في كتابه الشهير «الاستشراق»، يتحدث إدوار سعيد عن أثر الثقافة في تكوين نظرة الغرب الى الشرق، مشيراً الى أنّ للتصورات الثقافية دورها في تحديد طبيعة العلاقات الدولية، وفي صياغة السياسات الخارجية. بالفعل، لا شك في أنّ لكل سياسة خارجية ثقافة معينة ترتكز اليها، ذلك أنّ مفهوم السياسة الخارجية مرتبط بنظرة المجتمع الى من هو «آخر» و«غريب»، ومن تجب بالتالي محاربته. تستخدم الحكومات فكرة العدو الخارجي المشترك وسيلة للسيطرة على المجتمع، وللحفاظ على النظام السائد، ولتحويل انتباه الرأي العام عن القضايا والنزاعات الداخلية، وتوجيهه نحو عدو خارجي.تعدّ السينما من الوسائل الأكثر فعالية في صنع صورة العدو ونشرها في المجتمع. ففي عالمنا الذي يرتكز على الصورة، يؤدي المرئي دوراً مهماً في تحديد هويتنا وذاتيتنا الخاصة، محدداً بذلك نظرتنا الى الآخر المختلف وأسلوب تعاملنا معه. تخترق الصور المتلفزة والأفلام مخيلتنا، راسمة لنا في اللاوعي الخط الفاصل ما بين الـ«نحن» والـ«هم»، ما بين الخير والشر، وما بين القريب الذي يشبهنا فنحبه، والبعيد الغريب عنا فنحاربه.
لا بدّ لمن يريد أن يفهم سياسة أميركا الخارجية من أن يتمعن في أفلام هوليوود التي وإن كانت تهدف في ظاهرها الى تسلية وترفيه المُشاهد، فهي في الحقيقة مركز لصناعة الأفكار السياسية ووسيلة فعالة لتسويق وترويج وتشريع بعض السياسات الخارجية. إنّ من يتعمق في النظر الى الأفلام الأميركية يتجلى له الرابط الوثيق ـــــ الثابت والتاريخي ـــــ ما بين صورة العرب التي تسوِّقها هوليوود، وتقلبات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط.

ما قبل 1945: الشرق كعالم من الخيال والغرابة

في المرحلة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى الى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن للولايات المتحدة مصالح اقتصادية وسياسية مباشرة في منطقة الشرق الأوسط، التي كان يُنظر اليها على أنّها منطقة بعيدة تتسم بالإكزوتيكية. انعكست تلك النظرة الى الشرق في أفلام السينما، فكل إنتاجات هوليوود في تلك الحقبة التاريخية أظهرت الشرق على أنّه عالم من الخيال والفانتازيا، حيث تُحقق الأحلام والرغبات بواسطة «الفانوس السحري»، وحيث يعيش الإنسان «ألف ليلة وليلة» برفقة حريم وراقصات يفوق سحرهن كل تصوّر. إنّ أفلام «ليلة عربية» (An Arabian Night) في 1920، و«رحلة سندباد السابعة» (The Seventh Voyage of Sinbad) في 1934، و«علاء الدين والفانوس السحري» (Aladdin and his wonderful Lamp) في 1939، و«علي بابا والأربعون لصاً» (Ali Baba and the Forty Thieves) في 1944، و«ألف ليلة وليلة» (A Thousand and One Night) في 1945، كلّها قدّمت صورة رومنسية للشرق، وشددت على غرابته وسحره وجماله.
في تلك الحقبة، قدم الاستشراق إطاراً فكرياً ومفاهيمياً لتصوّر الشرق ومثّل عدسة خاصة يجري من خلالها النظر الى العرب. في ذلك السياق، يشير إدوار سعيد الى أنّ الاستشراق «مارس سيطرة قوية على الفكر الغربي في ذلك الوقت، حيث إنّ كان من المستحيل للإنسان الغربي الكتابة أو التفكير في الشرق دون الأخذ بعين الاعتبار القيود الفكرية والعملية التي فرضها الاستشراق على الذهن الغربي». بالفعل، إنّ كل أفلام هوليوود في تلك المرحلة جسدت مفاهيم الاستشراق، إذ عملت على إظهار وجوه الاختلاف بين الإنسان الشرقي والإنسان الغربي، جاعلة بذلك الشرق رمزاً لـ«الآخر المطلق». هكذا، رسّخت الأفلام الهوليوودية التمييز الوجودي والمعرفي ما بين الشرق والغرب الذي يرسيه الاستشراق.

