لم يعلن السيد محمود عباس يوماً أنّه قد جاء «من أساطير الدفاع عن القلاع، إلى البسيط من الكلام»، كما شخّص محمود درويش ذات لحظة، من أجل عودة الفلسطينيين الكسيرة وغير الغانمة من رهانات خصبة، وحراك قوي قاموا به منذ أواخر الخمسينيات، لتعديل جور تاريخي هائل ألمّ بهم، إلى وحل التباسات الوعي والواقع الصعب. لقد وصلوا في وقت مبكر جداً إلى حالة من تقهقر الوعي وتشتت القدرة المنظمة، دون أن ينجزوا من مشروعهم وأحلامهم الشيء الكثير، كما كان اندحارهم بدون مكر أو دهاء كافياً أو خيالاً مناسباً، يساعد على العودة إلى حقل الفعل التاريخي على نحو فعال وكفوء.
أما الأشد قسوة في تقهقرهم فقد تمثّل في انسحابهم غير المنظّم وتعثّرهم في العودة نحو التواضع الواعد والعقلانية المجدية ومتطلبات التكيّف القاسي والبناء مع ممكنات السياسة، وربطها على نحو لا يثير أزمة في وعيهم، مع منطق الحق والتاريخ، وذلك ما لم يجدوا له الصيغة المناسبة والمتوازنة والمقتدرة في ممارساتهم، كما في وعيهم حتى الآن.
وفي الحقيقة، فإنّه لا يمكن فهم التاريخ السياسي الفلسطيني المعاصر بمعزل عن إشكالية العلاقة بين «ممكنات السياسة» و«منطق الحق والتاريخ»، كما يفهمها الفلسطينيون، حيث ممكنات السياسة تقوم على مبدأ التسوية، وما يعنيه ذلك من تنازل نفسي وثقافي وروحي عن أشياء كثيرة، والتعايش مع صيغ إشكالية من وجهة نظر منطق الحق الذي يرى فلسطين من الناحية السياسية والتاريخية تحديداً، كحق لأهلها وأمتهم فقط، بحكم الوراثة والعادة والعرف والعقيدة، فيما يتعامل مع إسرائيل بما هي عدوان على الأرض والبشر والتأريخ والحق والسماء معاً. وهنا بالضبط تستوطن واحدة من أكثر العقد التي تحكم الوعي الفلسطيني المعاصر وتوتراته المختلفة.
وأنتج الفلسطينيون ثقافة كاملة مبنية على التمجيد أو الاتهام أو التخوين، تبعاً لمدى انسجام أو ابتعاد خطاب القوى الفلسطينية مع مطلقات منطق الحق والتاريخ. وحدها فئة قليلة من الفلسطينيين نجت بنفسها من ذلك التخبط المكلف، لكنّها دخلت الهوامش أو النسيان، وظلت تعيد إنتاج نفسها، غير أنّها كانت تواجه المصير نفسه تقريباً، ولم تتحوّل إلى حالة جماعية واسعة. لقد كان الانكسار والانقطاع هو السمة الأبرز للتاريخ السياسي المعاصر للفلسطينيين ولوعيهم معاً، بدل التواصل والالتحام في الفاعلية والعمل. وقد تكرر منطق الانقطاع في تجربة كل فصيل على حدة، وفي مسار مجمل الحركة الوطنية ككل، وكأنّ التاريخ اللئيم قد أخذ على عاتقه أن يقول للفلسطينيين ووعيهم على نحو بالغ القسوة: لا لم تنضجوا بعد، ولم تستولدوا حتى اللحظة الشروط اللازمة للخيارات البعيدة في قضيتكم، تلك التي تنسجم مع منطق الحق والتاريخ وروايتهما.
