كأنّ 14 آذار أرادت أن تثبت لنا أنّ التّاريخ مسخرة، فاصطفَت من بينها سمير جعجع (بالذات) حتّى يخطّ لنا استراتيجيّةً دفاعيّةً في وجه اسرائيل. الورقة الّتي نشرتها القوّات في 2010 جديرة بالمطالعة، فهي ــ عدا كونها مسلّيّة ــ تفسّر بجلاء للقارئ لماذا لم ينتصر جعجع في معركة عسكرية واحدة في حياته (على الرّغم من أنّ القوّات اللبنانيّة حظيت خلال الحرب بدعم وموارد، من اسرائيل وحدها، لم يحلم بمثلها حزب الله حتّى 2006).الفنّ العسكري الوحيد الّذي أجاده سمير جعجع كان «العمليّات الخاصّة»: الاغتيالات والانقلابات الداخليّة وشنّ «الغزوات» في المنطقة الشرقيّة على الطريق السّاحلية ــ وهذه الأخيرة، في عمقها اللاواعي، استعادة حداثيّة لتقليد بدويّ قديم. أمّا على جبهات الحرب، فقد كان تاريخ القوات في الثمانينات عبارة عن سلسلة من الكوارث العسكريّة.
وثيقة «الرّؤية الدفاعيّة» للقوّات اللبنانيّة تخلو، وبإصرار، من أي فكر عسكريّ، أو فهم لطبيعة الحرب بين لبنان واسرائيل، بل هي تحوي مقاطع مضحكة بالمقياس العلمي، وتوصيات من نوع الدّعوة إلى إنشاء تشكيلات عسكرية «بالغة السرية» في القرى والمدن الحدوديّة ــ كأنّه يكفي أن تصدر أمراً ومرسوماً بأن تكون الوحدات «بالغة السرية» حتّى تخفى عن العدوّ، وتصير عصيّة على الاختراق.
حجّة الوثيقة الأساسيّة هي باختصار: الحرب مع اسرائيل مستحيلة، ولا قبل لنا بها، علينا إذاً أن نخطّط لتجنّب الحرب بدلاً من خوضها، والعمل على ردع اسرائيل عن الابتداء بالغزو عبر إظهار بأسنا ــ وتخويف الصهاينة وإرهابهم يكون عبر حلّ المقاومة واستبدالها بقوّات المغاوير وفوج التدخّل.

ساعة تُطفأ الأنوار عن تلّ أبيب

من الأقوال الشائعة في العلوم العسكريّة أنّ الجيوش تستعد باستمرار لخوض الحرب الماضية. طبيعة التّاريخ تمنع تكرار حربين على المنوال نفسه، لذا، فإنّه من المحال أن نتنبّأ بدقّة بشكل المواجهة القادمة مع اسرائيل. نحن نعرف جزئيّات قليلة: سيكون هناك دور أكبر للطائرات بدون طيّار، المقاومة ستضرب العمق الإسرائيلي بترسانة مختلفة وضمن استراتيجيّة مغايرة لما سبق، وجنرالات العدوّ يهدّدوننا، من الآن، بارتكاب أفعال في غزوهم القادم، هي جرائم حرب موصوفة في القانون الدولي، من نوع «مسح» القرى التي تنطلق منها الصواريخ، وضرب المدن المقاوِمة بلا تمييز.
إضافة إلى ذلك، فإنّ مسار الحرب نفسه هو ما سيقرّر سلوك الطرفين وتكتيكاتهما. القاعدة الذهبية في الأكاديميات العسكريّة هي أنّ «أبدع الخطط الحربيّة تتلاشى مع أوّل التحام بين الجيشين»، إلّا أنّنا قد نجد في الحرب الماضية بعض الملامح الدّالّة على ما قد يحصل. أولى الأمثولات باعتقادي، هي أنّ الحرب القادمة لن تكون على الأرجح قريبة، ولن تحصل في المدى المنظور.
