في أيلول 2005، ومن على باب البيت الأبيض في واشنطن، صرّح وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل قائلاً: «لقد خرجت إيران رابحة من العملية الأميركية في العراق؛ لأنّ الولايات المتحدة لم تكن تعرف ما هو اليوم التالي لعمليتها العسكرية هناك». أتى ذلك التصريح بعد شهر من استئناف طهران لبرنامجها في تخصيب اليورانيوم، وما أدى إليه من انتهاء التوافق الأميركي ـــــ الإيراني الذي كان مسرحه أولاً في كابول 2001، ومن ثم في بغداد 2003. وفعلاً، إنّ النصف الأول من 2006، كان من أصعب الفترات الأميركية في بلاد الرافدين، من حيث عمليات المقاومة العراقية. وقد بدا أنّ «مشروع الشرق الأوسط الكبير» اصطدم بالحائط، عبر تلك البوابة البغدادية التي اختارتها واشنطن قبل ثلاث سنوات لـ«إعادة صياغة المنطقة»، وذلك أمر لا يمكن فصله عن اختيار بلاد الأرز في حرب صيف 2006، لكي تكون مكاناً بديلاً لـ«آلام مخاض ضرورية لولادة الشرق الأوسط الجديد»، وفقاً لما صرحت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، في الأسبوع الأول من تلك الحرب.
لم تحصل تلك الولادة عبر لبنان، بل تعثرت وفشلت، ولكن من دون إجهاض ذلك الجنين الذي بدأ الحمل به في اليوم الذي سقطت فيه بغداد، في 9 نيسان 2003. كان ملموساً تحوّل المد الأميركي في عموم المنطقة إلى جزر كبير، من خلال تواريخ 14حزيران 2007 في غزة، و7 أيار 2008 في بيروت، ومن خلال تصاعد مقاومة حركة طالبان في أفغانستان خلال 2008.
أثناء عامي2007 ـــــ 2008، كان واضحاً أنّ التركيز الأميركي هو على مجابهة المد الإيراني في المنطقة، الذي أخذ قوته الدافعة من المكاسب التي حققتها طهران في بغداد ما بعد صدام حسين، وأنّ عناوين «معتدلون ضد متطرفين»، وتعويم الدور التركي في المنطقة، وتقارب أنقرة رجب طيب أردوغان وباريس نيكولا ساركوزي مع دمشق، ما هي سوى سياسات تجد رموزها في المجابهة الأميركية مع إيران.
لم تنجح واشنطن في إيقاف المد الإيراني في عموم المنطقة، بل تعزز التراجع الأميركي وتحوّل إلى شكل عالمي من خلال المكاسب الروسية في جورجيا في آب 2008، وأوكرانيا في شباط 2009. خلال 2011، انقلبت تلك الصورة الأميركية في الشرق الأوسط العربي، عبر صيغة نُسجت على عجل؛ ففي مصر، في الأحد عشر يوماً الأولى من شباط 2011، تفادت واشنطن أن يتحوّل سقوط حليف لها على يد ثورة شعبية إلى كارثة أميركية ثانية، كما جرى في طهران، في 11شباط 1979. قامت تلك الصيغة، مثل أنقرة أردوغان، على ثالوث الجيش ـــــ الإدارة ـــــ الإسلاميون، وهو ما يبدو أنّه يتعمم في تونس منذ ثورة 14 كانون الثاني 2011، وفي ليبيا بعد سقوط القذافي في 23 آب. وتلك الصيغة في طريقها إلى أن تطبق في صنعاء عبر «المبادرة الخليجية» (لم ينتبه إلا قلة إلى أنّ الفائزة اليمنية بجائزة نوبل هي عضو في «التجمع اليمني للإصلاح»، واجهة الحركة الإخوانية في اليمن).
عبر كل ذلك، قاد «الربيع العربي» إلى مد أميركي جديد في عموم المنطقة، من الواضح من خلاله أنّ هناك موجة مد ديموقراطي تعم المنطقة العربية، تقوم على حركات اجتماعية حقيقية، ستؤدي إلى تحوّلات داخلية. تحوّلات تفتح الطريق إلى مشهد إقليمي جديد، وربما عالمي، ستركبه واشنطن من خلال ديناميات ذاتية داخلية موجودة في تلك البلدان، تماماً كما فعلت في ثورات مجتمعات «الكتلة السوفياتية» في أوروبا الشرقية والوسطى منذ خريف 1989، وقبلها بقليل أيضاً مع سقوط حلفائها العسكريين السابقين بعقد الثمانينيات، في أميركا اللاتينية.
من دون ذلك، لا يمكن تفسير الهجوم الأميركي في عنوانين: الصدور المفاجئ، بعد تأجيل طويل، في حزيران 2011 للقرار الاتهامي عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ثم قضية الجبير في أيلول 2011. من الواضح هنا، أنّ البريد الأميركي المرسل هو إلى «التناقض الرئيسي» الذي أصبحت طهران تمثله، خلال ست سنوات مضت أمام واشنطن، وأنّها تشعر الآن بأنّها قادرة على وضعها في الزاوية الضيقة، وخاصة من خلال القضية الثانية.
لا يمكن عزل أجواء قضية الجبير عن التصريح الإنذاري للقائد السابق للحرس الثوري الإيراني، الجنرال رحيم صفوي، الموجه إلى الدور التركي في المنطقة، ويأخذ أبعاداً كبرى عند واشنطن في فترة ما بعد «الربيع العربي». كذلك، لا يمكن عزل تلك القضية عن الفيتو المزدوج، الروسي ـــــ الصيني، في الموضوع السوري؛ إذ يبدو أنّ الحلف الأميركي ـــــ التركي، المتعزز أخيراً بنشر تجهيزات برنامج الدرع الصاروخية في الأناضول، سيجد نفسه في مواجهة تلقائية مع طهران، ومن خلفها موسكو وبكين. بطريقة ما، أصبحت دمشق في النصف الأول من تشرين الأول 2011، بؤرة لذلك الصراع الذي اتضح من تصريحات صفوي، ومما جرى في نيويورك، أنّه أصبح صراعاً إقليمياً ودولياً.
قد تكون قضية الجبير محاولة أميركية استباقية، ليس فقط لحسم تردد سعودي كبير في الانضمام إلى الجهد التركي في إدارة الملف السوري، بعيداً عن مبادرة الجامعة العربية التي أيدتها السعودية، ولا تنظر إليها واشنطن وأنقرة بارتياح، بل لتثبيت كتفين إيرانيين، مع حشر في الزاوية الضيقة. وكل ذلك من أجل منع طهران من أية فاعلية، قبيل وأثناء إجراء تركي مرتقب ما حيال سوريا، من خلال رؤية أميركية تفيد بأنّ حسم الموضوع السوري سريعاً (أو من خلال وضعه على سكة ما مرضية لواشنطن وأنقرة) هو الذي يؤدي إلى إنتاج توازنات تجعل إتمام الانسحاب الأميركي من العراق، في اليوم الأخير من العام، آمناً أميركياً، من خلال تغيّرات سورية سيكون لها انعكاسات كبرى في طهران، وبالتالي في بغداد؛ إذ يبدو أنّ العراق لا يزال هو «موضوع المواضيع»، كما صرح الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في 2006.
* كاتب سوري