قبل يوم واحد من «خفض» التمثيل الدبلوماسي و«تجميد» التعاون مع إسرائيل، نشرت أنقرة درع الناتو الصاروخي ليضمن، بين مهماته الرئيسية، «حماية» تل أبيب من الهجمات الصاروخية، وتأجل إعلان «النشر» لما بعد «الخفض». ومع الساعات الأولى لزيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للقاهرة، هددت خارجيته باحتلال شمال العراق، مع تسريبات بـ «احتمال» إقامة قواعد عسكرية فيه. أغمض الكل عينيه عن نشر الدرع وعن التهديد بالاحتلال، وهلل كثيرون لخطوة «الخفض» التي أتت بعد أكثر من عام على مهاجمة اسرائيل سفينة مرمرة وقتلها تسعة أتراك. المهللون قارنوا بين موقف أردوغان وموقف حكام القاهرة الحاليين والمخلوعين. كمصري، أُقر بأنّ أداء نظامنا المخلوع في ملف فلسطين، أهان كرامتنا الوطنية، وهدد ثوابت أمننا «القُطري»، قبل العربي. وهو لا يزال «مرتبكاً»، رغم مؤشرات ندية قادمة. ولو توقف المُنبهرون بـ«التركي» عند المقارنة، لبدا الأمر مفهوماً، لكن قطاعاً مؤثراً من إعلامنا العربي، وفي قلبه قناة الجزيرة، يُصر على تزكية أنقرة قائدة للعرب. قطاع يتجاهل أنّ علاقات القاهرة، من قبل ومن بعد، بـ«عدوها الدائم» مؤقتة، وأنّ علاقات «عدوها» والمنظومة الغربية الخالقة له، بتركيا مترسخة منذ الستينيات، في خندق التحالف الاستراتيجي ضدنا.
علاقة تاريخية، أرجعها أردوغان إلى اعتراف خصمه، حزب «الشعب الجمهوري»، بإسرائيل، معتمداً على تعتيم معلوماتي على طبيعة علاقة «تياره» بالغرب وأداته الصهيونية. هو هنا يستفيد، مصرياً، من حملة يقودها فهمي هويدي، توحي بأنّ إخوان تركيا أحدثوا، منذ سنوات، «انقلاباً تاريخياً» في العلاقة مع تل أبيب، بينما الوقائع تقول إنّ أول موقف «حاسم» من أنقرة ضد الصهاينة جاء رداً على قمع الانتفاضة في نيسان 2002، حينها استدعت حكومة بولند أجاويد اليسارية سفيرها ووبخته، ورصدت وكالات الأنباء وقتها «نزول آلاف الأتراك إلى الشوارع، يتقدمهم زعماء عمال ومنظمات مدنية»، يهتفون: «إسرائيل قاتلة». لم يكن الإخوان وقتها بينهم.
في أزمة «مرمرة» كان أردوغان صريحاً لفضائية «دريم» المصرية: «لا أُعادي إسرائيل وعلاقاتي كانت جيدة مع حكومة أولمرت» (التي حرقت غزة بالرصاص المنصهر)، فـ«المشكلة هي حكومة نتنياهو». وشكا استغلالها لـ «تجميد» التعاون لوقف إعادة سرب طائرات بدون طيار إسرائيلية الصنع، استخدمتها أنقرة في قصف الأكراد بالعراق، فلتركيا منصة خدمة طائرات «خاصة بها» في تل أبيب. وفي الأمم المتحدة، بالتزامن مع طلب فلسطين عضوية كاملة، يشدد: «لا نعادي إسرائيل»، مُفرقاً بين نتنياهو وشيمون بيريز، الذي يُفضل التعامل معه.
يتسق أردوغان مع سياسة مُترسخة للأحزاب «ذات المرجعية الإسلامية»، من تصويت حزبه لمصلحة «التصفيق» لرئيس إسرائيل، خلافاً لأعراف البرلمان، إلى إعلان وزير الطاقة التركي تدشين «مشروع القرن، خط أنابيب يربط البحرين الأسود والأحمر» في 2006، في خطوة، رآها «تعزز أمن طاقة إسرائيل ودور تركيا كمركز لها». وهناك عرض دائم بتوصيل أنابيب ضخمة لتل أبيب، من خزين شبكة سدود عملاقة وبحيرات ضخمة أقيمت على روافد دجلة والفرات، لتأكل حصتي سوريا والعراق من المياه، والأخيرة انخفضت حصتها للنصف، ثم لنصف النصف في 2013، ومرشحة لجفاف حصتها في 2040، كما تقديرات منظمة المياه الأوروبية.
