انسدّ الأفق الغربي أمام الروس مع سقوط الكتلة السوفياتية في خريف 1989، ما أنهى مسار نحو ثلاثة قرون، بدأت مع محاولات تغريب روسيا، مع بطرس الأكبر (1725) وصولاً إلى البولشفية التي كانت انتصاراً أخيراً للتغريب على النزعات السلافية التي كان أحد تعبيراتها الفكرية ــ الأدبية الكبرى هو فيودور دوستويفسكي. كان امتداد الناتو ومنطقة اليورو، إلى شاطئي البلطيق والبحر الأسود أحد تعابير ذاك الانسداد، مضافاً إليهما السيطرة الغربية على منطقة البلقان، من خلال احتواء صربيا عبر حرب كوسوفو (1999) وما تلاها.كان ذلك تعبيراً عن فقدان الروس لوضعية القوة الكبرى العالمية، إذ لم تصبح روسيا قوة كبرى إلا من خلال امتدادها الغربي، وهو ما ظهر من خلال اشتراكها في الحروب ضد نابليون (1805 ــ 1815) أو في قمعها لثورات 1848ــ 1849في أوروبا الشرقية والوسطى، ثم اشتراكها في التحالف الثلاثي مع باريس ولندن في الحرب العالمية الأولى، فيما أصبحت قوة عالمية عظمى في 1945 بعد الانتصار على النازية. وخلال حربي1991 و2003مع العراق، بان فقدان القوة العالمية لموسكو، فيما ظهر عبر حرب كوسوفو أنّها لم تعد دولة كبرى تستطيع قول كلمة في البلقان الذي كان يعدّه القياصرة «حديقتهم الأمامية». في أعوام2000ــ 2004، كانت هناك تحوّلات في تركمانستان وأذربيجان وجورجيا وأوكرانيا لصالح الغرب، بعيداً عن موسكو، عبر مواضيع الغاز والنفط (واتجاه أنابيبهما: عبر روسيا أم تركيا؟) في عشق آباد وباكو، ثم من خلال وصول قوى موالية للغرب إلى حكم تبليسي وكييف.
في 26 نيسان 1996، بدأ الرد الروسي من خلال الالتفات آسيوياً عبر تشكيل «منظمة شنغهاي للتعاون» (SCO) مع الصين وكازاكستان وطاجيكستان وقرغيزيا (أوزبكستان انضمت في2001)، ولاحقاً (في 2005) مع انضمام أعضاء مراقبين مثل منغوليا والهند وباكستان وايران. في قمة حزيران 2002، في مدينة سان بطرسبورغ، جرى التوقيع على ميثاق «منظمة شانغهاي»، الذي أعطى هيكلية مؤسساتية ورسم أهداف ومبادئ للمنظمة. لا يمكن عزل ذلك عن امتداد الولايات المتحدة إلى قلب آسيا عبر غزو أفغانستان، قبل ثمانية أشهر من تلك القمة.
هنا، يمكن عدّ المنظمة شانغهاي رداً على بروكسيل، ليس فقط كمركز للجماعة الأوروبية، بل أيضاً للناتو الذي تقرر منذ قمة نيسان1990 اعتباره، وبناء على اقتراح رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، بمهات عالمية أبعد من أوروبية، بعدما كان منذ تأسيسه في نيسان 1949 يهدف إلى مجابهة الكتلة السوفياتية من خلال تحالف عابر لضفتي الأطلسي. وربما كان من الدلالات الكبرى أن تتشكل قوة «إيساف» إثر غزو 2001 لأفغانستان من قوات قوامها من الدول الأعضاء في الناتو.
مع تراجع المدّ الأميركي في الشرق الأوسط، بدءاً من النصف الثاني لـ2006، بدأت حركة جديدة هجومية عند موسكو تجاه حدائقها السوفياتية السابقة: في جورجيا من خلال حرب آب 2008، وأوكرانيا بين شباط 2009 وشباط 2010 من خلال فوز القوى الموالية لموسكو في انتخابات البرلمان والرئاسة، وفي قرغيزيا في نيسان2010. ترجم ذلك في ابتعادات نسبية في تركمانستان وأذربيجان عن الغرب (وأنقرة) لصالح موسكو خلال مجرى عامي2010 و2011.
