في بعض الروايات السينمائية التي تصوّر نظاماً اجتماعياً ظالماً، غالباً ما نقابل أصنافاً من الشخصيات التي تعمل لأجل إبقاء النظام الظالم، نوع من الخدم او من الأزلام، شبيه بمن يسمّيهم مالكولم اكس في خطاب تحرريّ شهير له بلقب «زنوج المنزل». «الهاوس نيغرو» بالانكليزية، الذين يضع المناضل الاسود الاميركي نموذجهم في مقابل نموذج «الفيلد نيغرو»، اي «زنجي الحقل»، حقل زراعة القطن، الذي لشدة قساوة ظروف استعباده، يعرف ان عليه ان يتمرّد على «سيّده»، فيما ان «زنجي المنزل» يكون مطيعاً لسيّده لأنه ينعم بواجب الاعمال المنزلية.
هذه الصورة نشاهدها في فيلم «دجانغو» لكوينتن تارانتينو في دور الخادم الذي يلعبه سامويل ال. جاكسون الذي يقوم بأعمال قد تفوق التصور في تناقضها مع ما قد يعتبره المشاهد «مصلحة» الخادم ذي البشرة السوداء، إذ أنه يتآمر على السود لخدمة البيض المستعبدين. والخادم المنزلي، العميل للبيض، يدعيّ ان رجله تعرج امام مشغّليه. ونقابل دور الخادم المطيع هذا، القابل لتنفيذ شتّى أنواع المهمات «القذرة»، في فيلم «فرانكنشتاين الشاب» مثلاً، لميل بروكس، في دور ايغور، وهو هنا احدب الظهر. ونلاحظ ان شخصية هذا الخادم غالباً ما تُصوّرها الافلام بمظهر القبيح او المغفّل، وهو ايضاً الطبع الذي يعطيه الاخ مالكولم «لزنجي المنزل» لما يقلّد لكنته ومنطقه بالحديث مثيراً الضحك عن حشود مستمعيه. فيبدو بالتالي وكأنه من الصعب على الجمهور تقبّل أو استيعاب شخصيات هؤلاء الخدم، العملاء للنظام القائم، على انهم من المشهد اليومي العادي للحياة، لكثرة ما يتحدّون في افعالهم القيم المُشتركة والبديهيات، فيقوم بالتالي الفن والسينما بصبغهم بصفة «الخبل»، فيما يُصوَّر اسيادهم، الاشرار الجديّين، بمظهرٍ اكثر دهاء او صفاء.
منذ سنوات، فيما كنت استفسر عن حالة اغتصاب تعرّض لها طفل في إحدى الكنائس، قال لي شخص مطّلع ان عائلة الطفل المُغتصَب تعرضّت للتهديد بشكلٍ مثير للاهتمام. فقد جاء العائلة زائراً، شخص مرسل من قبل الكاهن المُغتصب. وكان الرسول رجلاً يعمل خادماً ومدبّراً عند الكاهن ويعيش في جواره. وفيما كان الحديث دائراً بين الفريقين، وعائلة الضحية محرجة ومرتبكة في الكلام مع هذا المبعوث وفي كيفية ختم الحديث والتخلّص من ثقل وجوده وعدم التراجع عن مبدأ إثارتهم لما حصل مع طفلهم، فقد المبعوث أعصابه وصاح بهم في ما بدا انها لحظة تخلٍّ مُبتذلة ومُحضّرة مسبقاً، بما معناه «اسماع تقلّك، ولك اسماع! حتى لو دحش أبونا عود خشب بطيزه لابنك، الأبونا ما بيغتصب»!
حين يجري تسليط الضوء في السينما والفنون على علاقة الانسجام العاطفي المتطورة التي يكنّها «المخبول» لسيّده، يكتسب السيناريو أحياناً بعداً «إرشادياً» في اثارته لما يمكن لمشاعر النبل والوفاء عند الخادم، المثيرة للتعاطف أحياناً، ان تقوم به من اعمالٍ رهيبة في سبيل كسب رضى السيد او تحقيق مصلحته. في مثال المبعوث اعلاه، تُلاحَظ صفة الاعجاب المفرط بعلاقته مع «الأبونا»، التي تتبَعها في الجملة نفسها صورة جرمية رهيبة وشديدة القبح، ليستقر الكلام على استنتاج لغوي و«تقني» متعنّت وغليظ، لا يأبه بالمنطق وباحتساب الحقائق، هو ان «الابونا» ليس من صنف الاشياء التي تكون عرضة للاتّهام. وذلك الانسجام للخادم مع التفاصيل القبيحة لسيّده يذهب بمنحى تنكرّ تام عند الخادم للقيم المشتركة في المجتمع. وهو الجلي أيضاً في خطاب الاخ مالكولم، حيث يقول ان «زنجي المنزل» سيصرخ ويولول في حال احترق منزل سيّده قائلاً: «ان بيتنا يحترق»، بينما «زنجي الحقل» سينطلق هارباً الى حرّيته. في مثالنا الحي أعلاه، قد يتمسّك الخادم/ الزلم حتى النهاية بهمّ تحديد المصطلحات المطابقة لنظرته الى العالم، وهي نظرة قد تكون قائمة منذ القرون الوسطى الاوروبية وقد جهدت بعض المجموعات الرعوية في المحافظة على نظامها داخل اسوار دور العبادة الى يومنا هذا. وكأن الخادم الهاذي، بتمسكه بالمصطلحات، يريد تثبيت واقعه في العالم.
