تكتسب قضية محافظة كركوك العراقية الغنية بالنفط، وذات النسيج المجتمعي المتنوع، والمؤلف قومياً من أكراد وعرب وتركمان وآشوريين وكلدان، وطائفياً ودينياً من سُنّة وشيعة ومسيحيين، أهمية فائقة هذه الأيام. وقد زادت من أهميتها ظروف انسحاب قوات الاحتلال الأميركي الذي سيكتمل نهاية العام الجاري. لقد دلت تجارب الشعوب الأخرى التي تعرضت للاحتلال على أنّ المحتل لن يرحل برضاه، وحتى إن بدا الأمر في ظاهره هكذا، فهو في العمق مجبر على الرحيل وإنهاء مغامرته الاحتلالية الفاشلة، بعدما أُثخِن بالجراح والخسائر. لهذا لا أحد في العراق يستبعد أن يحاول الاحتلال المنكفئ أن يفجر خلفه العديد من المشكلات والأزمات القديمة والجديدة بهدف الانتقام أولاً، أو العودة من الشباك ثانياً، بصفته حَكَمَاً ووسيطاً. من بين أعقد المشكلات التي تواجه العراقيين اليوم، مشكلة عائدية محافظة كركوك وهي مشكلة مفتعلة، لكنّها خطرة ومعقدة. هنا مساهمة في النقاش الدائر حول هذا العنوان ومجموعة من الرؤى والتصورات مطروحة للحوار: لن نقدم عرضاً مسهباً للسردية التاريخية الخاصة بكركوك المدينة والمحافظة، لكنّنا سنقدم مختصراً دقيقاً للرواية الأكثر رصانة وموضوعية لتلك السردية بهدف، قد يفاجئ البعض، وهو إثبات عدم جدوى تلك السرديات الإسقاطية في حلّ هذه المشكلة المعقدة. السبب هو أنّها سرديات تناحرية وذات محتوى آخذ بالميلان نحو ما هو ايديولوجي، لا يُرضي سوى القائلين به، أكثر من كونه ذا محتوى تاريخي و«أنثروبولوجي» مفيد. ونحن في ذلك نتفق مع الباحثين أندرسن وستانسفيلد في كتابهما «أزمة كركوك: السياسة الإثنية في النزاع والحلول التوافقية». وهدفنا هو تقديم دليل عملي على تلك اللاجدوى من السرديات المؤدلجة. هذا المختصر هو لسردية، مؤلفة في خطها العام، من عناصر ليست موضع خلاف بين المتخصصين، معتمدين، وبتصرف جزئي، على كتاب الباحثين السالفي الذكر: «كركوك مدينة طرفية، وجدت عند تخوم الإمبراطوريات التي نشأت على أرض الرافدين، لكن (سجلها التاريخي يبين بوضوح أنّها نشأت كمدينة «كوزموبوليتية» بحلول العصر الوسيط أي منذ القرن الخامس الميلادي، وكان سكانها يبدون متصالحين رغم تعقيداتها الاجتماعية والإثنية والدينية».
هذه الخلاصة للثنائي أندرسن وستانسفيلد، تعطينا فكرة قوية وراسخة عن الطابع المختلط لكركوك وكونه طابعها التأسيسي العميق وليس نتيجة ديموغرافية طارئة تم التدخل فيها فوقياً، بقصد تغييرها من قبل نظام البعث الصدامي أو جماعات مهاجرة ومحتلة، مع أنّنا لا ننكر قيام النظام المذكور بحملة لتعريب المحافظة تعريباً تاماً في السنوات الأخيرة من حكمه، لكن الحملة انتهت بنهاية النظام وعادت كركوك إلى طابعها التعددي العريق. كركوك إذاً، ذات طابع كزموبوليتي، مختلط وتعددي المكونات ومنفتح على العالم وليست «كردية أرضاً وشعباً وتاريخاً»، كما يقول الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وكركوك بهذه الكوزموبوليتية تكون من المدن النادرة غير البحرية التي تكون بهذا الطابع. فهي ليست بَحْريّة كبيروت والإسكندرية والبصرة، ولعلها أشبه ببغداد العباسية الكوزموبولتية واللابحرية. هذه الحقيقة تبطل الكثير من المزاعم القومية المنغلقة «عربية وكردية وتركمانية» التي تريد الاستئثار بالمحافظة وصبغها بلون قومي واحد.
