لم يكن من الصعب على أيّ مراقب بسيط أن يتوقّع سلفاً ما ستقوله وتعلنه وزيرة الخارجية الأميركية السيّدة هيلاري كلينتون في لقائها مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في نيويورك، قبل أيام: مطالبة الحكومة بالوفاء بالتزاماتها الدولية حيال المحكمة الخاصة بلبنان. لولا ذلك الأمر، لما كلّفت الوزيرة الأميركية نفسها، ربما، عناء اللقاء مع رئيس حكومة لبنان، رغم أنّ لبنان هو الرئيس الحالي، وحتى نهار الغد، لمجلس الأمن الدولي!يقودنا ذلك الكلام إلى بعض الحديث عن الاهتمامات والأولويات الأميركية، في المرحلة الراهنة حيال لبنان والمنطقة، وخصوصاً قبيل الانتخابات الأميركية في نهاية العام القادم. بداية، «جولة الراعي في الولايات المتحدة لا تشمل واشنطن». هكذا عنونت الزميلة «النهار» الناطقة الرسمية حالياً، باسم الفريق الأكثر تشدّداً في تحالف 14 آذار، صدر صفحتها الأولى. يعني ذلك بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، أنّها لا ترحّب بالمواقف التي أدلى بها البطريرك الماروني الجديد، إثر زيارته أخيراً لفرنسا، ومن ثمّ خصوصاً، إثر زيارته غير العادية لمنطقة الجنوب اللبناني، وقبلها لمنطقة البقاع الشمالي. فالإدارة الأميركية تلحّ في المرحلة الراهنة على عزل، وإضعاف النظام السوري، وصولاً إلى إسقاطه في سوريا وفي المنطقة، في مرحلة قريبة، أو بعيدة إذا تعذّر ذلك. لذلك أيضاً، ساجل السفير الأميركي في دمشق (مذكّراً، مرّة جديدة، بدور زميله السيّد جيفري فيلتمان في لبنان بدءاً من 2005 وما بعده)، مع بعض أفكار البطريرك بشارة الراعي لجهة خطر «التطرّف الإسلامي»، مقللاً من شأن ذلك، إذ لواشنطن أولوية هي التخلّص من النظام السوري، ولأنّها بدأت حواراً ذا مغزى مع فروع عديدة تابعة لحركة «الإخوان المسلمين» بوساطة وبدعم من رئيس الحكومة التركية رجب طيّب أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» التركي، أو، قبل ذلك عبر وسطاء آخرين.
ولذلك الغرض أيضاً، نقل وينقل السفير الخطير، الحاضر دائماً وأبداً في شؤون لبنان والمنطقة، السيد جيفري فيلتمان، وعوداً أو تهديدات، بالأمس، والبارحة واليوم، للرئيس نجيب ميقاتي، ولكلّ من يعنيه الأمر في لبنان، وفي خارج لبنان. إنّه الرجل الذي يقول «المفيد»: في يوم أو شهر أو في سنة، أو حتى أحياناً في دقائق لا تزيد أو تنقص إلا بقليل عن عدد أصابع اليد. وهو يقول ذلك في زيارات خاصة، أو في لقاءات جانبية، أو في الاجتماعات الرسمية، أو في الاتصالات الهاتفية...
وممّا قاله فيلتمان للرئيس ميقاتي، وفق كلّ منطق وتحليل، هو أنّ ميقاتي أمام فرصة تاريخية للبقاء في رئاسة الحكومة، إلى أجل غير مسمّى، شرط أن يلتزم بالقرارات الدولية والعربية والأطلسية في موضوع الحصار على سوريا، وفي موضوع تمويل المحكمة الدولية، وكذلك شرط أن يرفض القرارات الدولية في الموضوع الفلسطيني! وفي ذاك الصدد، يجدر بالسيد سعد الحريري أن يشعر بقلق حقيقي إزاء ما يمكن أن يحصل من متغيّرات. فـ«وسطية» الرئيس نجيب ميقاتي يمكن أن تتوسّع يميناً، بعدما تمطّت شمالاً. وكذلك، فإنّ بعض التحوّلات اللبنانية، المدنية وغير المدنية، في محيطه، لا تبعث على الاطمئنان، فيما بات الرجل أسير منفاه الاختياري: يكابد أيضاً مشاكله المالية المتصاعدة في المملكة وخارجها، وصولاً إلى أقرب المقرّبين. ولعلّ بين فريق مستشاري «الشيخ» سعد، من تسعفه الذاكرة فيتذكر ويذكر «المعلم»، بأنّه ليس لواشنطن صداقات دائمة، بل مصالح أبدية. وقد يكون في ذلك أيضاً تعزية للبطريرك الجديد في موقفه الجديد. فواشنطن رفضت، مثلاً، في 2001 استقبال البطريرك الماروني السابق، الكاردينال نصر الله صفير، رغم أنّه كان قد أطلق نداء المطارنة المطالب بإخراج القوات السورية من لبنان. ففي تلك المرحلة، كانت واشنطن على علاقة جيّدة مع دمشق، وكان رئيس فرنسا السابق، صديق الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يزور لبنان مروّجاً لبقاء سوريا فيه، حتى إيجاد حلّ للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ولحماية «مصالحها المشروعة» في البلد الذي عاد وأنجب ثورة الأرز من رحم التناقضات الداخلية، وبأبوين أميركي وفرنسي في وقت واحد!