السبب لا يتعلّق بالوضع الدولي وبحالة النظام العالمي فحسب، بل بطبيعة المواجهة بين لبنان واسرائيل أيضاً. الحرب القادمة ليست في الأفق لأنّ اسرائيل تقيم منصّات لاستخراج الغاز في البحر على مقربة من سواحلنا. أتعرفون حجم البصمة الراداريّة لمنصّة عائمة عملاقة؟ لن يتمكّن أقدم صاروخ مضادّ للسّفن من إخطاء هدف من هذا النّوع حتّى لو أراد ذلك. الكلفة ليست فقط في الخسائر المادية المباشرة ــ وهي بالمليارات ــ بل أيضاً في سنوات سبع من العمل والتخطيط سيتحتّم إعادتها من الصّفر، هذا إن خاطر مستثمرٌ ما بالعمل في هذا القطاع مجدداً، وغنيّ عن القول إنّ كلّ خطط اسرائيل الطاقويّة ستشطب.
الأثمان الّتي تأمّلها اسرائيل في أيّ نزاع قادم تختلف جذريّاً عن «الحملات التأديبية» التي كانت تشنّها على لبنان في الماضي ــ بحدّ أدنى من الاستعدادات وبلا حاجة الى إذن أميركيّ في بعض الحالات. تأملوا التصاعد المتسارع في المواجهة: في أوائل التسعينات، أقامت الصحافة العسكرية الاسرائيلية الدنيا، وبدأت بالكلام عن «تغيير في قواعد اللعبة» في جنوب لبنان، حين بدأ حزب الله باستعمال صواريخ «السّاغر» الروسية ضد دبابات وتحصينات المحتلّ. صاروخٌ قديم وصعب الاستعمال وكثير الأعطال، وهو السّلاح ذاته الّذي قاتل به المصريّون والسوريّون في حرب تشرين 1973. بعد أقلّ من عقدين، تجد اسرائيل نفسها في مواجهة قوّة قادرة على ضرب عاصمتها بصواريخ تزن رؤوسها الحربيّة أكثر من نصف طنّ. وهناك ما هو أخطر: هي صواريخ دقيقة (أو ستصبح كذا في المستقبل القريب) ويمكن توجيهها ضدّ مبانٍ ومنشآت بعينها، ومن هنا فعاليّتها الحقيقيّة. نحن هنا لا نتكلّم عن «السكود» الّذي لا يمكن تصويبه الّا ضدّ أهداف بحجم «قضاء تل أبيب»، وتطلقه وأنت تصلّي كي لا يسقط في البحر أو على مخيّم فلسطيني في الضّفّة.
المواجهة القادمة، الّتي تكوّنت معالمها عبر عقود من الحروب والتّأقلم والابتكار، تعرّي نقاط الضّعف الجغرافية والديموغرافيّة لاسرائيل. ماذا سيفعل الكيان، مثلاً، حين تُضرب معامله الكهربائيّة؟ نحن سنحصل على الطاقة من ايران أو سوريا أو مصر. في المقابل، من سيزوّد اسرائيل بالكهرباء؟ هل ستمكث الدولة العبرية في الظلام سنة أو اثنتين حتّى يجري بناء ما تدمّر؟
اسرائيل قادرة على إيلامنا، غير أنّ قدرتها على التصعيد ــ فوق عنفها المعتاد ــ محدودة للغاية؛ في حرب تمّوز قالت تقديرات الحكومة اللبنانيّة (التي يبالغ فيها عادة لأسباب تتعلق بالمساعدات) إنّ اسرائيل دمّرت من بنيتنا التحتية ما قيمته مليار ونصف مليار دولار. بإمكان اسرائيل أن تصعّد وتضرب معامل الكهرباء مثلاً (وهو ما قد يدخل تحسينات الى قطاع الطاقة اللبناني) أو مبنى المطار، لكن الرقم لن يرتفع كثيراً. اسرائيل، في المقابل، تعجّ بأهداف حيويّة ودسمة، قيمة كلّ منها بالمليارات: مصافي نفط، منشآت صناعيّة ضخمة، استثمارات أجنبية هائلة، معامل لانتاج شرائح الكمبيوتر، وصناعات دفاعيّة كبيرة تقع أضخم مجمّعاتها على مرمى راجمة من حدودنا، قرب حيفا. هذه هي الوقائع الحقّة الّتي يفكّر عبرها المخطّطون العسكريّون، بعيداً عن خطابات التهويل والتهديد.