وثانياً، من الصعب أن يُحدَّد على وجه الدقة مَنْ هم الذين أوجدوا المستوطنة التي ظلت تتطور لتصير مدينة كركوك المعاصرة. رغم ذلك، ثمة اتفاق معقول بين المتخصصين على وجود مستوطنة أولى أقامها الحوريون، وهم قوم نزحوا من منطقة القوقاز إلى الجنوب في نحو 2400 قبل الميلاد وأنشأوا سلسلة من الممالك والدول المتعاقبة في جبال زاغروس وسهول بلاد النهرين جنوباً.
من أهم هذه الممالك والدول الحورية مدينة أرافا أو عرفا (Arrapha) التي يعتبرها البعض كركوك الأولى. أُنشئت في الألف الثاني قبل الميلاد ونهضت على خرائب مدينة أقدم منها وآشورية على ما يُفترض. الأكراد يعتبرون الحوريين أسلافهم المباشرين، لكنّ لغتهم كما يؤكد الثنائي أندرسون وستانسفيلد تنتمي إلى عائلة تختلف عن اللغات الكردية الهندوآرية الثلاث الموجودة اليوم.
الآشوريون بدورهم يعتبرون كركوك الأصلية «أرافا» مدينة آشورية أصلاً، ثم جاءت أقوام أخرى بسطت هيمنتها عليها ولا يمكن تلك الأقوامَ، أن تدَّعي تأسيسها كما يرى الآشوريون. غير أنّ تحدياً جديداً ظهر بعد ذلك في شكل قبائل هندوآرية نزحت من الشرق إلى جبال زاغروس. من هذه القبائل انبثق الميديون الذين يعتبرهم الأكراد أسلافهم المباشرين أيضاً. والميديون هم من هزم الآشوريين في 615 قبل الميلاد. انتقلت كركوك من عهدة الميديين إلى البارثيانيين، وبعدهم إلى السيطرة الفارسية الساسانية، كسائر بلاد الرافدين في الفترة من 226 إلى 651 بعد الميلاد. وبعدما دمر العرب المسلمون الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحرروا العراق من شماله إلى جنوبه، أصبحت كركوك جزءاً من الإمبراطورية العربية الإسلامية العباسية وعاصمتها بغداد، ومن ثم العثمانية، وظلت هكذا حتى قيام العراق الحديث.
بصدد الوجود المسيحي في كركوك، يسجل المتخصصون أنّه ليس حديثاً وطارئاً أيضاً، وإنما يعود في أصوله إلى حكم الساسانيين في الفترة الممتدة من 226 إلى 651 بعد الميلاد عندما أصبحت مركزاً مهماً للنساطرة، بالإضافة إلى كونها مركزاً إدارياً كبيراً.
هذه السردية التاريخية المختصرة بشدة، كما أسلفنا، ليست بذات قيمة كبيرة على الصعيد الجغراسياسي، وليس بإمكان أي طرف أن يحول نسخته المسيَّسة والمؤدلَجة منها إلى شيء منتج ومثمر على الصعيد السياسي حالياً، لكنّها مفيدة جداً لناحية تأكيد تعددية كركوك العريقة وفرادتها الكوزموبزليتية وجذورها العراقية الرافدية جغرافياً وتاريخياً. ننتقل الآن إلى مجموعة من المقترحات والرؤى وهي شخصية، ولا تروم أكثر من إثارة الحوار المنتج. قبل ذلك سنتطرق إلى بعض الحلول والأوضاع التي يمكن اعتبارها ميتة سياسياً ولا أفق لها، من ذلك مثلاً:
ـــــ إبقاء الحال في كركوك على ما هي عليه كمحافظة تابعة لبغداد، وهذا أمر مرفوض لأنّه يعني إبقاء العراق جالساً على عبوة ناسفة يتحكم بها زعماء الميليشيات وأمراء الحروب الأهلية ولا أحد يعلم متى تمسّها شرارة التعصب المخترق من جهات خارجية أو داخلية.
