يحلو لليكودي اللبناني، فؤاد عجمي، أن ينعى القوميّة العربيّة مرّة كلّ بضع سنوات (هل يفخر به بعض أبناء الوطن وقد أهدوا إلى صديقه، جون بلتون، درع الأمير مقرن؟). الصهاينة هلّلوا (ولم يتوقّفوا عن التهليل) لموت جمال عبد الناصر، وهم يزفّون خبر صعود الفكر القُطري في العالم العربي إلى كلّ من له أذنان. لم تخفِ الصهيونيّة ورعاتها في أميركا هدفها منذ الحرب الباردة: إنّ العمل القومي المُوحّد يقوّي عضد القوّة العربيّة بوجه إسرائيل وبوجه الاحتلالات. هذا ولم تقم حركة انفصاليّة في العالم العربي لم تكن إسرائيل بعيدة عنها (الحركة الكرديّة في العراق، جنوب السودان، القوى الانعزاليّة في لبنان، إلخ). وجمهوريّة جنوب السودان، وهي مثل جمهوريّة الناتو في ليبيا، بدأت بارتكاب جرائم الحرب قبل أن تصل إلى السلطة، تبدو كمستعمرة إسرائيليّة في العالم العربي (حرص ميشال سليمان أثناء زيارته لنيويورك على لقاء رئيس جمهوريّة جنوب السودان، لكن قد يعود ذلك لخلوّ برنامجه من مواعيد أخرى). إن تقسيم العالم العربي من الأهداف غير المستترة للصهاينة ورعاتهم. جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، من أنصار تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام.
يعترف أرتشي روزفلت (المسؤول القديم عن الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات الأميركيّة) في كتابه «شبق المعرفة» بأنّ الولايات المتحدة تعاملت، من دون مُبرّر في رأيه، مع عبد الناصر والناصريّة، وكأنهما صنو الشيوعيّة. كان الهدف الأميركي واضحاً: السعي إلى تفتيت العرب بما يفيد إسرائيل ويفيد المصالح الأميركيّة في العالم العربي. إن المؤامرات على نظام الوحدة (الجمهوريّة العربيّة المتحدة، الوليد الذي قضّ مضاجع الرجعيّة العربيّة وأميركا) لم يعد مجهولاً، والاستخبارات الأجنبيّة نشطت في تدبير الانفصال، وإن كان النظام الناصري نفسه يتحمّل المسؤوليّة الجمّة لسوء إدارته لـ«الإقليم» (يبرز اسم عبد الحكيم عامر، مرّة أخرى. هل تسلّم هذا الرجل ملفّاً واحداً ولم تنتج منه كارثة مُحقّقة؟ من اليمن إلى الجمهوريّة العربيّة المتحدة إلى هزيمة 1967). كذلك إن أنظمة الخليج المُطيعة (دوماً للمصالح الغربيّة والإسرائيليّة على حساب المصالح العربيّة) حرصت على دعم الأنظمة المعادية للحركة والفكر القومي، بالإضافة إلى دعمها للحركات الانفصاليّة (جهد الأمير سلطان المَرثي عالميّاً على تفتيت اليمن وتدميره عبر العقود، لكن القوّات السعوديّة أظهرت فشلاً ذريعاً في المواجهة مع الحوثيين. الأسلحة الباهظة لا تفيد إلا في زيادة حجم الرشى للأمير سلطان وأولاده). ومن الطريف أنّ دعاة الوهابيّة في العالم العربي يجرؤون على السخرية من الفكر القومي وهم يطرحون حكم العائلة الواحدة بديلاً. لكن من يصغي إلى هؤلاء؟