هناك ما هو أدهى بالنّسبة إلى اسرائيل. السّؤال الأساسي في أيّ حرب يبقى «الى أين؟»، أي كيف سيغلق باب المواجهة، وما هي التسوية السياسية التي سينتجها الانتصار المنشود، وما هو الهدف النهائي من الحرب؟ في تمّوز 2006، ما أوقف غزو اسرائيل لم يكن خسارة مئتي جندي أو ضرب بارجة، بل قيادة العدوّ التي سرعان ما اكتشفت أنّ حربها ــ بالمعنى العسكري والسياسي ــ كانت مكلفةً وبلا أفق.
في تمّوز 2006، لم تقدّم الوحدات المحترفة في المقاومة أداءً خارقاً فاق التّوقّعات. ما أرهق اسرائيل فعليّاً، وما يمثل كابوساً لأي محتلّ، هو وحدات الدّفاع المحلّيّة، الّتي جعلت من كلّ دسكرة جنوبيّة ستالينغراد محتملة. دخلت قرىً صغيرة كعيتا الشعب صفحات التاريخ العسكري وصارت ساحات قرىً مجهولة لعموم العالم، كمركبا والغندوريّة، مواقع وغىً قضى فيها العشرات من جنود النّخبة. وفي الجنوب مئات القرى، والجيش الاسرائيلي لم يتعدّ بقعةً صغيرة من جنوب لبنان. من المستحيل لجيش غازٍ أن يحقّق سيطرةً على الأرض، فيما الصواريخ تنطلق من كلّ منزل على كلّ تلّة لتصطاد آلياته. الخيار الباقي هو في خوض معركة غير مأمونة العواقب من أجل السيطرة على كلّ قرية على حدة.
يمكنك اليوم أن تتصفّح السّير الذاتيّة لشهداء تلك المواجهات: أستاذ الكيمياء في مدرسة القرية، مجنّد سابق في الجّيش يعمل بائعاً، طالب جامعيّ، حلّاق القرية. هؤلاء النّاس يخيفون جيشاً غازياً أكثر بكثير من لواء أو لواءين لحزب الله، مهما بلغت درجة تدريبهم. شهداء عيتا الشعب كانوا بأغلبهم أناساً «عاديّين» ولدوا وأرضهم محتلّة، وهم حرّروها وعادوا اليها، وهم كانوا بكلّ بساطة مستعدّين لأن يستشهدوا حتى آخر فرد فيهم، قبل أن يروا قريتهم تستسلم مجدّداً لاسرائيل.
حتّى اذا افترضنا أنّ اسرائيل تمكّنت، في 2006 مثلاً، من اقتحام كافّة قرانا ومدننا، ودخلت الضاحية وبيروت، ودمّرت البنية العسكريّة الرّسميّة لحزب الله. هل كان ذلك سيعني أنّ الحرب انتهت؟ بالطّبع لا، فهنا، بالذات، تبدأ الحرب الحقيقيّة! ذكرى الاحتلال المباشر للبنان لا تزال حاضرة بقوّة في وجدان الجيش الاسرائيلي، ولن تتمكّن اسرائيل من إقامة أيّ نظام سياسي قابل للاستمرار عبر عملاء لها ــ وخاصّة أنّ المتفجّرات اليوم أكثر ابتكاراً وفعاليةً بكثير عمّا كانت عليه في الثمانينات.
بعد حرب جورجيا في 2008، والهزيمة الكاملة لنظام ساكاشفيلي، اقترح عدد من السياسيين الأميركيين ــ مستلهمين تجربة 2006 ــ أن يجري تسليح البلد «على طريقة حزب الله»، أي أن يُعطى الجورجيّون صواريخ حديثة ضدّ الدبابات، وأن يؤطّروا ضمن مجموعات صغيرة تقاتل في الجبال ضدّ «الغزاة» الروس.
ما إن طرحت محاورة أميركيّة هذا الاحتمال على ساكاشفيلي في مقابلة، حتّى شحب وجهه وشرح متلعثماً أنّ الجورجيّين «شعب نبيذ وأغانٍ»، وهُم مسالمون ولا يحبّون القتال والحرب ــ متناسياً ابن جورجيا البارّ جوزف ستالين. شرح معلّق عسكريّ أميركيّ تردّد ساكاشفيلي، مذكّراً سياسيّي بلده بمعنى أن يختار مجتمع ما خوض حرب مقاومة ضدّ عدوّ أقوى منه بكثير. «حرب كهذه تعني أنّك، حتّى في حال الانتصار، ستُقتل على الأرجح، ومعك أغلب رفاقك، وسيتعرّض مجتمعك لدمار يغيّر معالمه؛ كلّ ذلك حتّى تؤلم عدوّك بمقدار يجعله يكفّ عنك». ساكاشفيلي دخل في حلف مع اميركا واسرائيل طمعاً بالسّلطة وببعض المساعدات والمديح من السيّد الأبيض، لا لكي يخوض حرب تحرير وطنيّة من جوف خندق.