ما بعد الحرب العالمية الثانية

مع قيام دولة إسرائيل وبداية الحرب الباردة وظهور مصلحة مادية لأميركا في السيطرة على آبار النفط، أصبحت لمنطقة الشرق الأوسط أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. كتب الرئيس آيزنهاور: «لا توجد منطقة في العالم تلقى حيزاً من اهتمامي بقدر ما تلقاه منطقة الشرق الأوسط». عكست هوليوود ذلك الالتزام الجديد للولايات المتحدة في المنطقة عبر إنتاج أفلام ملحمية تُظهر الأهمية السياسية والدينية الجديدة للشرق الأوسط. إنّ أفلام «الوصايا العشر» (The Ten Commandments) في 1956، و«سليمان وملكة سبأ» (Solomon and Sheba) في 1959، و«بن هور» (Ben-Hur) في 1959 كذلك، و«هجرة اليهود» (Exodus) في 1960، تبنَّت وجهة النظر الصهيونية لتأسيس إسرائيل، وشرَّعت الدعم الأميركي لتلك الدولة الجديدة. على سبيل المثال، صوَّر فيلم «Exodus» معاناة اليهود تحت الانتداب البريطاني وفي ظل ألمانيا النازية، مبرراً إنشاء دولة إسرائيل.

السبعينيات: العرب كإرهابيين في سياق أزمة النفط

في أعقاب حرب 1973 وما نتج عنها من حظر للنفط العربي، زاد التوتر بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط. أظهرت تلك الفترة تعاوناً ـــــ لا بل تواطؤاً ـــــ بين هوليوود والإدارة الأميركية من أجل نشر فكرة لدى الرأي العام مفادها أنّ العالم العربي يمثل خطراً داهماً على السلم الدولي. بالفعل، روّجت أفلام هوليوود للخطاب السياسي المسيطر، مظهرةً أنّ العنف والإرهاب حكر على منطقة الشرق الأوسط، وجاعلةً من العرب مصدر تهديد وجودي للغرب. من تلك الأفلام نذكر: ملف القدس» (The Jerusalem File) في 1973، «الأحد الأسود» (Black Sunday) في 1976، و«عملية الصاعقة» (Operation Thunderbolt) في 1977. في «Black Sunday» مثلاً، تخطِّط مجموعة من المتطرفين الإسلاميين لتفجير ملعب في ميامي، حيث يشاهد الرئيس الأميركي لعبة كرة القدم. في بداية الفيلم، يقول عضو في البنتاغون لزميل له: «أنا لا أثق بالعرب، إنّهم خطرون جداً، يريدون قتلنا مثلما قتل النازيون اليهود»! بالرغم من أنّ تلك العبارة مقتبسة من فيلم، وتندرج في سياق سيناريو خيالي، إلا أنّها رسالة مبطَّنة تخاطب اللاوعي لدى المشاهد الأميركي عبر إقران الشر والإرهاب بصورة الإنسان العربي، مشرِّعةً بذلك وجوب محاربة العرب والوقوف مع الحليف الإسرائيلي. في الوقت نفسه، أظهرت تلك الأفلام الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، بصورتيّ الضحية وقوة الخير. في «سجين في الشرق الأوسط» (Prisoner in the Middle East) في 1974، ترسل الولايات المتحدة مبعوثاً الى الشرق الأوسط بمهمة نزع السلاح من المتطرفين وإنقاذ العالم من الإرهاب العربي. يبرز ذلك الفيلم كيف أنّ المبعوث المدعو طوني ستيفنس يخاطر بحياته لإنقاذ البشرية. أما في «البرعم» (Rosebud) في 1975، فإنّ أميركا تظهر كفاعل خير، إذ تتدخل في الشرق الأوسط من أجل حلّ النزاعات بين العرب أنفسهم، وتحرير مخطوفين عرب احتجزهم إرهابيون من منظمة التحرير الفلسطينية. تعطي تلك الأفلام مثالاً واضحاً عن الخطاب الاستشراقي، إذ تظهر الشرق كمجتمع متناحر يحتاج الى تدخلات الغرب لإنقاذه من نفسه ومن نزاعاته الداخلية، كما أنّها تطمئن الرأي العام الأميركي الى الدور الذي تؤديه الإدارة، وذلك ما يسميه نوام تشومسكي «صناعة القبول»: فأميركا قوة الخير ولا تعمل إلا لأجل خير وسلام العالم.