المتغيّرات تلك، جرت في حياة شعب وجماعة لملمت نفسها بصعوبة ومشقة بعد فجيعة النكبة في 1948 وما ترتب عليها، وذهبت نحو أفق من المقاومات المتعددة. وقد أظهرت في ذلك السياق طاقات عالية وصبراً وجلداً وقدرة على المعاودة، لكن القوى السياسية التي ظهرت فيها لم تقم بتنظيم استعدادات الجماعة الفلسطينية ووعيها بصورة ملائمة ومتصاعدة وجذرية، كأساس لا بد منه لبناء القدرة المناسبة لرفع تحديات متمادية بطبيعتها، كما كان يقتضي ذلك فقه الضرورة. وبدل ذلك تعوّد الفلسطينيون على خذلان قواهم السياسية لرهاناتهم وتوقعاتهم، لكنّهم لم يتعودوا بصورة كافية ويقظة على مقاومة التردي أو الانحراف أو التقصير أو العجز، وقلة الحيلة عند تلك القوى، وتصويب مساراتها أو تعديلها وتلافي الأثمان الباهظة الناتجة من ذلك.
إنّ تلك السمة المتكررة في تاريخهم السياسي المعاصر تشير إلى علة بنيوية طاحنة موجودة في صلب ذهن الفلسطينيين وإشكال تفكيرهم وتعبيرهم يكشف عنها الحقل السياسي على نحو سافر ومؤلم. وفي ذلك الصدد يمكن القول إنّ أغلب القوى السياسية الفلسطينية المعاصرة تخلت، كل بطريقتها، عن واحدة من أهم وظائفها، وهي إعادة تشكيل الوعي الجماعي الفلسطيني وتنظيمه. كما أخفقت في امتحان القيادة الأهم، حيث القيادة الناجحة هي التي تستخرج من نفسها وواقعها أفضل ما فيها.
في هذا الخضم المليء بالانفعال والعواطف المندفعة، كان السيد محمود عباس منذ البداية، صاحب وجهة نظر سياسية واقعية تطورت قدماً مع الزمن، لكنّها لم تتغيّر من حيث الجوهر. فهي قامت على التعامل الفعال مع الواقع من خلال ممكنات السياسة اللئيمة بطبيعتها، والذهاب من هناك قدر الإمكان إلى ممكنات منطق الحق والتاريخ والثقافة، كما يفهمها الفلسطينيون.
إنّ تلك الطريقة في التفكير والتعاطي هي خارج مألوف عادات الفلسطينيين والعرب عموماً ومعاكسة لها، لأنّ الذهن الفلسطيني والعربي يتعامل مع أي واقع مهما كان، من خلال صور يبنيها في وعيه، تتدخل في صياغتها اعتبارات عدّة لا تكون حقيقية، ثم يذهب ذلك الوعي للتعامل مع الواقع من خلال الصورة المبنية له سلفاً. ولم يتعود الذهن على علاقة التفاعل والتبادل بين الصور والواقع، وتمسك بالصور المسبقة ولم يحاول بناء الصورة المناسبة من الواقع نفسه، ثم الانطلاق من هناك لبناء صورة أخرى له تتضمن رهاناتهم على تغييره والعمل الدؤوب من أجل ذلك.
ومن باب الإنصاف، تميّز الحزب الشيوعي الفلسطيني عن باقي القوى الفلسطينية، ومنذ زمن مبكر جداً، بمقاربة الواقع والتعامل مع ممكناته بروح إيجابية مفتوحة الأفق على المراكمة والتثمير، إلا أنّ ذلك الاختيار الذي يشير الى تباين في طريقة تعاطيه السياسي، قد جر عليه في حينه وابلاً من الإدانة والتجريم والتخوين من طرف الخطابات الوطنية والقومية المستندة إلى منطق الحق المطلق، دون أن تمتلك ما يناسب ذلك من قوة وقدرة وتماسك وتواصل الفاعلية والمقاومة، على نحو يجعل تصورها للحق أمراً ممكناً في المدى المنظور.
وأن يكون ثمة شخص يفكر على هذا النحو لهو بالتأكيد أمر لافت ويشير الى خصوصية ما في تفكير الرجل وطريقة تعاطيه وإدراكه للأمور ـــــ بغض النظر عن مدى التوافق مع تصوّره أو الاختلاف ـــــ إذ ترتبط المسألة هنا بنمط التفكير أولاً. إذ كانت اليد الطولى في تلك الحقبة لخطاب التجريم والتأثيم والتحريم، ورفض أي حل لا يعيد كل فلسطين، ورفض أي إمكانية للاعتراف بإسرائيل أو أيّة تسوية معها. ولم يتورع ذلك المزاج عن المس حتى بقامة جمال عبد الناصر شخصياً، وما كان يعنيه في زمنه، بسبب قبوله التكتيكي بمبادرة روجرز حول حرب الاستنزاف في 1968.
