لم يكن السناتور جوزف مكارثي، ولا وزير الدعاية السياسية الهتلرية جوزف غوبلز، يعلمان أنّه يمكن أن يأتي يوم يدمج فيه توجههما معاً في نهج واحد، وأنّ من سيقوم بهذا الفتح العظيم هم الكتّاب «الحكوميون» في الخليج، عبر توزيع التهم بالخيانة والعمالة يميناً وشمالاً، والمزايدة على الناس بالوطنية مع فائض من الأكاذيب التي يروجون لها في الإعلام. لكن ذلك الدمج التاريخي بين المكارثية والغوبلزية، يحصل بغباء منقطع النظير، وبنحو عشوائي يُظهر مدى التخبط الذي وصل له هؤلاء بفعل تسارع الأحداث المزعجة بالنسبة إليهم، منذ سقوط زين العابدين بن علي.لا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليفهم «خطاب» مجموعة المنافقين المُزايدين، فالمسألة تتلخص في التكسب الشخصي عبر التملق للحكومات ومحاربة كل فكر إصلاحي باسم الوطنية، وتخوين دعاة الإصلاح وربطهم بالمشاريع المعادية (الصفوية تحديداً). وكلما زاد الخوف من وعي الناس، وزادت المطالب بالإصلاح والتغيير، زادت حدة الاتهامات والشتائم، وزاد عدد المقالات الصبيانية في الصحف ذات اللون الواحد.
الكتّاب الذين يصورون الحكومات ملائكة وكل من يبدي وجهة نظر نقدية شيطاناً، يعرفون أنّهم كاذبون، ويقرون في الجلسات الخاصة بأنّ ارتباطهم بأوطانهم يحدده مقدار المبلغ المالي الذي يتقاضونه من وراء بلطجتهم الإعلامية! ويمكن تخيُّل حال الإعلام الذي تسيطر عليه تلك النوعية من المرتزقة باسم الفكر والثقافة، وتوقُّع ما يمكن أن ينتجه إعلام كهذا من خطاب مسفّ وتحريضي بعيد عن الموضوعية والتوازن.
يكثر المكارثيون من الطنطنة بالشعارات الوطنية حد السماجة، إذ يكفيهم ترديد كلمة حب الوطن عشر مرات ليكونوا وطنيين، ثم عشر مرات أخرى مع نفاقٍ للحكومات، ليمتلكوا حق فحص وطنية الآخرين. لذلك يبدو طريق الانتماء الوطني مع تلك الوصفة واضحاً جداً وسهلاً: انضم للجوقة المطبلة وتمتع بمزايا الوطنية.
يبدو مفهوم الوطن ملتبساً جداً عند هؤلاء، فالوطن يتلخص في أجهزة الدولة، وفي سبيل «التوحيد الوطني»، يُلغى أي احتمال للتمايز بين المواطنين أنفسهم وبينهم وبين تلك الأجهزة. فالكل وفق التصور الساذج يفكرون بالطريقة نفسها، ويرون الرأي السياسي نفسه. ولإضفاء شيء من الواقعية على ذلك التصور، يمكن الحديث عن اختلافات «سطحية» مثل الرأي في حجاب المرأة وقيادتها للسيارة، وأي حديث خارج الإطار المرسوم الذي ينتجه ذلك الإعلام هو عمالة للخارج وخيانة للوطن.
المكارثيون في غالبيتهم يدَّعون الليبرالية. ليبرالية من نوع عجيب للغاية، فهي لا تعترف بالوسائل الديموقراطية، بل تعاديها وتروج للوسائل التقليدية البدائية بديلاً ناجحاً يستحق التمجيد. ولا تظهر نزعة الليبرالية السياسية إلا حين يتعلق الأمر بسوريا وإيران، رغم أنّ انتهاك الحريات لا يقتصر على هذين النظامين، لكن الديموقراطية في نظر المكارثيين ضرورة لسوريا وإيران، وترفٌ في الخليج. لذلك تظهر طروحات عبقرية عند الحديث عن دول الخليج مثل: التنمية أهم من الديموقراطية!
