«تكادُ لروعةِ الأحداثِ فيها / تُخالُ من الخرافةِ وهي صدقُ»، قال أحمد شوقي واصفاً قمعَ المحتلّ الفرنسي «الثورة السورية الكبرى» التي اندلعت في 1925. لم يكن يدري أنّ التاريخَ، في شطحة من شطحاته، سيُخرج قامع الشعب السوري من صُلبه. يستعصي على الكثيرين، تصديقُ ما تورده وسائلُ الإعلام منذ سبعة شهور: مدنٌ وقرى يقتحمها الجيشُ، وتظاهرات تفرّق بالرصاص الحيّ، وعشراتُ آلاف المسجونين والمختطفين. تعود الذاكرةُ إلى أحداث تعسّر تصديقها، لشدة هولها، طوال سنين، إلى قصف مدينة بكاملها، حماه، في 1982 وقتلِ آلاف المدنيين بدعوى القضاء على «تمرد إخواني».
لا صورَ عن تلك المجزرة، ما جعل العديد من اليساريين، لسنين، يفترض أنّ بعض حلقاتِها من نسْج خيال إسلاميين يريدون تأجيجَ حماسِ قواعدِهم. لكنْ أين المفرُّ من صور سوريا الذبيحة على الإنترنت والفضائيات؟ أين المفرّ من تلك الدماء التي تكاد تتدفّق من شاشة التلفزيون؟

■ ■ ■

«وبي ممّا رمتكِ به الليالي/ جراحاتٌ لها في القلبِ عمقُ». يتردد اليوم ما قاله أحمد شوقي منذ 85 سنة مضت. يتملك المرء الرعب حين يفكر في الدم الجاري من درعا إلى الحسكة، ومن دير الزور إلى اللاذقية، لا من تواصل المذبحة فحسبُ، لكن أيضاً من قدرتِنا على تحويلِها إلى أحد مشاهدِ حياتنا اليومية، كمآس كثيرة أخرى «نستهلكها» بنهم غريب. ما الذي سيثير ثائرتَنا إذا لم تثرها تلك الفظائع؟ ربما مشهدُ انفجارٍ نوويّ يكون آخر اندهاشٍ من اندهاشاتنا.


■ ■ ■
«وللحريّة الحمراءِ بابٌ / بكلِّ يدٍ مُضرجَةٍ يُدقُّ»، قال أحمد شوقي في 1926، واعداً الثوار السوريين بأنّ تضحياتهم من أجل إنهاء الانتداب الفرنسي لن تذهبَ سدى. لم يعد ذلك البيتُ المتفائلُ الحماسيّ يعني لكثيرين، يتابعون ما يجري في سوريا، سوى ما يعنيه حرفياً: الحريةُ فضاء محظورٌ، يقف الموت على عتباته متربصاً، فلا يتشرف بدخوله سوى الشهداء، ممن يرضون بفراق عالمنا الفاني. متى سيعبرُ السوريون نحو الضفة الأخرى، على جسورِ شهدائهم؟ هل سيُبادون على بكرةِ أبيهم ليعمّ بلادَهم السلامُ؟ يتملك الكثيرين اليأسُ من غد مشرق لا يأتي، وأمسٍ عابس لا يريد الانقضاءَ. وتنتاب البعض الشفقةُ وهم يرون شباباً يدعون «العالمَ إلى حماية الشعب السوري». من نحن لنعطيهم درساً في «مخاطر التدخّل الأجنبي»، وهل ترك لهم رصاصُ القمع آذاناً يستمعون بها لنا؟ لكن فجأة نتذكر بعض ما تعلمناه في المدرسة من تاريخ الشام، أي مجازر 1860 التي تذرّعت بها فرنسا لإرساء قدمها في البلاد، حماية «للموارنة» من بطش «الدروز».

■ ■ ■

«وللمستعمِرينَ وإِن ألانوا / قلوبٌ كالحِجارةِ لا ترقُّ»، قال أحمد شوقي محذّراً السوريين من سعي السلطات الاستعمارية إلى خداعهم بحلول وهمية لإنهاء انتفاضتهم. النظام السوري هو من يحاول اليوم خداع الشعب بإصلاحات سطحيّة لا تغير شيئاً في طبيعته الاستبدادية، لكن نيكولا ساركوزي وآلان جوبي ليسا أصدقاء سوريا المخلصين. يلينون حزناً على «المدنيين» لكنّنا نراهم، حتى بعد إطاحة القذافي، يقصفون مدناً بأكملها وكأن سكّانها «جرذان»، كما قال «ملك ملوك أفريقيا» عن متمرّدي بنغازي. ها نحن نراهم يستحدثون في باريس «كتلة القوى العلمانية والديموقراطية السورية»، وكأنّ قدَر العلمانيين والديموقراطيين المحتومَ أن يكونوا خدمَ الإليزيه الأوفياءَ.

■ ■ ■

«نصحتُ ونحنُ مختلفون داراً / ولكنْ كلّنا في الهمِّ شَرقُ»، قال أحمد شوقي محذّراً المتمردين السوريين من انقسام كان أحدَ أسباب إخفاقِ ثورتهم. ليس لنا سحرُ بيانه (ولا شرعيةُ المشارك في الأحداث) كي نسدي النصح لأحفادهم، فأهلُ دمشق أدرى بشعابها، لكن نردد هذا البيت ولسانُ حال النظام الجزائري يقول: «كلُّهم في الهم شرق، فليست مصر ولا تونس ولا سوريا أم أنتم تريدون حرباً أهلية جديدة؟». لا نريد للجزائر الحربَ الأهلية ولا التدخّل الأجنبي، لكن لا نريد لها أيضاً «الديموقراطيةَ المسؤولة» والاستقرارَ الوهمي. أليس من حق الجزائريين، كالسوريين، أن يحلموا بديموقراطية من غير ناتو وباستقرار من غير استبداد؟

* كاتب جزائري