صحيح أنّ الفكرة القوميّة تعرّضت لنكسات تستحقّها. إذا كانت الفكرة القوميّة تتمثّل بعبد الرحيم مراد أو برموز البعث (في نموذجيْه السوري والعراقي)، فمن يريدها؟ كان للبعث سحره قبل أن يأتي إلى الحكم، لكن وصوله إلى الحكم قضى على الفكرة البعثية وألحق ضرراً بالغاً في الفكرة القوميّة أيضاً. يكفي أنّ حزب البعث الذي حمل لواء الفكرة القوميّة عبر عقود ولم ينفكّ في المزايدة على النظام الناصري، انتهى بفشل ذريع على كل الصعد، باستثناء النجاح في تركيب أجهزة أمن واستخبارات تفي بغرض حماية السلالة الحاكمة. نجح البعث في ضرب الفكرة القوميّة، ليس فقط من خلال إنتاج نموذج بالغ البشاعة، بل أيضاً من خلال الترويج للفكرة والممارسة القطريّة المُتزمّتة. لقد درس المؤرّخ الإسرائيلي (الذي فتحت له الحكومة الأميركيّة وحده من بين الدارسين والدارسات خزائن الوثائق الرسميّة العراقيّة التي سطت عليها القوات الغازيّة في العراق)، أماتزيا بارام، التدرّج في فكر الهويّة للنظام الصدّامي في العراق. بدأ النظام البعثي هناك قوميّاً عربيّاً متزمّتاً، ثم أصبح منذ الحرب الإيرانيّة العراقيّة يستلهم التاريخ العراقي القديم، والتمجيد (على طريقة أدعياء الفينيقية الجوفاء في بلد الترّهات الشوفيّنيّة، لبنان) لرموز التاريخ العراقي غير العربي. الرجل رأى في نفسه عبد الناصر آخر، ثم رأى في نفسه نبوخذنصّر آخر. لكن صدّام في سنوات الحرب مع إيران رأى في نفسه نبيّاً أو إلهاً. والبعث السوري لم يختطّ طريقاً مختلفاً في ذلك الشأن عن خصمه (وزميله في العقيدة). وسائل الإعلام السوريّة تكاد تقلّد الوطنيّة اللبنانيّة بأبشع نماذجها الفاقعة. والقيادة القوميّة لحزب البعث العربي الاشتراكي في فرعه الشامي، وهنا المفارقة القطريّة في حدّ ذاتها، لم تجتمع منذ عقود. أفلست أيديولوجيّة البعث، فاستعيض عنها بأيديولوجيّة قطريّة تتناقض مع الكرّاسات التي لا يزال النظام القومي بالاسم يطبعها بأعداد كبيرة. النظام السوري كان يروّج لنفسه على أنّه «سوريا الأسد». التصقت العائلة الحاكمة بالقطر، والأمّة العربيّة اكتفت برسالة غير خالدة.
لكن المسألة هنا تتعلّق بنواح ونزعات بعيدة عن الأنظمة. من المعلوم أنّ وفاة جمال عبد الناصر وصعود أنور السادات كرّسا الفكرة والممارسة القطريّة الضيّقة. كانت ضروريّة لإنشاء نظام السادات مبارك من أجل الترويج للسلام مع إسرائيل ولفتح الاقتصاد المصري أمام هجمة الرأسماليّة الغربيّة الوحشيّة. كل الحكومات العربيّة ذعرت من الفكرة القوميّة لأنّها أنظمة بالكاد تحظى بشرعيّة الحكم في دائرة القبيلة أو العائلة أو الزمرة. وفي زمن عبد الناصر، كانت الأنظمة تعلم أنّ أيّة تجربة وحدويّة ستقصي بالقيادات والزعامات الأخرى، وأنّ الحدود التي تحفظ مغانم السلالات عرضة للمخاطر. لم يُشفَ ميشال عفلق ممّا أصابه بعد أن نشر النظام الناصري نصّ محادثات الوحدة في 1963. لم يكن لعبد الناصر من منافس آنذاك. المؤامرات تكالبت عليه، وقد نكتشف بعد سنوات أنه اغتيل في 1970. لكن زمن الساداتيّة أعطى زخماً ودفعاً للفكر القطري. لم يقدّر أعداء السادات مهارته وفنّه في الخطاب والدعاية السياسيّة، حتى ولو تسنّت له الاستعانة بخبرات غربيّة وإسرائيليّة. الفكر القطري في مختلف أنساقه في العالم العربي يدور حول المضامين نفسها: 1) التعويل على حاجة الشعب الماسّة إلى تحسين الاقتصاد وتصوير النظام القطري على أنّه الحلّ الوحيد والأوحد للمشاكل الاقتصاديّة المتفاقمة. رَفع وصفي التل السيئ الذكر شعار «الحياة الأفضل» في 1971 بعد تصفية المقاومة في الأردن، وحركة 14 آذار رفعت شعار «بدنا نعيش» و«حب الحياة» طبعاً، الحركة الحريريّة لم تلاحظ المفارقة الفاقعة في رفعها شعار «حب الحياة» وهي التي ترتزق من تجارة جثّة رفيق الحريري بعد أن انضوت في إطار المشروع الإسرائيلي السعودي. وقد برع السادات في الربط بين الشوفينيّة المصريّة (التي تعتمد على التاريخ الفرعوني كما تعتمد الشوفيّنيّة اللبنانيّة على التاريخ الفينيقي، مع أنّ الفارق بين الحضارة الفرعونيّة والحقبة الفينيقيّة هي بحجم المسافة بين جورج حبش وسلام فيّاض) وبين وعود الازدهار والانفتاح. 