ومن المفارقات أنّه لم يخطر ببال الفلسطينيين أنفسهم أن يتحسبوا ويتنبهوا لمكر الواقع والتاريخ، لأنّهم بعد عقدين فقط، قبلوا سياسياً بكل ما دأبوا على رفضه، وممارسة فعل الانهدام في الواقع، متجاوزين إمكانية التعامل البناء معه على أساس مقاوم يستند إلى رؤية بعيدة المدى، عميقة الدهاء وشديدة الفاعلية. وذلك خيار له متطلبات قاسية أكثر من غيره، وبالتحديد من خيار التطرف الذي تعوزه القدرة، أو خيار التسليم بالواقع كما هو لأنّه فعل هزيمة في العمق.
عندما عادت القوى السياسية الفلسطينية ونخبها، محبطة ومكسورة الخاطر والوعي أيضاً بعد تجربة واسعة من السعي إلى التحرر والانعتاق ومحاولة تغيير مسار تاريخ غاشم وتعديله، ورفع المظلمة الكبرى التي وقعت على فلسطين والفلسطينيين، وجدت بديلاً (موضوعياً) يتمثل في المقاربة الواقعية للسيد محمود عباس، التي قامت على قراءة سياسية لما هو قائم، والسياق الذي أنتجه والظروف والمشكلات وموازين القوى والآفاق والممكنات السياسية للحلول المرتبطة على نحو أو آخر بممكنات منطق الحق والتاريخ، حيث يصبح المطلق نسبياً، بالقوة.
في تلك اللحظة بالذات، لم ينتب عباس شعور بالنصر على أحد، ولا بالتمايز ولا بالزهو، بينما كان يعاين تقهقر من كانوا يتعاملون مع مقاربته، كنموذج على التفريط والتسليم بالوقع، ولكن ربما شعر بالأسى على تضييع عمر في تطرف وعي انتهى كسيراً، ولم يعرف كيف يكون بنّاءً وديناميكياً ومناسباً، ويتدبر أمر الواقع والتاريخ على نحو ناجع ومكابد. كما لم يُعهد عن الرجل جنوحه للتشفي من خطابات كانت تعوزها القدرة في «الدفاع عن القلاع» كما يجب.
وجدير بالإشارة إلى أنّ وجهة النظر التي يحملها الرجل، كانت هي الأخرى تتطلب بدورها من الفلسطينيين أنفسهم توفير شروط وإرادات وأشكال وعي وتصرف وتعاطٍ عالية الكفاءة، كي يستطيعوا إعطاء مضمون سياسي نسبي للحق الفلسطيني، ضمن ممكنات الواقع والعوامل الحاكمة فيه.
غير أنّ واقع الحال يقول إنّ الفلسطينيين لم ينجحوا في ذلك الأمر كذلك، ولم يستطيعوا (أيضاً) تحويل الإنجاز المنظم وثقافته إلى بعد مستجد في حياتهم، وفي وعيهم، وهو أمر كانوا يحتاجون إليه بقوة، غير أنّهم استطاعوا تحويل الحماسة إلى مؤسسة وممارسةٍ وطقس مُقدرٍ بذاته، رغم أنّ الحماسة قد تنفع في مكان ما، لكنّها لا تجدي عندما تحل مكان الاستراتيجية الغائبة.
وعندما تم توقيع اتفاق أوسلو، واجتمعت قيادة فتح في تونس، انقسم أعضاؤها بين مؤيد بلا يقين، ومعارض ليس واثقاً من ثبات بنيته وليس بحوزته بديل أو في وارد البحث عنه. ثلاثة رجال منهم كان لهم مواقف مميزة: ياسر عرفات الذي كان يتطلع إلى أفق لا يشاركه فيه أحد؛ وخالد الحسن صاحب الذهن المتوقد والقدرة الحاشدة الذي انشغل كثيراً بأهمية التعاطي مع ممكنات السياسة وربطها بمنطق الحق والتاريخ، لكن موقفه بعد أوسلو تطور ليعود إلى أصول راديكالية، ويعارض عملية السلام كما جرت، لقناعة تكونت عنده تدخلت في صياغتها عوامل عدّة، تقول إنّ إسرائيل وحلفاءها الغربيين ليسوا في وارد التوصل إلى تسوية مقبولة ضمن أي حد.