وهناك خاصية أخيرة لهذا الصنف من الناس تجدر الاشارة اليها، تنجلي عند حدوث ازمات اجتماعية تهدد النظام القائم، ان لم يكن في ركائزه المادية، فعلى الأقل في مرتكزاته الخطابية والمصطلحية. اذ يبرز هؤلاء الناس بنزعتهم الى فقدان اعصابهم بسرعة فيما أن الأعلى رتبة منهم يتمالك نفسه. في الافلام، عندما يجد الانذال نفسهم عرضة للنقد او في موقفٍ حرجٍ، يُفاجئنا الزلم المخبول بالصراخ عالياً «يا الله! سوف نموت جميعاً»، معرضاً نفسه وسيّده للخطر اكثر من ذي قبل. هو ما نشاهده في فيلم «كويك تشاينج» من بطولة بيل موري، حيث يلعب موري دور بهلوان يقوم بالسطو على بنك واحتجاز زبائنه كرهائن، فيقوم احد الرهائن بالصراخ «سوف نموت جميعاً» ما يجعل بقية الرهائن يتوتّرون ويصوّتون لكي يأخذه البهلوان لاطلاق سراحه قبل غيره كبادرة حسن نية، فيتضح فيما بعد ان الرهينة كان شريكاً مخادعاً للحرامي، ثم يتضّح في وقت يتبع، أن الشريك المخادع بطبعه الحقيقي يشبه الدور الهاذي الذي لعبه. في هذه المشاهد، او في المشاهد الاقل سخرية من افلام موري، حيث الادوار الاجتماعية واضحة المعالم، غالباً ما يقوم السيّد بصفع زلمه الهاذي على وجهه، قائلاً له: «اخرس يا احمق، لم ينته شيء بعد». هكذا نتعرف إلى الخادم المخبول وأمثاله.
تبعاً لهذه البورتريهات الفنية والواقعية، ينبغي على القارئ ألّا يستخف بقابلية نظام سياسي ما (اي نظام كان) في تجنيد صنف مشابه من الناس، من ذوي الطباع الخارجة عن الواقع المشترك، وتوظيفهم في المجال الرسمي تحديداً.

■ ■ ■


تأخذ ازمة النفايات الحالية في بعض الاحيان شكل ازمة اجتماعية تضع النظام القائم في موقع التحدي والنقد، ومعه الطبقات المسيطرة على مقدرات البلاد. وذلك لدرجة يبدو فيها ان الاحزاب المهيمنة تحتكم لنوع من الاتفاق السري على لزوم الهدوء في الخطابات الرسمية وعلى ان لا يحرج احدها الآخر، ما حدا مثلاً، بوزير الاصلاح الغذائي المُفترض إلى اطلاقه كيلاً من الشتائم المزيّنة بالقافية على «مسلٍّ» تلفزيوني يعمل على شاشة المستقبل، كان قد تطوّع بأن يثير بعض التفاصيل السياسية التي من المفترض ان لا تخرج عن الاعلام المكتوب.

بعض الزلّات عند طبقة النافذين قد تبرز صنفاً من الناس قلّما نسمع عنه في الاعلام


وقد تعاطت الاحزاب المهيمنة باحترام قواعد التعايش والهدوء هذه في العلاقة مع بعضها في معضلات عدة سابقة، مثل أزمة النفايات عام 2014، وحراك «هيئة التنسيق النقابية». ويمكن الكلام عن تراصٍّ في ما بين اعضائها في هذا الخصوص. وهكذا كانت وما زالت الاحزاب التي تبني صلب خطابها على النقد الاجتماعي، كالتيار الوطني الحر وحزب الله، تكتفي بإعطاء المجال للنقد الذي تمليه كل ازمة من الازمات عبر مواقعها الاعلامية بدل تحريك ممثليها الرسميين السياسيين كما تجري العادة بالنسبة للقضايا الاخرى التي تعنيها.