2) الربط بين الانغلاق والازدهار من ناحية وحتميّة السلام مع إسرائيل. نجح السادات في إقناع قطاعات كبيرة من الشعب المصري بأنّ سلامه (المُذلّ والمُهين) مع إسرائيل هو ضروري لرفع مستوى المعيشة في مصر. ولعلّ السيئ الذكر، رفيق الحريري، استوحى من السادات فكرة وعده بـ«الربيع» وبين السلام الموعود (من قبله) مع إسرائيل. ليس صدفة أنّ الدعوة إلى السلام مع إسرائيل ترافقت مع الدعوة القطريّة. الدعوة القطريّة هي التي تركت الفلسطينيّين وحدهم، بمساعدة ياسر عرفات الذي رفع شعار «القرار الفلسطيني المُستقلّ» من أجل أن يقتل المساندة العربيّة الشعبيّة لقضيّة فلسطين، لأنّها لم تكن في وارد مشاريعه التسوويّة. يروي إلياس شوفاني في مذكّراته عن دور أبو مازن في تنفيذ قرار أبو عمّار بإقصاء العرب غير الفلسطينيّين من صفوف التنظيمات والاتحادات الفلسطينيّة في المهاجر. 3) الفكر القطري أسقط فكرة التضامن الشعبي العربي، إذ كانت التظاهرات تعمّ حول مواضيع خارج النطاق القطري الضيّق. عندما حارب نظام مبارك خليّة حزب الله التي كانت تحاول مساندة الثوّار في غزة، نجح النظام المصري في تسويغ قمعه بحجّة «سيادة وأمن مصر» (والطريف أن المعسكر السعودي يتهم حزب الله بعدم مساندة الشعب الفلسطيني في يوم، ويتهمه بخرق سيادة الدول العربيّة بهدف مساندة شعب فلسطين، في يوم آخر).
لكن عجمي وباقي الصهاينة الذين يتلذّذون بقراءة الفاتحة عن روح القوميّة العربيّة مخطئون. إنّ الربط بين اشتعال البوعزيزي واشتعال الانتفاضات من عمّان إلى المغرب دليل على استمرار الهويّة والدافع السياسي العربي الجامع، من دون الخوض في تفاصيل طبيعة الهويّة العربيّة المُتجدّدة، وعلاقتها بالسلوك السياسي الشعبي (ذلك موضوع يحتاج إلى تحليل منفصل). هناك من قال إنّ انتفاضات أوروبا الشرقيّة تزامنت هي الأخرى، وهذا صحيح، وصحيح أنّ هناك ما يجمع (تاريخيّاً وثقافيّاً) بين تلك الدول أيضاً. لكن الحالة العربيّة كانت مختلفة؛ إذ إنّ الشعارات هي نفسها، والخطاب يكاد يكون هو نفسه مع اختلاف الحالات باختلاف واقع القمع بين بلد وآخر. وظاهرة الإعلام العربي المُوحّد، على علّاته، هي أيضاً تعبير عن جوامع الثقافة العربيّة. ونستطيع أن نشير إلى الموسيقى والفن والمسلسلات والأدب كتعبيرات عن جوامع وقواسم مشتركة بين العرب (مع أنّ الثقافة العربيّة في حالة غير صحيّة مرضيّة لأسباب لها علاقة بالعصر الشخبوطي الذي لوّث عناصرها، يكفي أن تقرأ عن اختيار المنامة عاصمةً للثقافة العربيّة، ويكفي أن تقرأ مقالة لعبده وازن عن الموضوع في جريدة الأمير خالد بن سلطان من دون كلمة نقد واحدة). والهم، أو الهموم بين العرب هي أيضاً مُشتركة، كما أنّ الأنظمة العربيّة المُستبدّة تتشابه في الكثير، حتى وإن اختلفت في السياسات والتفاصيل.
