في مقالة قبل أيام («النهار» 12 تشرين الثاني 2011)، يتساءل الصحافي والكاتب العتيق الأستاذ إميل خوري: «أيّ قانون للانتخابات يترجم ترجمة حقيقيّة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين التي نصّ عليها دستور الطائف؟». يختزل هذا النص نظرة فريق تقليدي من اللبنانيين اضطرّ مرغماً إلى التخلّي عن الأرجحيّة التمثيليّة السابقة (54 للمسيحيين، مقابل 45 للمسلمين في برلمان ما قبل الطائف) ليستميت، بالمقابل، في التمسّك بـ«المناصفة» التي ينظر إليها بوصفها صيغة أبدية لتقاسم الحقوق ولتحديد طبيعة التمثيل في لبنان. لنبدأ من ذلك التشبث العجيب، القديم الجديد، باعتماد توزيع اللبنانيين، سياسياً، على أساس انتمائهم الطائفي فالمذهبي، ثمّ بناء سلطة يجري فيها توزيع المناصب والنفوذ على أساس ذلك. يحصل ذلك بالتعارض، الشكلي على الأقل، مع ما تدّعيه نخب لبنانية تروّج، دون كلل، لهذا الأمر، من الأخذ بمبدأ الحداثة والانتساب إلى مستجدات الحياة والعصر والعلاقات السياسية والاجتماعية...
فيما يتّسع له المجال الآن، نذهب مباشرة إلى القول إنّ الأمر، مع ذلك، ليس مجانياً. ففي مسار تاريخي متفاعل مع أحداث ومتغيرات وتهديدات وصراعات تحوّلت الهوية الدينية إلى هوية سياسية، وتحوّل الانتماء الأوّلي الطبيعي العفوي إلى وعاء لحضور فردي وجمعي، سياسي واجتماعي، في مواجهة الآخر أو بالتمايز عنه. تلاحقت تطوّرات وتحوّلات محلية وخارجية، أدّت إثر ذلك، إلى تعميق هذا الفرز وإلى تكريسه وبلورته في صيغ سياسية ومدنية واجتماعية وتربوية وأمنية... ما ولّد الفرز والمنافسة والصراع والتقاتل والارتهان للخارج أو المراهنة عليه. والأخطر أنّه ولّد، في امتداد ذلك، نزاعاً مفتوحاً ووحدة وطنية مثلومة، ووطناً غير مستقر مهدّداً في وحدته وفي سيادته.
لا يوضع التكوكب الطائفي (والمذهبي راهناً) في موازاة الآخر فحسب، بل في مواجهته. وهو إذ يُستخدم في تحقيق غايات قوى سياسية واجتماعية نافذة تستسهله أداة تعبئة واستقطاب، لا يخلّ بالمساواة وبالمواطنة وبالوحدة الوطنية فحسب، بل أيضاً بدور الأديان والمذاهب. فتلك التي حملت معتقدات وقيماً روحية وأخلاقية وإصلاحية، تصبح إذّاك مصدر تفرّق وتنازع واحتراب وتشتّت.
لقد تعمّق هذا النوع من الاستقطاب في لبنان إلى درجة خطيرة. والأخطر فيها هو محاولة إضفاء صفة دائمة وأصلية عليها: فيقال إنّ الطائفية ولبنان صنوان! يُسقط في مجرى ذلك أنّ النزاعات الطائفية والدينية قد وجدت لنفسها أرضاً خصبة في معظم بلدان العالم. في أوروبا بلغت ذروة غير مسبوقة وامتدّت لمئة عام. لكنّها رغم ذلك، قد زالت أو تكاد. وهي في كلّ الحالات، لم تصبح صيغة دائمة، بل أصبحت تقريباً، طيّ النسيان، أو من ذاكرة الأحداث والأيام. لكنّ القوى النافذة في العالم تستعيدها الآن وبشكل أساسي، من أجل شق سبل جديدة لإضعاف الخصوم ولإحكام السيطرة وتعميمها. ويُستخدم ذلك في التعامل مع الأقاليم والشعوب حيث مستوى الوعي أقل، وحيث لا تزال الذاكرة الفردية والجمعية، تختزن الكثير من أشكال العصبيات والانفعالات الأوّلية. ونحن نشهد الآن في سياق «الربيع العربي» محاولات حثيثة ومثابرة من أجل مواجهة نزعة الحرية بنزعة العصبية، ومن أجل بعث عوامل الانقسام الفئوية في وجه انطلاق عوامل التوحّد الإنسانية.