كان هناك ارتباك روسي واضح أثناء العملية الليبية التي بدأها الناتو في 19آذار 2011، بناءً على القرار 1973. وهي كانت العملية العالمية الثانية لحلف الأطلسي بعد أفغانستان. تم تجاوز ذلك الارتباك في موسكو من خلال الأداء الروسي في الموضوع السوري خلال صيف وخريف 2011، وصولاً إلى الذروة مع الفيتو الروسي ــ الصيني المزدوج الذي كان بمثابة وضع صريح لمنظمة شنغهاي في مواجهة بروكسيل، إذ كان هناك إدراك روسي واضح (وأيضاً صيني) بأنّ الغرب الأميركي/الأوروبي قد استطاع امتطاء وتجيير «الربيع العربي» لصالحه عبر تحالفات أميركية مستجدة مع الاسلاميين، وأنّ السيناريو الليبي هو انذار وإرهاص بإمكانية مد المنظومة السياسية ــ الأمنية للناتو من الرباط وحتى كابول، تماماً كما كانت الإدارات الأميركية بين 1951 و1958 تفكر في جعل منظومة قيادة الشرق الأوسط (MEC) ومنظمة دفاع الشرق الأوسط (MEDO) أثناء محادثات وزير الخارجية الأميركية جون فوستر دالاس في القاهرة أجنحة شرق أوسطية للناتو.
في ذلك التفكير الروسي ــ الصيني، هناك استعادة للانسحاب السوفياتي من أفغانستان، وكيف أنّه سبق بأشهر تفكك المنظومة السوفياتية وانهيارها في أوروبا الشرقية والوسطى، ومن ثم تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه. هناك خشية عند الروس والصينيين من أن يكون تحوّل «الشرق الأوسط الكبير» إلى امتداد سياسي ــ أمني للناتو لا يعني فقط حدائقهما الخلفية (موسكو: الجمهوريات السوفياتية السابقة بمعظمها، وبالنسبة إلى الصين: منغوليا وميانمار)، بل أيضاً اللعب الغربي عبر المكونات الاسلامية لبدء تفكيك الاتحاد الروسي والصين.
من هنا يأتي الضغط الروسي ــ الصيني الكبير الراهن من أجل «تسوية سورية» لوقف الاندفاع الأميركي في الشرق الأوسط. أيضاً، يأتي الضغط الايراني، وبتشجيع من موسكو وبكين، على نوري المالكي لكي يكون الخروج العسكري للأميركيين من العراق في اليوم الأخير من العام الجاري من دون قواعد عسكرية أميركية أو معاهدات مرفقة. كذلك،في هذا الإطار، يدخل التقارب الروسي مع باكستان، المنزعجة والمستاءة من الاحتكاكات الأميركية معها بخصوص أفغانستان. ذلك التقارب هو مفتاح أساسي عند موسكو لتنفيذ أنبوب الغاز من تركمانستان عبر أفغانستان وباكستان، إلى الساحل الهندي (tapi). وهو رمزياً يشكل الحصيلة المقلوبة لتفكير شركة «يونوكال» الأميركية، منذ 1996، في جعل ذلك الخط تحت الرعاية الأميركية. من دون ذلك لا يمكن تفسير المساعي الروسية لتطبيع العلاقات بين نيودلهي واسلام آباد، وبين الهند والصين، ثم تشجيع موسكو للبروتوكول الهندي ــ الأفغاني في أيلول الماضي.
أثناء زيارة هنري كيسنجر السرية لبكين في تموز 1971، كان التفكير الأميركي منصباً على استخدام الصين أداة لوضع موسكو في الزاوية الضيقة في موضوعي فييتنام ومعاهدة «سالت». هل هناك الآن تفكير روسي باستخدام بكين، أو العكس صينياً، من خلال منظمة شانغهاي، أم تفكير في مصلحة روسية ــ صينية مشتركة، من أجل مجابهة الغرب الأميركي ــ الأوروبي؟
* كاتب سوري