لكن يحصل احياناً ان تجد بعض مواقع السيطرة نفسها وحيدة ومعزولة عن رديفاتها أمام تطورات الأزمة. فحلقات النفوذ في المجتمع متعددة ومتنوّعة، ويرتبط كل منها بالحقل الاجتماعي الأوسع بحسب أطرٍ خاصة وموضعية. وصادف أن أحد هذه المواقع، المتمثلة بشخصية نافذة، جذبت الانظار اليها في الاسبوع الاول من الازمة، ولو لم يكن لها تقنياً وإجرائياً اي علاقة مباشرة بعملية التخلّص من النفايات ولم يكن التوقف عندها مُتوقّعاً.
شخصيتنا هذه فريدة، حساسة، وقد خَصّصت الانظمة السياسية المبنية على النفاق وزارات للشؤون الاجتماعية خصيصاً لهذا الصنف من الشخصيات، على ان تقوم بترؤسها. لم تؤذّ هذه الشخصية أحداً. كانت فقط تقوم بواجبها بالجلوس في المقعد الخلفي من سيارة رباعية الدفع وسوداء اللون والزجاج، عندما صادف التقاؤها بمجموعة مترجلة من الناشطين الذين تحركوا ضد الجمود السائد في موضوع النفايات، فقام هؤلاء، كما فعلوا سابقاً خلال اليوم، بالوقوف في درب السيارة السوداء وبرميها بأكياس النفايات، وقد عرفوا من خلال رقم تسجيلها أنها لوزير في الحكومة. انتابت شخصيتنا نوبة من الذعر.
هل كانت تعرف خلال اللحظة هذه أنها ستكون موضع اهتمام الصحافة لاحقاً؟ هل خافت من «الجرصة» في نظر زملائها ممن استبدل الاركيلة بالسيغار، او كان خوفها على حياتها من المقصلة؟ ما هي الافكار التي دارت في رأسها؟ شيء واحد اكيد، انها تعاطت مع وجود شاب مُحدّد من جمع الناشطين بجدية فائقة وبشكل شخصي.
كان الشاب قد اتّهم في ماضٍ غير بعيد إحدى دور الرعاية الطائفية الاسلامية بعدم اخذ الإجراءات اللازمة لحمايته من اغتصابات متكررة تعرّض لها على يد اطفالٍ يفوقونه عمراً داخل اسوار الدار، حين كان شخصياً من قاطنيه في صغره. جعل الشاب من قضيته مسألة رأي عام عبر الاعلام التلفزيوني، واضطرت دار الرعاية على اصدار بيان تعترف فيه بالأخطاء وتتعهد بالوقوف الى جانب الشاب. لكن وزيرنا لم يرضَ بهذا المجرى للأمور. قال انه لا يمكن ان يحدث اغتصاب في هذا الدار. كانت التهمة بالنسبة له وكأنها آتية من عالم التلفزيون، فإلى عالم التلفزيون أرادها ان تعود، فاتهم الشاب الضحية بأنه أراد الاستعراض والكذب. في العالم الواقعي، واقع وزيرنا هذا، لا تحصل هذه الامور في دور الرعاية المحترمة التي أوجدت وزارته لتمويلها وليس لتطبيق فلسفة اجتماعية ما باسم الدولة الجامعة على ما قد يظن بعض السذج. وقد صرّح لجريدة «الأخبار» في ما يمكن اعتباره بياناً واضحاً بالأولويات الوزارية: «لن أقبل أن أكون وسيلة للتشهير بدار الأيتام الإسلامية». هذه دار رسول الله. والوزارة على كلٍ لن تأتي للضحية بتعويض. خلال حادثة الهجوم على السيارة، يبدو أن فقدان شخصيتنا الحساسة لاستقرار هيبتها قد زادها درامية قيام الشاب الضحية بطرق زجاج نافذة السيارة وقوله: «الي حق عندك»، ما بدا للوزير وكأنه انقلاب على موازين القوى منافٍ للطبيعة. لم يدم الهجوم والمشادة الكلامية بين مرافق الوزير والناشطين سوى دقائق، ثم ما لبثت أن افلتت السيارة من الحصار وذهبت مسرعة الى غير مكان. لكن الوقت القصير هذا كان كفيلاً بجعل الوزير يفقد كل واقعيّته، وبجعلنا نتساءل في أي نوع من الواقع كان يظن نفسه مستقراً. كان الامر مثل خادم الابونا الذي خال ان استقرار كنيسته حيث يقوم نهج البيدوفيليا قد اهتزّ. احتاج الوزير بدوره