لكن المناسبة هنا للحديث عن سمات في الانتفاضات العربيّة. إنّ الانتفاضات العربيّة ظاهرة عربيّة عفويّاً وشعبيّاً، لكن الانتفاضات من خلال القيادات السياسيّة للحركات السياسيّة تنمّ عن نيات شوفينيّة قطريّة. الانتفاضات العربيّة تحرص على إبراز قطريّتها وتحرص على الإفراط في الخطاب القطري الشوفيني المقيت: لا يمكن الحديث عن مصر، حتى بين بعض اليساريّين والمُتنوّرين مثل علاء الأسواني، إلا عبر إطلاق صفة «مصر العظيمة». ويكثر بعض الشباب (خصوصاً الليبرالي) في مصر في الحديث عن عظمة مصر وعن تفوّق مصر وعن تاريخ مصر العظيم تماماً على طريقة نوادي الشوفينيّة المُحترفة في لبنان. وهبّت مصر ضد إسرائيل بعد مقتل جنود مصريّين، وكأنّ الكبرياء المصرية لا تُخدش إلا عندما يتعرّض مصريّون فقط للاعتداء من إسرائيل، وكأنّ ما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطيني غير ذي بال. ويصرّ المنتفضون المصريّون على تغليف كلّ خطابهم في شعارات تتوافق مع القطريّة التي زرعها السادات في أرض مصر. لكن الشعب المصري لا يبدو أنّه ثابت في مسألة الهويّة، أو أنّه ليس جامداً، بدليل تغيّر أفق الهويّة في مصر واتساعها في العهد الناصري، لكن هناك من يقول (أو تقول) إنّ تلك كانت معجزة حقّقها عبد الناصر، ويصعب تحقيقها من غيره.
لكن الهويّة العربيّة الجامعة، والدافع القومي الجامع (غير المبني على الشوفينيّة وعلى النوازع القمعيّة التي حملتها ممارسة البعث) يتفق مع المصلحة الوطنيّة في داخل كل وطن. إنّ التهديد الإسرائيلي خطر داهم وجامع لكل العرب، وهو لا يصيب شعباً واحداً من دون غيره. إنّ الفكرة القِطريّة التي تقول إنّ إسرائيل ستتركنا وشأننا إذا ما تركناها ترتكب ما تريد من المجازر بحق شعب فلسطين هي فكرة خاطئة ومجرمة، طبعاً بحكم تعارضها مع التاريخ والوقائع (هذه الفكرة هي في صلب عقيدة 14 آذار في لبنان، لكن ارتباط هذا الفريق بالمشروع الإسرائيلي انكشف في ويكيليكس). إن إسرائيل تهدّد بوجودها كل العالم العربي، وهي شريكة في نظام الطغيان الإقليمي الذي رعته أميركا بشدّة بعد كامب ديفيد. لكن الأجواء السياسيّة في مصر بعد الانتفاضات تعرّضت للتأثير من الثقافة السياسيّة لعصر السادات مبارك. وسيطر الخطاب الليبرالي على الموضوع، كما أن الخطاب الأخواني جبان كعادته، فيما خفت الصوت القومي العربي لأن الجميع دخل في مزايدة في حب مصر (العظيمة).