إذاً، قال فيلتمان لميقاتي، في خلوة الدقائق السبع: هذا زمنك، فلا تفوّت الفرصة ولا تكن متوجّساً أو مراوغاً، أو ... وسطياً، في هذا الأمر. قال له: إنسَ ما سمعت من السيّدة الوزيرة من مدائح لموقفك «الحيادي». الحياد المطلوب اليوم، هو الحياد إزاء النظام السوري وحزب الله وإيران وفلسطين، وذلك بالتزام القرارات الدولية حيناً، وبرفضها حيناً آخر، ودائماً بتوجيه وباتصال سريع ومباشر مع العزيز «جف»، الذي لا يحتكر صداقته فريق واحد أو تحالف واحد، أو «أمانة» واحدة، أو صديق لبناني واحد!
وتقضي الموضوعية بالإشارة إلى أنّ الولايات المتحدة، متعدّدة الهموم والمشاكل في منطقة الشرق الأوسط. لقد سبق أن أخفقت سياسة الهيمنة والسيطرة على المنطقة بالقوة العسكرية، وبالتهديدات، وبإقامة الأحلاف المتطرّفة. ولقد خلّف ذلك الإخفاق بؤر استنزاف كبيرة لعسكر الولايات المتحدة ولاقتصادها في غير بلد من المنطقة. لذلك، ونتيجة ذلك الأمر، تراجع نفوذ الولايات المتحدة في العالم، ولم تعد قادرة على أن تقدّم نفسها بوصفها قوّة لا تُقهر، تفعل ما تشاء وأنّى تشاء، على مدى الكرة الأرضية.
وحتى الربيع العربي، الذي تتدارك واشنطن مخاطره، من خلال التدخل المباشر في شؤون الآخرين عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً، لم يمرّ دون إلحاق خسائر كبيرة أصابت نفوذها وسمعتها وحلفاءها وأولوياتها في المنطقة. و«يصادف» مرّة جديدة، أنّ أولويات واشنطن هي أولويات قادة إسرائيل، على نحو عام. ذلك رغم رعونة السيّد «رئيس الوزراء» (كما يسمّى في واشنطن) بنيامين نتانياهو، وكل رئيس وزراء إسرائيلي، ورغم «سوقية» ووقاحة وزير خارجيته ليبرمان. طبعاً ستبقى لإسرائيل بعض الهواجس. لكن كلّ ما يستطيعه الرئيس الأميركي لتبديد تلك الهواجس، سيفعله دون شك. وسيكون الموعد القريب للانتخابات الأميركية كفيلاً بإلغاء كلّ تردّد وبحسم كلّ تباين. فالسعي نحو ولاية ثانية، وهو هنا «الضرورات»، قد أباح كلّ المحظورات، بما في ذلك استجلاب المزيد من الكره لأميركا وللأميركيين، وهو ما كان قد وعد الرئيس الأميركي بالسعي إلى معالجته، وخصوصاً بعدما بلغ في عهد سلفه جورج بوش الثاني أقصى الحدود!
نعم يستطيع مسؤولون في الحكومة الإسرائيلية أن يردّدوا اليوم، وتحديداً بعد خطاب رئيسهم في الكونغرس الأميركي، ما قيل سابقاً مع بداية سيطرة «المحافظين الجدد» على الحكم في واشنطن: الولايات المتحدة تحكم العالم، ونحن نحكم الولايات المتحدة! لقد قال معلّق إسرائيلي بعد خطاب الرئيس أوباما قبل أيام في مقرّ الأمم المتحدة: إنّ أوباما هو سفير إسرائيل في أعلى منبر دولي! نعم إنّه سفير إسرائيلي برتبة رئيس الولايات المتحدة الأميركية. ذلك ما يقتضيه السعي إلى المنصب بأصوات ودعم اللوبي الصهيوني. وذلك ما تقتضيه أساساً سياسات ومصالح الاحتكارات الأميركية. وذلك ما تقتضيه سياسة الهيمنة بالقوة على العالم، وعلى مقدّراته.
لكنّ الردّ على السياسات والأولويات الأميركية، لا ينبغي أن يكرّر نفسه، وخصوصاً عبر صيغة «الحلّ الأمني» في سوريا، والحلّ الطائفي في لبنان والعراق... ولعلّ في ما تحوّل إليه الموقف الرسمي الفلسطيني بعض الرد المطلوب: قلب الطاولة على المناورات الأميركية والإسرائيلية، شرط أن يستكمل ذلك بالعودة إلى الشعب لتوحيده فعلياً ضمن أولويات المقاومة والتحرير، بعيداً عن تكتيكات متواضعة الهدف بتحسين شروط التفاوض، أو سياسات مبالغة التعويل على حضور اللحى الطويلة في معادلة الصراع والتحرير. ذلك دون أن نتحدّث هنا، عن مسؤولية القوى التقدّمية والديموقراطية المطالبة بالكثير في إعادة التقويم وفي الاستنتاجات!
* كاتب وسياسي لبناني