أما محمود عباس الذي لم يُعرف عنه ولعه بالصخب، فقد ركز في تلك اللحظة بالذات، على أنّ اتفاق أوسلو هو تسوية بين موازين قوى (مختلة)، وأنّ الفلسطينيين لم يعودوا من أوسلو بنصر مؤزر، بل بممكن سياسي صعب يتطلب منهم الكثير. وكي يكون الاتفاق رأس جسر سياسي يمكن أن يبني عليه الفلسطينيون شيئاً ما، ويراكموا مكاسبهم الممكنة، فإنّهم يحتاجون إلى جهود جبارة، والى خيارات مناسبة ومعالجات واقعية. كما يحتاجون إلى إرسال إشارات مناسبة لشعبهم ولخصمهم، ولكل المعنيين عن النموذج الذي يجب أن يجسدوه، والسعي الحثيث لامتلاك شروط نجاحه، رغم كل ما يتضمنه الاتفاق ويحيط به من التباسات. أو أن يكون البديل لذلك هو تحوّل أوسلو إلى مقتل للفلسطينيين ولقضيتهم.
لقد انفرد عباس بالتشديد على إمكانية النجاح الصعب لاتفاق أوسلو والتحذير من فشله السهل، واعتبر أنّ الأمر منوط في مكان أساسي بكيفية تصرف الفلسطينيين إزاءه كإمكانية سياسية لا تلبي بالتأكيد رؤيتهم للحق والتأريخ. ولم يُعرف عنه في حينه انشغاله القوي بالدفاع عن الاتفاق وكأنّه اتفاق معصوم، كما لم يُعهد عنه توقفه طويلاً عند ما يقوله معارضو الاتفاق، أو أنّه بذل جهداً مضنياً في محاججتهم.
وبينما كان اتفاق أوسلو يتخذ مساره المبكر في الفشل الذريع على الأرض، كان الفلسطينيون يتدهورون كالعادة، سواء في بناء الرهانات المحبطة سلفاً، أو في قراءة الواقع ومعطياته والتعامل السياسي البناء معه. كما رموا وراء ظهورهم ضرورة بناء النموذج الجاذب، واستولدوا بسرعة أوهاماً مستمدة من خداع المشهد وخديعة الوعي وسوء التصرف في الإمكانيات الملتبسة.
ورغم أنّهم كانوا يعرفون في أعماقهم بأنّ أوسلو هو ابن سياسي غير شرعي لعلاقة سفاح جرت بين موازين قوى، مثلما هو نتيجة لضعف في الحيلة والخيال عند المغلوب أولاً، وعند الغالب تالياً، إلا أنّهم لم يبحثوا له عن أب وأم مناسبين من الواقع الأثيم ذاته، ولم يسعوا الى تشريعه على نحو أو آخر، من خلال ممارسات مكابدة تلقي برهاناتها الممكنة في حضن المستقبل المنظور.
وفي موازاة تدهور أوسلو في منزلقات فلسطينية عدّة، كانت إسرائيل تأخذ من أوسلو ما يناسبها وكأنّه اتفاق عقدته بينها وبين نفسها، وتجهض أي فائدة قد تترتب عنه للفلسطينيين، حتى لو كانت تفصيلاً صغيراً. وفي مرحلة تالية، وبعدما أودعت إسحق رابين مدافن كبار الأمة، واستحكمت سياسياً في صلب الوعي القومي الديني وتطرفه، أرسلت إسرائيل اتفاق أوسلو وفكرته المركزية عملياً إلى قبر غير أنيق. وفي الوقت نفسه، حرصت على التعامل معه كقتيل لا يجب الإعلان عن موته. وفي بعد آخر، تصرفت إزاء أوسلو كعدوان قائم ومحتمل على خيالها ووجودها وترسانة الأوهام التي تتحكم في سياسييها، وأهملت رؤيته كفرصة لن تتكرر لعقلنة وعيها وحضورها، بثمن التنازل في جبهة الأوهام لمصلحة جبهة الحقوق الفلسطينية. وذلك ما سوف تعضّ بسببه إسرائيل أصابعها ندماً، ذات يوم ليس ببعيد.