وقد ساهمت الشوفينيّة في مصر (قبل تونس، لأن مصر مثّلت مركز الثقل) في إتاحة المجال أمام التدخّل الخارجي. ابتعدت الانتفاضات العربيّة بعضها عن بعض، وغرق الشباب في الوهم القِطري الذي على أساسه تكون الوطنيّة في النأي عن مشاعر وهموم الشعب العربي في البلدان العربيّة الأخرى. لو أنّ شباب الانتفاضة المصريّة بادروا إلى تأليف لجنة عربيّة لإرشاد الانتفاضات العربيّة ومساندتها وتسليحها متى وجب، لكانوا قد فوّتوا الفرصة على التدخّلات الخارجيّة في شؤون العالم العربي. من المهين للشعب العربي أن تقوم الجامعة العربيّة المُهترئة وأداة أنظمة النفط الخليجيّة بدور المُساند المزعوم للانتفاضات، المنُتقاة بعناية طبعاً. لو أنّ حركة عربيّة شعبيّة قد تشكّلت بمجرّد اندلاع الانتفاضات، لكان هناك إمكان لإقامة شبكة من العلاقات الشعبيّة (المُنظّمة) في طول العالم العربي وعرضه لضرب الثورة المضادة في الساحات المختلفة.
من الغريب، مثلاً، أن أحداً في مصر بعد رحيل مبارك لا يطالب بالإلغاء الفوري لاتفاقيّة كامب ديفيد. من الغريب أن أحداً لا يطالب بقطع الغاز بالكامل عن دولة العدوّ، مثلاً. ومن اللافت أن الكل يلتزم الخطاب نفسه والعبارات نفسها: إن الاتفاقيّة قد تحتاج إلى تعديل، ما يتوافق مع المصلحة القوميّة المصريّة (كانت كلمة قوميّة في الزمن الناصري لا يمكن أن ترد في إشارة إلى مصر كانت إشارة إلى «الأمة العربيّة»). والكلام على تعديل الاتفاقيّة يروّج عن قصد للاتفاقيّة؛ لأنه يدحض حقيقة تناقض الاتفاقيّة مع الحق والسيادة المصريّة بالمفهوم القطري حتى. تأخذ مصر إذناً من إسرائيل لتحريك قوّات شرطة في سيناء، بغرض الدفاع عن المصلحة القوميّة... الإسرائيليّة. وعندما بدر عن مسؤول مصري رفيع تصريح ينفي فيه قدسيّة كامب ديفيد، قامت قيامة إسرائيل وعادت مصر ونفت أن تكون قد عبّرت عن عدم احترام نحو إسرائيل ومصالحها. أميركا لا تفرض على مصر احترام اتفاقيّة كامب ديفيد: هي تفرض تقديسها. حتى القوى الناصريّة انضوت في إطار الخطاب الخجول عن اتفاقيّة كامب ديفيد. وما يزيد من غرابة الموقف العام للانتفاضة المصريّة، أو القوى النافذة فيها، أن سقوط مبارك والندب والعويل الإسرائيلي عليه أظهرت بما لا يقبل الشكّ أن استمرار الطغاة العرب كان بتأييد ودور إسرائيلي أكيد. لم يعد الأمر مجرّد شعار يُرفع في أدبيّات اليسار المتطّرّف، أي أن المصلحة المصريّة تتطلّب رفضاً قاطعاً لوجود إسرائيل بحد ذاته. ليس الأمر متعلّقاً ببنود في الاتفاقيّة بحدّ ذاتها.