وإذا كان الليبرالي المكارثي يضع التنمية في الأولوية، ويرفض الديموقراطية وسيلة لدفع عجلة التنمية إلى الأمام ومكافحة النهب المعطِّل لها، فإنّه يجبن عن القول إنّ فشلاً تنموياً ذريعاً يحدث على مستوى البنية التحتية في بعض دول الخليج، وفي بلده بالذات، وفشلاً آخر على صعيد التنمية البشرية في كل تلك الدول. كذلك، يجبن عن الحديث عن تغلغل الفساد في كافة المشاريع التنموية، ويخشى انتقاد رؤوسه الكبيرة. وكل ما يمكن أن يظهره من نقدية، يتمثل في التذمر من حفرة في الطريق أو تأخر في تنفيذ مشاريع حكومية، من دون أن يشير إلى الفساد الكامن وراء تلك الأمور.
ويصل الليبرالي المكارثي إلى الذروة، حين يستخدم سلاح الطائفية، فلا مانع لديه من تدمير الوطن باسم الوطنية. وهو لم يعد يمتلك ترف ترديد الترهات السابقة حول «الوحدة الوطنية»، أو حتى رفض تعميم العمالة على طائفة بعينها، بل إنّ المطلوب هو وضع الجميع في سلة العمالة، فكل من يرفض الطائفية هو عميل وخائن، وكل من ينادي بإصلاح الخلل في العلاقة بين الدولة والطائفة الشيعية، هو صاحب أجندة خارجية، ولا بد له من إعلان براءةٍ وتوبة من إخوته في الوطن والدين عند شيوخ المكارثية، وعلى طريقة شيخ المحافظين الجدد (والليبراليين المكارثيين) جورج بوش:من ليس معنا فهو ضدنا. لم يعد من سلاحٍ فعال للانتصار لمنطق الكتّاب الحكوميين إلا المكارثية المذهبية، وهي اليوم الورقة الرابحة في الإعلام الخليجي، حيث الهدف صناعة عدو وهمي (الشيعة والصفويون) يحتشد الناس ضده، فيتركون القضايا الملحة بالنسبة إليهم. ويتم من خلال تلك الفكرة صناعة وطنيةٍ قائمة على الطائفية يكون المكارثيون أربابها ومنظريها، والمخوَّلين تقويم وطنية الآخرين وانتزاع إقرارات منهم بالوطنية أو العمالة. وفي المحصلة يخرج من الوطنية كل من يتحدث بلغة مختلفة ويرفض ذلك الطرح.
إنّ المُلاحظ في كل ذلك هو ارتفاع منسوب التخبط والجنون. وإذا كان النفاق والتزلف واحتكار الوطنية عقيدة دائمة عند الكتّاب الحكوميين، فإنّه بات بعد الربيع العربي حالة هجوم هستيرية يُعبَّر عنها بصراخ يحاول التغطية على كل الأصوات المختلفة، ووضع الجميع في موقف الدفاع عن النفس، وخاصة دعاة الإصلاح والتغيير في الخليج.
ما لا يفهمه المكارثيون أنّ مزايداتهم لن تثني أحداً عن طرح رؤيته النقدية، وأنّ الحملات التي يقومون بها لا ترهب أحداً في هذا الوقت، وأنّ عليهم التعايش مع واقع يقول إنّهم لم يعودوا يمتلكون المنبر كله. صحيح أنّهم لا يزالون يمارسون هواياتهم في الإعلام الرسمي، دون أن يزاحمهم رأي مختلف، لكن إعلامهم لم يعد المنبر الوحيد، فالشبكات الاجتماعية باتت أكثر تأثيراً منه، وذلك ما اضطرهم إلى دخولها ليشاهدوا بأنفسهم حجم الهجوم عليهم وعلى مَنطِقِهم، وليعرفوا الفرق الهائل بين الإعلام الأحادي المغلق والفضاءات المفتوحة.
وما يجب أن يفهمه هؤلاء أنّ الوطن ليس صحفهم وقنواتهم، وأنّ الوطنية الحقة ليست شعاراتٍ جوفاء ومزايداتٍ رخيصة ومديحاً مُنَفِّراً، وأنّ الحرص على الوطن والخوف عليه وعلى أبنائه يستدعي الإشارة إلى كلّ خلل وخطأ والدعوة إلى إصلاحه، ويستدعي أيضاً فضح كل من يُجمِّل الأخطاء ويزوّر الوقائع ويرفض التعددية باسم الوطنية ويطلق حملات التخوين.
لقد بات فضح المكارثيين في الخليج ضرورة «وطنية».
* كاتب سعودي