الثمانينيات: تمجيد مجاهدي أفغانستان

يبدو التواطؤ بين السينما الهوليوودية والإدارة الأميركية الأكثر وضوحاً في الثمانينيات، فقد شهدت تلك المرحلة تطوّراً غريباً: بعدما صوّرت هوليوود العرب كأعداء للغرب وكأشرار وإرهابيين، ها هي تظهرهم بصورة الأبطال والمقاومين. لا بدّ من ربط تلك المفارقة بسياسة أميركا الخارجية في المنطقة: في وقت كانت فيه إدارة الرئيس ريغان تسلح الطالبان في أفغانستان بصواريخ ستينغر، وجدت هوليوود من الضروري أن تمجد العرب الأفغان، وأن تقدم صورة جيدة عما سمته «المقاومة المسلمة ضد السوفيات». بذلك تكون هوليوود قد استبدلت صورة العدو العربي بصورة العدو الشيوعي. في ذلك السياق، صوّر فيلم «The Living Daylights» (1987) من سلسلة أفلام جيمس بوند، مغامرات عميل في جهاز الاستخبارات البريطانية إم.أي5 في أفغانستان. يلتقي تيموثي دالتون قائد المجاهدين الذي يبيع الأفيون للروس، ثم يشتري بواسطة ذلك المال الأسلحة لمحاربة السوفيات. يُظهر ذلك الفيلم المجاهدين من زاوية مضيئة جداً ويصوّرهم على أنّهم أبطال وحلفاء للولايات المتحدة. كذلك في فيلم «Rambo III» (1988)، يرسَل سيلفستر ستالون في مهمة الى أفغانستان من أجل إطلاق سراح الكولونيل تروتمان المعتقل عند القوات السوفياتية. هناك، يشاهد تروتمان المعارك التي يشنها الطالبان ضد الجيش الأحمر ويكتشف عظمة المجاهدين. ينتهي الفيلم بتلك الجملة المعبرة: «هذا الفيلم مُهدىً إلى شعب أفغانستان الشجاع».

ما بعد الحرب الباردة: صناعة العدو الجديد

مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الإمبراطورية السوفياتية، أصبحت أميركا بحاجة الى عدو جديد والى تهديد خارجي يحل محل الخطر السوفياتي. تلبيةً لتلك الحاجة، استبدلت هوليوود الصورة التقليدية للعدو الشيوعي بصورة العدو المسلم، زارعةً في مخيلة وقلوب الكثير من الأميركيين الذعر من الإرهاب الأصولي الإسلامي. إنّ أفلام «أكاذيب حقيقية» (True Lies) (1994)، «قرار تنفيذي» (Executive Decision) (1996)، «السهم المكسور» (Broken Arrow) (1996)، «الحصار» (The Siege) (1998)، ربطت الإسلام بالإرهاب ونشرت خطاباً أمنياً عبر التحذير من الخطر الإسلامي والحديث عن صراع الحضارات. من إخراج جيمس كاميرون وبطولة أرنولدز شوارزنغر، يعرض فيلم «True Lies» خطة إرهابيين مسلمين لتفجير أميركا وقتل الأبرياء. يخطط الإرهابيون للحصول على أسلحة نووية من كازاخستان وابتزاز الإدارة الأميركية لإجبارها على الانسحاب من الخليج العربي، وإلا فسوف يفجّرون «مدينة أميركية في كل أسبوع». تجدر الإشارة الى أنّ ذلك الفيلم خدم سياسة أميركا الخارجية في الشرق الأوسط في التسعينيات. فقد أُطلق في 1994، في وقت كانت أميركا فيه تواجه وضعاً حرجاً في المنطقة: كان الرأي العام الغربي منقسماً حول حرب الخليج، إذ إنّ العقوبات الأميركية ضد العراق كانت قد تسببت بوفاة آلاف العراقيين وإفقار مئات الآلاف منهم. فجاء ذلك الفيلم ليبدد هواجس الرأي العام على نحو غير مباشر، من خلال إظهار أنّ الولايات المتحدة موجودة في الخليج في مهمة شرعية وإنسانية، فهي تعمل لإحباط مؤامرات الأشرار ولحماية العالم من الإرهاب. فاطمئنوا يا أميركيين! تجدر الإشارة أيضاً الى أنّ المخرج جيمس كاميرون أشار الى دعم الحكومة الأميركية للفيلم عندما صرّح في مقابلة تلفزيونية: «إنّنا نشكر وزارة الدفاع والمارينز لتعاونهم ومساهمتهم في إنجاح هذا الفيلم».