وفيما كانت ممكنات الاتفاق الملتبس تتحول إلى أثر بعد عين، ولم يبق منها إلا واقع السلطة الفلسطينية وما يرتبط بها من احتمالات، كان للتاريخ والأقدار تدابيرها الخاصة، إذ بعد غياب ياسر عرفات، جرى إلقاء كلّ أوسلو وما ترتب عنه، وإلقاء الواقع الفلسطيني برمته في «حجر» محمود عباس. الرجل ذاته الذي يجري ربطه بمبدأ التسوية، هو الذي سبق وحذر من سوء استخدام الهوامش والإمكانيات المتواضعة التي يتيحها الاتفاق للفلسطينيين، ودائماً ضمن ممكنات السياسة.
يصنف الوعي الفلسطيني السيد محمود عباس باعتباره المحرك الأساس للتسوية التي تجسدت في أوسلو، حتى لو لم يكن هو المقرر بالمعنى المباشر للكثير من تلك المسائل. إنّ التقويم السياسي للمسؤولية يضعه هناك، بحكم الموقع والتبعات بالتضامن، وذلك بغض النظر عن حجم العلاقة التي ربطته بالمجريات. كما أنّه شريك أساسي عن الإنجازات القلقة وكذا عن الإخفاقات المستقرة، سواء كانت موروثة أو مستجدة أو مضافة.
على أنّ تلك المسؤولية ترتبط بالهامش الفلسطيني من التصرف والتعاطي، لأنّ هناك أسباباً غير فلسطينية شديدة الأثر في حياة الفلسطينيين، تبدأ من إسرائيل وتمتد إلى البيئة السياسية الإقليمية والدولية والاتجاهات الحاكمة فيها، وهي عموماً بيئة مناوئة للمصالح والطموحات الفلسطينية. بمعنى آخر، لقد أصبح الرجل ذاته، هو الوجه والواجهة في تحديد الخيارات السياسية الفلسطينية، وخريطة طريقها المعقدة داخلياً، وإسرائيلياً، وإقليمياً، ودولياً.
وبغض النظر عن اتفاق قليلين أو كثيرين أو اختلافهم معه، يُسجل للرجل، بقاء تعاطيه مع الأمور مباشراً وواضحاً، وأحياناً صادماً لوعي اعتاد على التحايل السلبي على نفسه، أو التطرف المُحبط، أكثر مما اعتاد على التصالح البناء مع المعطيات القائمة بهدف تغييرها بما يتفق مع مصالحه ورؤيته. وعي كان مخلصاً للذة التهويم، على حساب الإدراك العميق والمنهجي والمنظّم للواقع والتعامل مع متطلباته على ذلك الأساس. وفي هذا الصدد، لم يحاول عباس إقناع أحد بأنّ مقاربته للحل هي وحيدة عصرها. كما أنّه لم يبذل جهداً منهجياً كافياً لتغيير كيفية تعاطي الفلسطينيين مع الواقع ومتطلباته، وظل العمل وعدته قديمة، بينما كانت الأطر القائمة تتقادم في تضاؤل الجدوى وغياب الفاعلية.
وفي ظل انشطار الوعي السياسي والواقع الفلسطيني معاً قبل الانقسام وبعده، عجز مجموع القوى الفلسطينية من جهة، والمجتمع الأهلي الفلسطيني من جهة أخرى، عن تعزيز أو تعديل المقاربة التي يعتمدها عباس. كما عجزت عن بلورة مقاربة مختلفة أكثر جدوى وتحظى بالإجماع. أما ما هو قائم في الساحة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، وبالتحديد بين حركتي فتح وحماس، فهو نزاع بدائي على رؤيات متباينة الى حد القطيعة، أكثر مما هو صراع بين مشاريع مكتملة الشروط، دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية النزاع ومن مضامينه.
وعلى مدار رئاسته، لم يستفد عباس كثيراً أو ينتفع سياسياً، من تأييد لا ينطوي على أي مضمون جدي أو فاعلية، من القوى المحسوبة في معسكره، بينما تعرض لتشويش كبير ولعرقلة جدية من طرف معارضيه (حركة حماس تحديداً) بصورة كان لها تأثير قوي في المشهد السياسي الفلسطيني.