وقطاع الإعلام المروّج لزعامة العثمانيين، يتجاهل تطبيق تركيا «الأمين» لحظر وصول الأسلحة لحزب الله، بإجبار ثلاث طائرات إيرانية على الهبوط لتفتيشها في 2006، وإحباط هجوم لحزب الله على أهداف صهيونية في 2009، وكذلك شراء صواريخ روسية، تسعى إيران إلى شرائها، لتدريب صهاينة على تحييدها في قواعد تركية (القدس العربي، 8 ـ 10 ـ 2008)، ضمن اتفاقية «قديمة» شملت بناء إسرائيل 3 قواعد تنصت على حدود سوريا وإيران، وتدريب طياريها في قواعد تركية. وفي المقابل، شارك خبراؤها في هجمات على شمال العراق.
في الأسبوع ذاته الذي حصلت فيه أحداث قافلة مرمرة، تسلمت أنقرة 10 طائرات من دون طيار صنعتها شركة «هيرون» برأسمالها المشترك، مع تعهد بتصنيع 102 طائرة مماثلة يتقاسمها الطرفان، وتوسيع رحلات طيرانهما لتشمل خمسة مطارات تركية وثلاثة إسرائيلية. ولا ننسى عبور طائرات عسكرية صهيونية مجال تركيا الجوي إلى المجر ومنها في 17 آذار 2010. وتكشف «راديكال» التركية الهدف، وهو إعادة قتلة السوري بسام طراشي. وكذلك، لدينا موافقة أنقرة على ضم إسرائيل لمنظمة «التنمية والتعاون الاقتصادي» متغاضية عن حق الفيتو، تزامناً مع تهديدات «رسمية» صهيونية بمهاجمة مرمرة.
يُخبرنا د. مصطفى اللباد، خبير الملف التركي، أنّ «كل» تحالفات أنقرة مع الغرب وإسرائيل، تقريباً، وقعتها حكومات «ذات مرجعية إسلامية». فمع أول وزارة لهم بقيادة عدنان مندريس حسمت حكومات تركيا المتعاقبة خندقها إلى جانب الغرب. وفي 2006، عام الحسم العسكري/ انقلاب غزة، بدأنا نسمع «تصريحات» داعمة، ظلّت مجرد تصريحات حتى تقرير «مرمرة».
وداود أوغلو، «مخ» المنظومة الخارجية كما فصّلها كتابه «عُمقنا الاستراتيجي» في 1992، هو مهندس أول تواصل رسمي مع حماس في 2006، تطبيقاً لنظريته «الطريق لبروكسل يمر عبر مكة». وهو قائد التفاوض للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في بروكسل منذ 2005. وسنكتشف في آب 2011 أنّه مهندس «تمتين» علاقة إخوان القاهرة بواشنطن. ويتحدث آلان شووي، كبير مسؤولي استخبارات فرنسا الخارجية سابقاً، عن سيناريو مختلف لـ«الربيع العربي»، وعن صفقات يُديرها الغرب مع مؤسسات الإسلام السياسي («الأخبار»في 10 تشرين الأول الماضي).
إنّه التجلي الثاني لـ«العثماني الجديد»، تدشيناً لحلم استعادة هيمنة «طورانية» خضع خلالها العرب، 600 عام، لاستعمارهم لنا تحت راية الخلافة، ضمن مسلسل الصراع/ التنافس التاريخي بين القوميات الثلاث «الدائمة» بالمنطقة، يتقدم فيه الآن الأتراك.
تقدم ناعم مُتناغم، من فضائية بالعربية، إلى افتتاح أول مدرسة في القاهرة نهاية 2009، ضمن منظومة الأب الروحي للعدالة والتنمية فتح الله غولن التعليمية، التي تضم أكثر من ألف مدرسة موزعة بين دول الحلم الطوراني، وصولاً إلى عقد أول مؤتمر، أيضاً في القاهرة، لمؤسسته الثقافية العابرة للحدود في تشرين الثاني 2010. وبعد ثورة كانون الثاني/ يناير يسعى إلى تأسيس تكتل إعلامي مقره القاهرة. ودائماً، منظومة خارجية «غامرة» للمنطقة، تخدم مصالحها «القومية» بكل الأدوات، من الدين إلى الإعلام. وهي، كما يؤكد «اللباد» في صحيفة «النهار» اللبنانية «ترسم سياستها بغطاء أميركي».
يقول المهللون إنّ تحجيم أردوغان للجيش أطلق يديه ضد إسرائيل، بينما عسكر أنقرة، أصلاً، يعدون منظومة «غولن» ذاتها «اختراقاً أميركياً» لدولتهم. الأهم أنّ المهللين يتجاهلون أنّ التحالف الصهيو ــ عثماني لم يكن عسكرياً فقط، وأنّ إسرائيل نفسها «كيان وظيفي» غربي.