ـــــ إلحاق كركوك بإقليم كردستان بموجب الاستفتاء، وهذا خيار لا أفق له نظراً إلى استحالة إجراء هذا الاستفتاء بسبب رفض نصف سكان المدينة تقريباً من غير الأكراد له.
ـــــ اعتبارها ذات قومية واحدة حصراً كردية أو تركمانية أو عربية، وهذا خيار يتناقض وطابعها التعددي الكوزموبوليتي العريق والمتجذر، دع عنك إنه يتناقض مع مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة الحديثة والمساواة.
ـــــ اعتبار كركوك عاصمة للعراق، وهذا أمر مستبعد لأنّه سيكون على حساب رمزية بغداد التاريخية التي لا تقل وزناً في المخيال الجماعي العراقي والعربي والإسلامي عن وزن العراق كله، ولأن هذا الحل يحتمل الرفض من جانب أكثر من طرف كركوكي.
في المقابل، هناك بعض الرؤى والتصورات، يمكن أن تشكل بداية واعدة للبحث عن حلول خلاقة من قبيل:
ـــــ أن تكون عاصمة اقتصادية أو صيفية للعراق، ما يخفف من قوة عوامل وعناصر رفض اتخاذها عاصمة اتحادية دائمة.
ـــــ تقسيم المحافظة ومركزها جغرافياً بين المكونات الرئيسية وحسب مناطق الأكثرية السكانية، وهذا الحل صعب على الصعيد العملي، وغير محبذ على مستوى الرأي العام الكركوكي، كما تشير وسائل الإعلام، إضافة إلى أنّه سيولد مشكلات وخلافات جديدة على كل مشمولات القضية عند إجراء التقسيم.
ـــــ أن تكون كركوك إقليماً قائماً بذاته من أقاليم الدولة العراقية الاتحادية، ترتبط على المستوى البلدي بالمركز الاتحادي بغداد وبمركز الإقليم. هذا التصور يفترض تحويل بلدية كركوك إلى بلديتين: واحدة لإدارة الأحياء الكردية وترتبط بإقليم كردستان بلدياً، وثانية لإدارة الأحياء الأخرى ترتبط ببغداد بلدياً، مع مراعاة الاختلاط السكاني في تلك الأحياء والتوصل إلى وضع حلول ناجعة وشفافة لحل المشكلات التي ستنجم عن هذا الحل، والتي يمكن أن نتوقع أن تكون هينة وأسهل كثيراً مما سيثيره التقسيم السياسي والجغرافي. ينبغي أن يتمتع إقليم كركوك بكل ما تتمتع به الأقاليم الأخرى مع زيادة تفرضها الخصوصية الكركوكية وكون المحافظة نفطية. ما يقال عن مركز كركوك «قضاء كركوك» يمكن أن يقال عن الأقضية الأخرى: داقوق وحويجة ودبس والنواحي والقرى التابعة لها، وربما ستكون العملية هنا أسهل بسبب وجود انسجام نسبي في التركيبة المجتمعية لتلك الأقضية. ويمكن أيضاً أن يصار إلى تنظيم استفتاءات لسكان هذه الأقضية المنسجمة مجتمعياً ليقرروا البقاء ضمن محافظة كركوك أو الانضمام إلى محافظات أخرى تابعة للمركز الاتحادي أو لإقليم كردستان.
ـــــ ليس من الصعب، بعد حصول توافق سياسي شامل على أحد هذه الحلول أو غيرها، إجراء استفتاء في كركوك يكون بمثابة المصادقة الشعبية على صيغة الحل المتفق عليها.
وأخيراً، فإن الأفكار البناءة، الخلاقة والمعتدلة، حتى وإن عانت من بعض الهنّات والتشويش والتعقيد، تبقى أكثر إيجابية من أفكار الشطب والإلغاء والاستحواذ القومي أو الطائفي.
* كاتب عراقي