الخطاب الرئاسي بعد 11 أيلول

إذا كان التفاعل بين صناعة السينما وصناعة السياسة الخارجية الأميركية واضحاً على مدى عقود من الزمن، فإنّ التعاون بين هوليوود وإدارة بوش بعد أحداث 11 أيلول مثير للريبة ويفوق كل تصوّر. قبل 11 أيلول، أصدرت هوليوود فيلماً بعنوان «الحصار» «The Siege» (1998)، يتنبأ بما سيحصل في 11 أيلول 2001: فهو يدور حول مؤامرة سرية لمجموعة إرهابية متطرفة ـــــ قريبة من القاعدة ـــــ تسعى إلى شن هجوم على مانهاتن عبر تفجير طائرة في وسط مدينة نيويورك. هل ذلك السيناريو مصادفة؟
أما المفاجأة الكبرى، فهي تكمن في أول خطاب للرئيس الأميركي توجه به الى شعبه من قاعدة للقوات الجوية في لويزيانا، وذلك بعد بضع ساعات من الهجوم على برجيّ مركز التجارة العالمية في مانهاتن، إذ قال: «لا تخطئوا. إنّ حكومة الولايات المتحدة سوف تلاحق وتعاقب المسؤولين عن هذه الأعمال الجبانة».
قد يبدو ذلك التصريح عادياً وبريئاً، لو لم يكن النسخة الأصلية لعبارة من سيناريو فيلم «The Siege» قالها بروس ويليس في دور الجنرال وليام ديفيرو: «لا تخطئوا. إنّ الحكومة سوف تقوم بملاحقة وقتل المسؤولين عن هذه الأعمال الجبانة». هل تلك أيضاً مصادفة؟
ولمن لا يصدق أنّ هوليوود تصنع السياسة الخارجية الأميركية فإليكم هذا الدليل: في 12 أيلول 2001، أي غداة هجمات 11 أيلول، أرسل الرئيس بوش مبعوثه كارل روف الى هوليوود في مهمة سرية. كان على روف طلب المساعدة من مخرجي هوليوود لاقتراح وتصميم سيناريوهات الحرب ضد الإرهاب في العراق وأفغانستان وسواهما. منذ ذلك الحين، يعقد كبار المسؤولين في البنتاغون اجتماعات دائمة مع مخرجي هوليوود من أجل تبادل الأفكار والخروج بسيناريوهات بشأن كيفية مكافحة الإرهاب. وليس من المستبعد أن تمثل تلك اللقاءات مناسبة للإدارة الأميركية لإعطاء توجهات محددة للمخرجين بشأن كيفية صناعة صورة العدو العربي، والتأثير في الرأي العام، وإعطاء مشروعية للسياسة الأميركية.
اليوم، بعدما ادعت أميركا أنّها تخلصت من عدوها الأول بن لادن، من سيؤدي دور الشرير في أفلام هوليوود ومخيلة الأميركيين؟ وهل أفلام هوليوود الأخيرة التي تركز على تصوير المخلوقات الفضائية والحيوانات الغريبة، على غرار فيلمي «Avatar» و«Kung fu Panda» تُعدنا لتقبل سياسة أميركية جديدة تتمثل في غزو الفضاء وخوض حرب النجوم؟
* باحثة لبنانية