إلى ان يعيد تلاوة الحدود والمراكز و«المصطلحات» كما يتلو المرء الشهادة في اللحظات العصيبة، ليتشرب من تلاوتها ويعيد الاستقرار الى ذهنه. فشتم المتظاهرين مشبهاً إياهم بالنفايات، بينما الطبقة السياسية تحبس انفاسها وتجهد لتجنب الإحراج شعبياً. لكن ايننا من تكتيكات الطبقة السياسية مجتمعةً، عندما يهتز عالم هذا الحساس، الوفي لدار الايتام الاسلامية و«للطائفة السنية». ثم طالب بالانتقام، وكأنه يطالب بإعادة قلب موازين القوى وتأكيدها. وقد تحدّث الاعلام عن اتصالات الى المدعي العام من قبل رئيس الوزراء، ووزير الداخلية، وقائد قوى الامن الداخلي. في النصف الساعة التي تلت الحادثة، كان جهاز الأمن المحسوب على فريق الوزير السياسي والطائفي يعتقل الشاب ليبقيه قيد التحقيق والمضايقة لمدة يومين. وقد علّق المحامي الموكل عن الشاب انه، خلال اكثر من عقدين من الممارسة المهنية، لم يحصل له ان مُنع من مقابلة موكّله لمدة بهذا الطول.
أما المدعي العام، فقد علّق بأن الشاب بات قيد التحقيق وهو موضوع دعوى جزائية.
وفي اليوم الثالث، أسقطت الدعوى.

■ ■ ■


روايات بعض الزلّات عند طبقة النافذين في لبنان قد تبرز صنفاً من الناس قلّما نسمع عنه في الاعلام في الايام العادية، مع انهم كثر في المواقع الادارية اللبنانية المتنوعة. هم جزء من سلك الجنود او الخدم، العاملين بخدمة النظام القائم في لبنان. ينتشرون على كامل مساحة الاراضي اللبنانية، وعادة ما يكونون مقرّبين بصيغة مباشرة من احدى المؤسسات الطائفية او من اكثر من واحدة. وأعني هنا المؤسسات التي تحمل اسم الطائفة تحديداً، مثل تلك التابعة للاوقاف، وليس المؤسسات التي تمارس العنصرية الطائفية بشكل عام والتي قد تكون من القطاع الخاص الليبرالي. تكمن ميزة هؤلاء الخدم في ان صعودهم و«تألقهم» الاجتماعي لا يحصل الا من خلال مؤسسات الطائفة. مثل نموذج تنظيم الكنيسة، هم «علمانيون» انما يعملون للدين، وقد يكون عددهم الاكبر في المؤسسات الطائفية الاسلامية حيث لا وجود لاكليروس وبالتالي لا حدود للرتبة التي يمكنهم الوصول اليها بالمبدأ. هم صنف من الشخصيات المخبولة، بالمعنى السينمائي المشار اليه اعلاه طبعاً، لكن قد تجدونهم يترأسون مستشفيات ومدارس وجامعات. اي شيء يحتاج الى إدارة مُحافظة وبغنى عن الكفاءات والجهد في التسويق الذاتي. فالمطلوب من هؤلاء الخدم أن يبقوا الامور ساكتة، وهم أيضاً بطبعهم دائماً ساكتون. لا نسمع عنهم. ليس لديهم ما يقولونه عن الدنيا والعالم، ولا يعنيهم ان ينطق العالم. قد يلجأون الى إخراس ضحية اغتصاب اذا اقتضى الأمر، ولا مانع عندهم إن وجدت مقبرة جماعية في الحديقة الخلفية للمكتب الذي خصصته «الطائفة» لهم. هم قصيرو النظر، ولا يفقهون بكيفية انتظام العالم والحياة خارج اطار شبكة العلاقات والهرميات «الحريصة على الطائفة وأبنائها» التي يتنفّسون داخلها، خارج منظومة التملّق والوشاية بوجود العاهات والعورات داخل اسوار المؤسسات. فإذا فاجأهم العالم الاجتماعي، او حتى الطبيعة، بمصيبة ما، ستجدونهم يصابون بالهلع ويزيدون البلاء سوءاً، الى ان يتدخل احد اسيادهم ويصفعهم على وجههم ويخرسهم. وهم بذلك دليل على ان النظام اللبناني ليس «طائفياً» بأساسه، وان سيطرة «مؤسسات الطوائف»، كما يهوى بعض الخطاب الصحافي الكسول تسميتها، هي احد اوجهه فقط، والا كان سقط منذ قرون.