزة للصراع بين مكوناتها وفئاتها ومناطقها وطوائفها وقومياتها، ولا تمتلك فعلياً أدنى مقومات المجتمع المدني من اتحادات ومجالس ونقابات مهنية حرفية عمالية، لا صناعة ولا زراعة ولا إنتاج ولا اقتصاد حر ومستقل لديها، وتتلقى أوامرها وسبل عيشها وأرزاقها من فتات ما يلقى إليها كرواتب أو مساعدات، أو منح لا تخلو من المنة والتفضل من تلك الأقلية الذكية الحاكمة.
نجحت اللعبة تماماً للسنوات الثماني الماضية وغيّب الشعب، وقواه الحية والشابة. أصبحت الشعارات وحتى التظاهرات والمسيرات وحركات الاحتجاج القليلة المبرمجة والخارجة كلّها مسيّرة ومنتقاة، عدا بعض النوادر غير المؤثرة، من معطف الأقلية الحاكمة وحسابات فئاتها، لإظهار القوة عند تعداد المكاسب ومناطق النفوذ والسيطرة ونهب المال العام.
في أيام جمعة الغضب القليلة وخلال الربيع البغدادي العراقي، رأيت وأحسست الرغبة في التغيير والإرادة في التغيير. رأيت أناساً مخيرين لا مسيرين، أفراداً وجماعات، يرفعون شعاراتهم بعيداً عن السلطة. فالسلطة لا تحتج أو تتظاهر، بل تحكم، والشعب هو من يقرر فشلها أو نجاحها، يشتبكون حتى مع بعضهم البعض أحياناً، لكنّهم أهل حق ومعاناة، ووعي ضرورة طال انتظاره لحالهم البائسة.
أهل الحكم كالعادة في كل زمان أقرب أولاً إلى مشاهدة الصورة الكاملة، واكتشاف العدو النقيض، لذا رأيت أزلام السلطة أول مَن يأتي إلى ساحة التحرير وآخر من يغادرها. يراقبون، يهتفون، يتحرشون، لكن العاصفة تبدو أقوى من تحركاتهم. الخوف اليوم هو من الاحتياطي المضمون للأقلية الحاكمة، وما سيستحضرونه من خزائن قواهم البشرية والدعائية لاحتواء أو حرف مطالب المجموعات والحركات الاحتجاجية المستمرة رغم كل شيء في الحضور وإعلان الغضب في ساحة التحرير، وكل مدينة عراقية من الشمال إلى الجنوب.

* ناشط وإعلامي عراقي