وكالعادة، تُطلق في مجرى ذلك، كلمات حق يُراد بها باطل. ويجري تشويه بعض الوقائع، وتغييب الحقائق، وقلب الأمور رأساً على عقب. وما يجب قولُه هنا، إنّ معظم اللبنانيين، (ولو شئنا التحديد أكثر لقلنا الفئة الأكثر حرصاً على الصيغة الطائفية الراهنة في لبنان)، لا يزال يتأرجح بين العواصف والتحوّلات والرهانات التقليدية الحالية، محاذراً بشكل مخيف، الاستفادة من دروس الماضي، لتخطي ما شاخ منها، وما بات يتعارض مع متطلبات الحاضر وآفاق المستقبل.
والمسألة الثانية ذلك الركون الغريب إلى مجانبة الواقع والحقيقة في وصف الأحداث وفي تناول الوقائع. ويصبح الأمر أخطر حين يرد هذا الكلام بين أسطر كاتب محترف يتابع الأحداث يومياً، وعلى امتداد أكثر من خمسة عقود! فهل «نصّ دستور الطائف» بالفعل، على «المناصفة بين المسلمين والمسيحيين»؟ ألم يشترط بوضوح حاسم أنّ «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية» (المادة 95 من الدستور)؟ ماذا يمكن أن يعني ذلك غير الاستغناء عن كلّ النسب، ومنها «المناصفة»، لمصلحة المساواة و«إنشاء مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي» كما نصّت المادة 22 من الدستور، مؤكدة، بالمقابل، على استحداث مجلس للشيوخ «تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» (المادة 22 نفسها)؟ ولإنعاش الذاكرة أيضاً، ذلك كان قبل حوالى عشرين سنة!
لا نريد أن نتهم أحداً بأنّه لم يقرأ النصوص. هذه تهمة مردودة، على الأقل، عندما تتوجّه إلى كاتب مخضرم كالأستاذ إميل خوري. فكيف نفسّر، إذاً، سبب هذا التجاهل: إنّه صيغة لتكرار رفض ما نصّ عليه الدستور. لكنّ المزعج هنا، أنّ هذا الرفض، إنما يأتي باسم ما «نصّ عليه الدستور». وهذا قمة الغرابة في التعامل العلمي والمهني، مع الوقائع والأحداث والنصوص!
والواقع أنّه لو شئنا التتبّع أكثر لوجدنا في دستورنا تكراراً لما ذكرنا وإلحاحاً عليه، بما يبعث على الاستنتاج الواثق، بأنّ «إلغاء الطائفية السياسية» إنما هو «هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» كما جاء في مقدّمة دستور «الطائف» أي الدستور اللبناني!
يستطيع سياسي شاب وارث وقصير التجربة كالرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، أن يطلق بعض المواقف والشعارات دون تدقيق أو حتى دراية بالواقع وبالنتائج. ويستطيع شاب أو شابة متحمسان أن يندفعا في بعض الممارسات والانفعالات الغرائزية أو المتطرّفة... لكنّ الأمر يصبح أخطر حين يفعل ذلك كاتب ومحلّل سياسي عتيق ومحترف كالأستاذ إميل خوري، وفي صحيفة ذات تقاليد مهنية تفاخر بها، كجريدة «النهار».
كابد شعب العراق ويكابد نتائج اختبار التجربة اللبنانية الطائفية على يد الغازي الأميركي والمتواطئين معه. ويعاني الوضع السوري الآن استعصاءً مفتوحاً على الأسوأ بسبب تداخل السياسي والطائفي فيه. وتتراكم في الوضع اللبناني كلّ يوم عناصر إضافية من التوتير والاحتقان واستنفار الغرائز. ألا يستدعي كلّ ذلك مراجعة ما، من النوع الذي يمكّن من مقاربة الهواجس التقليدية بغير الوسائل التقليدية المجرّبة والفاشلة والكثيرة التكاليف؟
يبقى أن نكرّر أنّ تطبيق الدستور لجهة إقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، و(الأفضل أن يكون) على قاعدة النظام النسبي في الدائرة الوطنية الواحدة ليس هو فقط سبباً لإضفاء الشرعية على القانون وعلى الهيئات التمثيلية الدستورية التي ستنبثق عنه، إنّه، أساساً، مدخل لإنقاذ لبنان.
* كاتب وسياسي لبناني