لكن ليس الكلام عن الشوفينيّة السائدة منحصراً في الانتفاضة المصريّة. فقيادة المعارضة السوريّة المتمثّلة بالمجلس الوطني السوري هي أيضاً مثلها مثل النظام غارقة في بحر قوميّة سوريّة شوفينيّة تفصل بينها وبين باقي العرب. لعلّ المزاعم الكاذبة عن وجود جنود إيرانيّين، وعن قدرة الشعب السوري على اكتشافهم من هيئاتهم مثال، كما كان مقاتلو الكتائب اللبنانيّة يزعمون أنهم يستطيعون معرفة الفلسطيني من اللبناني بحكم التفوّق الجيني البادي للعيان للأخير. طبعاً، إن النزعة الوطنيّة القطريّة الشوفينيّة، إن في سوريا أو في مصر، لا تأتي من عدم. هي تنبع من جهد الأنظمة المتهاوية الساعية واللاهثة وراء الشرعيّة، بأي شكل من الأشكال. هي تمزج بين القبليّة (كما القذّافي الذي بدأ حكمه في صياغة ترّهات عن «نظريّة عالميّة ثالثة» وانتهى منضوياً في فخذ القبيلة) وبين الطائفيّة وبين القطريّة، في سعيها نحو أي نوع من أنواع التأييد. المجلس العسكري، الذي يصون بالنيابة عن أميركا وإسرائيل، نظام حسني مبارك من دون مبارك، يهدي الجمهور المصري أطول وأكبر علم في مناسبة هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل في عام 1973. إسرائيل تقتل الجنود المصريّين، وأبناء الشعب الفلسطيني وبناته الذين ليس لهم شأن في حساب دعاة الشوفينيّة المصريّة، والمجلس العسكري يردّ بلقاءات سريّة مع مسؤولين إسرائيليّين وبإنتاج أكبر علم. وقد عبّر واحد من أعضاء المجلس العسكري بصفاقة عن النزعة الشوفينيّة القطريّة عندما ندّد بآراء تميم البرغوثي فقط لأنه انتقد المجلس الحاكم وناصر شعب فلسطين. هذا النمط من الخطاب المُتعصّب والعنصري ألفناه في لبنان في خطاب الفينيقيّة لحزب الكتائب الذي ورثته حركة آل الحريري. أما النظام السوري، فقد بات يمزج بين مصلحة سيادة العائلة الحاكمة ومصلحة «الشام» أو «سوريا الحبيبة».
إنّ الثورة المُضادة تفعل فعلها. ستزيد القوى الرجعيّة الحاكمة (وكل القوى الحاكمة في الوطن العربي قوى رجعيّة، على اختلاف الشعارات المُنمّقة) من سعير خطابها القطري. إنّ تبلور قوة شعبيّة عربيّة من شأنه أن يزعزع من أوتاد النظام الإقليمي الطاغي الذي ترعاه أميركا. مثّلت الحركات العربيّة الشعبيّة التي تخطّت الحدود وعبرت القارات خطراً أكيداً على مصالح الاستعمار والإمبرياليّة، فعمدت أميركا وحلفاؤها إلى ضربها. نحن نسينا أن أمراء من آل سعود هجروا عائلتهم الحاكمة في الستينيات كي ينضمّوا إلى حركة قوميّة صاعدة في القاهرة (حاول الأمير طلال بن عبد العزيز في «شهادته على العصر» على «الجزيرة» أن ينكر تاريخه كلّه). إن حدّة المواجهة التي تشنّها أميركا بالاشتراك مع مجلس التعاون الخليجي إما للحفاظ على أنظمة مُستبدّة أو لاستبدال أنظمة مُستبدّة بأخرى لا تقلّ عنها استبداداً وتزيد عنها انصياعاً للمحور الراعي) تفرض تأليف جبهة عربيّة شعبيّة عريضة لمؤازرة الانتفاضات التي تواجه مخاطر جمّة وللارتقاء بالانتفاضات إلى مرتبة الثورات. حتى الحركات الإسلاميّة التي نشأت على نبذ فكرة القوميّة والوطنيّة باتت أسيرة الشعارات والهموم القطريّة. رفضت حركة الإخوان المسلمين المشاركة في التظاهرات التي توجّهت نحو السفارة الإسرائيليّة تنديداً بمجازر إسرائيل، كذلك إن حركة الإخوان المسلمين في سوريا تغازل الكيان الصهيوني على شاشته، وهي اليوم لا همّ فلسطينيّاً لها، ولا هم جولانيّاً لها.
ستصل الانتفاضات العربيّة إلى طريق مسدود إذا لم تتطوّر الانتفاضات وتتفعّل: إن القضاء على النظام الطاغي لا يكتمل من دون القضاء على الفكر الذي كان في أساس طغيانه.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)