لم ينفرد اللباد بربط حراك أنقرة الواسع بـ«المظلة الأميركية»، فالكاتب محمد نور الدين له رأي مماثل، فصّله في مقال له عن «الإسلام الأميركي من مندريس إلى أردوغان» (السفير، في 21 تموز 2011)، منبهاً إلى «تحوّل تعاونهما إلى شراكة تستوعب الربيع العربي المتفجر»، ناقشتها هيلاري كلينتون منتصف تموز/ يوليو 2011 مع أردوغان وأوغلو. وينسب للكاتب سامي كوهين في جريدة «ميللييت»: «لم يعد هناك فرق بين أنقرة وواشنطن»، مذكراً بسعي تركيا إلى إقناع حماس بالاعتراف بإسرائيل، بعد قمة أردوغان وجورج بوش خريف 2007.
في الخندق ذاته، يقف السوري صبحي حديدي، ليقرأ، في القدس العربي في أيلول الماضي دراسة بعنوان: «ماذا وراء السياسة الخارجية الجديدة لأنقرة؟»، أعدتها سفارة واشنطن في تركيا في 20 كانون الثاني 2010. فهي مثلت «نقلة لا في سياسة الحكومات السابقة فحسب، بل أيضاً في سياسات العدالة والتنمية ما قبل أحداث غزة ودافوس، وقبل وصول أوغلو إلى الخارجية». ومع إقرارها بأنّها «أكثر تركيزاً على العالم الإسلامي» تُطمئن بأنّها لا تشي، أبداً، بـ«تخليها عن تمحورها الغربي التقليدي، وحلف الأطلسي نواته... مع حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي»، وأنّها «أكثر ملاءمة بدرجة كبيرة لمصالح الغرب» من نهجها السابق، مُعددة قائمة مبادرات «مثيرة للإعجاب». هي «نيو عثمانية» كما كتب مازن السيد في جريدة «السفير» في 13 أيلول الماضي، ناقلاً عن وثيقة أميركية تفاصيل لقاء بين أوغلو وإيهود باراك، في كانون الثاني 2010، أهم ما فيه تأكيد أوغلو أنّ «تعاظم ثقة العرب بأردوغان، ستمكنه من الفوز بصفقة سلام نهائية».
هكذا توجه أردوغان إلى واشنطن، كـ«مُتعهد للعرب»، ومعه ملفات «حساسة للغاية» وفق صحيفة «صباح» التركية، ضمنها فلسطين/ غزة، و«تطوّرات مصر»! وبعد لقاء أردوغان ـــــ أوباما، قالت «نيويورك تايمز» إنّ تركيا قدمت نفسها كمفتاح للغز ثورات العرب.
وفي لقاء مُغلق مع كتاب ومثقفين أتراك، نشرت صحف أنقرة ما تيسر منه في 9 تشرين الأول الماضي، أرجع داود أوغلو زيادة نفوذ الأتراك إلى ثلاثة أسباب: «ديموقراطية متنامية، اقتصاد صاعد، معارضة أخطاء إسرائيل»، ملخصاً استفادة أنقرة من الربيع العربي بـ«أخذنا مكاننا في الغرب بطريقة موضوعية».
لا أقلل من أهمية النموذج التركي، بالعكس، أنا منبهر بنجاحه، لكن سواء تجاوزت أنقرة وتل أبيب أزمة «الكرامة» المتبادلة، وسواء كانت العقوبات ضد تل أبيب غطاءً لسيناريو أخطر ضد سوريا لا بشار الأسد، فعلينا ألا ننسى أنّ إسرائيل دائماً أداة غربية، وأنّ تركيا، بمظلتها الغربية، «عشيقة» تتمنع، أو تُغادر فراش الصهيوني، لتصبح حصان طروادة غربي وسط أمتنا.
توصيف علاقة أنقرة بتل أبيب بـ«عشيقة ترفض الزواج» نحته بيريز، الذي يُفضل أردوغان التعامل معه، ومنه تلقى الشكر هو وداود أوغلو على دوريهما في إطلاق جلعاد شاليط، وفق «ميللييت».
دقق النظر: أردوغان... بطلـ«هم». نموذج ناجح لدولته، وداخلها لعرقه ضد الأكراد، ولطائفته ضد العلويين. نموذج لحزب يُجيد اللعب مع الغرب لمصلحة أمته، و«نحن» مجرد «أوراق لعبهم».
* المدير العام لتحرير يومية «الحرية» المصرية
(قيد الصدور)