بيد أنّ كلا الموقفين: المساند للرئيس عباس كيفما اتفق، والمعارض له في كل حال، قد تجاوزا عن وعي وقصد وقصور وسوء نية معاً، مساحة مهمة وهي التعامل السياسي مع مقاربته بما هي طرح، فيه جوانب يمكن الاتفاق عليها، تتضمن احتمالية تحقيق أهداف لا خلاف كبيراً بشأنها.
هكذا، ارتكبت جميع الأطراف أخطاء، عرّضت نتيجتها المشهد الفلسطيني لحالة تفسخ متمادية، وتفاقمت حالة التفارق النفسي والسياسي والإيديولوجي. ومرة أخرى عقد «العجز والكيد» تحالفهما الأثيم والضار، وفوّت الفلسطينيون بأطرافهم المختلفة والمتنازعة بما في ذلك المجتمع الأهلي، إمكانية التساند في كنف الاختلاف لمصلحة تباين مبني على ثقافة كيدية تجلت في كل صغيرة وكبيرة.
إنّ أحدث النماذج على ذلك، يمكن متابعتها من خلال تعاطي الأطراف المختلفة مع ذهاب الرئيس الفلسطيني لطلب عضوية فلسطين دولة في الأمم المتحدة، إذ لم يكن بمقدور المؤيدين أن يقدموا دعماً حاشداً أو نقداً لازماً. أما المعارضون، فذهبوا إلى منحى التشكيك والإشارة إلى غياب التفويض، وانتظار فشل الآخرين لتحقيق كسب سياسي.
في هذا السياق، كما في سواه، لم نر سعياً سياسياً واسعاً وحقيقياً، يتجه لاغتنام ما تثيره تلك الخطوة من إمكانيات وليس التوقف عند ما تثيره من اختلافات، لبلورة معالجة سياسية فلسطينية مختلفة لقضايا الصراع والحلول الممكنة تشارك فيها كل الأطراف.
والمثير أن يجري ذلك، بينما يعرف كل المعنيين أنّ المسالة لا ترتبط بخطاب راديكالي يمكن توفيره ببساطة في كل لحظة، ولا حتى بامتلاك عناصر قوة وقدرة أكثر مما امتلك الفلسطينيون من كل لون سياسي، على أهمية ذلك. على الوعي الفلسطيني أن يدرك لمرة واحدة فقط أنّ تقرير مصير فلسطين أمر لا يرتبط بقدرة الفلسطينيين، بل باشتغال القدرات الاستراتيجية لقوى محيطهم العربي والإسلامي مع فعالية فلسطينية مُحركة. إنّ إدراك مثل تلك البديهية التاريخية، من شأنه أن يجعل مقاربات الفلسطينيين السياسية تعمل بفاعلية وعقلانية ومرونة، وتحاول ضمن السقوف الممكنة أن تبلور عناصر الحل ومعطياته وتلاقي الأطراف القادرة على تحقيقه في المكان المناسب.
لكل وضع أو حالة أو زعامة أو قيادة أو مجتمع مرجعيات ومعايير تقويم، قد تتلطف وتأخذ الواقع والسياق القائم والظروف الحاكمة فيه بعين الاعتبار، وفي كثير من الأحيان تتجاوز ذلك ولا تعيره أي اهتمام. وبرؤية عباس وتقدير وضعه وموقفه وموقعه على أساس ذلك المنظور، يبدو الأمر على النحو الآتي: عباس يترأس وضعاً يقع في كل مهبات الريح المتخيلة، لا الحقيقية فقط، يسعى فيه سياسياً بخيال شخصي، مستنداً إلى القوة الموضوعية للوجود الفلسطيني، وأسئلته المُشرعة التي لا يستطيع أحد تجاهلها أو إقصاءها إلى الأبد، ويحاول في ممكنات السياسة وعواملها الصعبة، وهي ممكنات قد تقترب قليلاً أو تبتعد، عما تقوله بهذا الشأن خطابات الحق التاريخي والاعتقادات والروايات المبنية في ذهن الفلسطينيين والمالكين الرمزيين لفلسطين، وهم كثر.