من يسلك درب حرب «الغوار» فسرعان ما سيكتشف أنّ الحرب ليست لعبة، وأنّ الموت ليس رومانسيّاً. الطّريق الوحيد لتخفيف الكلفة على المجتمع هو في مضاعفة إمكاناتك على أذية العدوّ، وفي أن تكون متقبّلاً، على الدوام، إمكان وقوع الحرب وضريبتها الثقيلة. إن أردت العيش ضمن هذه الشروط، فأهلاً وسهلاً بك في لبنان.
يجب أن تُقارب تلك المسائل بوعي وبواقعيّة. أمّا في لبنان، حيث يعيش الخطاب السياسي السائد، ومعه نخبته، في معزل مريح عن التّاريخ وعن معظم اكتشافات العلوم الإنسانيّة منذ أيّام شارل مالك، فإنّك تجد من يبني استراتيجيّته الدّفاعيّة على فكرة «سدّ الذّرائع»، وينتقد المقاومة لأنّها على ما يبدو توفر «الحجج» المتوالية لإسرائيل حتّى تقصف بلادنا.
هؤلاء الذّرائعيّون، على ما يبدو، يعتقدون أنّ العالم برنامج ألعاب تلفزيونيّ: ترد بإجابة خاطئة أو تخطو خطوة ناقصة، فتُعاقَب بحرب اسرائيليّة. تصبح الاستراتيجيّة والسياسة وعمل المقاومة كلّها متمحورة حول تجنّب الوقوع في ذلك الخطأ القاتل!
أيعلم هؤلاء أنّ اجتياح اسرائيل للبنان في 1982، وقتل عشرين ألف لبنانيّ وفلسطينيّ، جاءا بعد هدنة استمرّت ما يقارب العام مع المقاومة الفلسطينية، لم يطلق خلالها صاروخ كاتيوشا واحد، أو تشنّ فيها عمليّة واحدة داخل فلسطين؟ أيعلمون أنّ فتح دخلت في منطق «سدّ الذّرائع» و جرّبته، والتزمت به أكثر من حزب الله اليوم بقليل؟ ما كانت النتيجة؟ غيّرت اسرائيل ببساطة ذرائعها، ورفعت مستوى مطالبها وعقابها. عندما التزمت فتح بعدم ضرب اسرائيل، صارت المقاومة الفلسطينيّة تقتل ضابطاً (أي هدف عسكريّ لا يخرق الهدنة) بعبوة في الجّزء المحتلّ من الجّنوب، فيردّ الاحتلال بقصف الدامور وقتل العشرات. غيّرت اسرائيل القواعد ببساطة لأنّها كانت قادرة على ذلك، وعلى فرض الواقع الذي تريده؛ وحين يسمح ميزان القوى لإسرائيل بإعادة السيناريو نفسه، فإنّنا سنرى طائراتها تضرب الأهداف على أرضنا اليوم قبل الغد، تحت ألف ذريعة وذريعة، ولن ينفعنا ساعتها «المجتمع الدّولي» وقوانينه. أنعتمد على «التكاتف الوطني في وجه اسرائيل»، الّذي يعدنا به البعض، مشروطاً بتخلّي المقاومة عن سلاحها؟ من شاء أن يستند الى تلك الوعود، حين تصدر عن أمثال أمين الجميّل وسمير جعجع ودوري شمعون، فليفعل ذلك على مسؤوليّته الشخصية...
الميزان القائم اليوم بين لبنان واسرائيل ليس نتاج تكتيك عسكريّ أو فلسفة تنظيميّة معيّنة، بل هو خلاصة أربعة عقود من الحرب، وتراكم خبرات كان ثمنها آلاف الشّهداء، لا من المقاومة الإسلاميّة وحزب الله فحسب، بلّ من كلّ من سبقوه أيضاً، وتجربة حزب الله، في المحصلة، لن تكون إلّا تركةً لمن سيتبعه.

* كاتب عربي