هنا بالضبط تتكون مفارقة في تحديد المواقف منه ومن أطروحاته، لأنّ الحكم على ممكنات السياسة التي يعتمدها يجري بناءً على معايير الحق والرواية ومطلقاتها، وليس بناءً على ممكنات السياسة وما قد تفضي إليه أو ما يجب أن تفضي إليه. وفي ذلك المستوى بالذات، يلحق بعض الظلم بالرجل نظراً الى اشتباك مرجعيات التقويم بين منطق السياسة من جهة، ومطلقات الحق والتاريخ من جهة أخرى، فيما ليس بمقدور أي كان أن يقطع روابط الساسة المعنيين وخطواتهم مع الجذور الثقافية والرمزية والتاريخية للحقوق، كما يفهمها الناس المعنيون، سواء تجلت بوضوح في وعيهم أو غاصت بعيداً في وجدانهم. ولكن السياسة لها أحكامها وطبائعها التي قد تجافي منطق الثقافة والاعتقادات الراسخة في لحظة ما، وهذا ما يأبى الوعي الفلسطيني التعامل معه بصورة مختلفة عن عادته. وإذا كانت صرامة موقف الجماعات المبني على معتقدات الثقافة مهم، إلا أنّ الأهم هو تحويل تلك الصرامة إلى قوة ملموسة فاعلة ومنظمة وواعدة في حقل الواقع، تستبعد وتقصي كل المقاربات التي تعتقد بأنّها غير مناسبة أو ملتبسة.
إن ذلك ما عجز الفلسطينيون وقواهم السياسية عن عمله بصورة كافية، هو ما يفسر استحضارهم للثقافة وأثقالها، لتبرير وجهات نظر وتبادل الإدانات أو تبرير تقصير أو عجز أو البحث عن دعم لموقف متطرف أو مرن، عوض التوجه لما هو أفضل وأجدى، أي إدماج ذكي للثقافة، بوصفها قدرة جبارة في مشاريع سياسية حقيقية. لقد فشل الوعي السياسي الفلسطيني في تدبر أمره على نحو بنّاء في ذلك الصدد، وبدل مواجهة الفشل بالدهاء، وردم الفجوات بين منطق السياسة ومعطياتها ومنطق الثقافة ومطلقاتها، استسهلت القوى الفلسطينية الذهاب إلى ترف الخلافات العقيمة سبيلاً لتعويض غير مناسب عن الإخفاق، وجعلتها عادات أصيلة في التفكير والتعاطي. إنّ تلك الإشكالية الباهظة تشكل واحدة من أخطر القضايا التي تواجه الفلسطينيين حتى لما بعد زوال الاحتلال، وتنتج منظومة من التشوهات والإعاقات التي تساهم في تحطيم قدرتهم وتشويش صورتهم، وتجعل من الخلل مرضاً عضوياً وبنيوياً، لا شفاء منه.
وفي جهة أخرى، يبدو الرئيس عباس مظلوماً لأنّ تحالف القوى التي تحسب نفسها عليه، مع تبايناتها التي تحرص على تأكيدها من قبيل الزينة السياسية لموقفها، هي في الحقيقة قوى معزولة عن الإدراك العميق للواقع، وفي حالة قطيعة مقصودة مع متطلبات الفاعلية المجدية في الموقف والحشد والتعبئة، أو الإسهام البناء في تعزيز أو تعديل أو نقد أطروحته السياسية. كما أنّها قوى لا تمتلك (حتى) الكفاءة اللازمة لتعقب الحراك السياسي كما ينبغي، أو التعقيب على مجرياته برشاقة. يضاف إلى ذلك أثقال الاشتباك الواسع الذي يحكم العلاقة بينه وبين حركة حماس ـــــ حتى الآن على الأقل ـــــ والتباين الواسع القائم بينهما.
قبل كل ذلك وبعده، تحيط به من كل صوب إسرائيل وتحالف غاشم يساندها، يمتد من لؤم الغرب إلى عجز أبنية العرب. وفي كل تلك الأوضاع، وما تنطوي عليه من ظلم في مكان ما، فإنّ الرؤية المنصفة، لا يجب أن تتخطى القول بأنّ مسؤولية معينة تقع على عاتق الرئيس عباس، يمكن العثور عليها هنا أو هناك.
* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين