لم يكن الحديث عن الديموقراطية في السعودية وليد الربيع العربي، ففي العقود الماضية كان حديثاً معروفاً عند النخب والمثقفين. وفي العقد الأخير، وبعد هجمات 11 ايلول، ثم غزو العراق، توسع الحديث ليشمل جمهوراً جديداً، لكنّه تعزز بقوة، وبات محور كلّ نقاش فكري بشأن مستقبل البلاد، بعد الثورات العربية وما حملته من تغيير في خريطة المنطقة ووعي الناس.قامت الثورات تعبيراً عن تطلع الجمهور العربي إلى الحرية والعدالة، بعد عقود من الاستبداد. وصارت فكرة إقامة نظام ديموقراطي ودولة مدنية تجسيداً لذلك التطلع، بفعل نجاح الخيار الديموقراطي في دول مختلفة، وفشل الأحزاب الإيديولوجية في إنتاج صيغ أخرى، تضمن الحرية والعدالة، وعجز الخطاب الديني عن إيجاد نموذج أفضل، ووصول الكثيرين إلى اقتناع أنّ الديموقراطية ليست ضد الدين، كما أنّها الوسيلة الأمثل لتنظيم الكم من الاختلافات الفكرية والمذهبية في عالمنا العربي. السعوديون جزء من المنظومة الاجتماعية والثقافية العربية. وهم جزء من الوعي المتنامي بأهمية التحوّل الديموقراطي. ويخطئ كثيراً من لا يقدّر حجم التحوّل في تفكير السعوديين، وتزايد إيمانهم بالديموقراطية ورغبتهم في المشاركة الفاعلة والحقيقية في صناعة القرار الذي يمسّ حياتهم مسّاً مباشراً.

أولوية الديموقراطية

الديموقراطية حاجة وليست ترفاً فكرياً، هكذا تراها النخب المُطالِبة بها، وجمهورٌ آخذٌ بالاتساع. ليست بالنسبة إليهم حقاً طبيعياً للشعب وحسب، بل ضرورة له بما تمثله من بناء للمؤسسات وإطلاقٍ للحريات، وبما تنتجه من قنوات عصرية للتعبير الشعبي ضمن مجتمع مدني حقيقي. ولا تنحصر القضية في الانتخابات، بل تتعداها لتشمل عمل المؤسسات القائم على الفصل بين السلطات وسيادة القانون الذي يوضح بكل صراحة الحقوق والواجبات للجميع. مع ذلك، هناك قطاعات من الجمهور في السعودية والخليج لا تهتم كثيراً بذلك الكلام، وتجده ترفاً فكرياً، وتنظيراً، لا أهمية له في حياتهم اليومية، وترى أنّ المسألة الاقتصادية والهم المعيشي مقدمان على ما سواهما، وأنّ الأولوية هي لتحسين الأوضاع المالية والخدمات المقدمة من الدولة، وكلّ حديث عن الديموقراطية وبناء المؤسسات لا معنى له.
لم تفهم تلك المجموعة التأثير الإيجابي للعملية الديموقراطية على تفاصيل حياتها اليومية. وتبدو المشكلة في أنّ كثيراً من الطروحات حول الديموقراطية لم تدخل إلى المنطقة لتربط بين التحوّل الديموقراطي وتحسن الوضع الاقتصادي والمعيشي، وتُبْرِز أثر الديموقراطية الإيجابي في شؤون المواطنين التفصيلية.
بإمكان الآلية الديموقراطية أن تسهم في الحد من الفساد المالي والإداري، وهو المشكلة الأبرز التي يعانيها المواطنون، إذ إنّ الرقابة الشعبية على المال العام، عبر مؤسسات منتخبة لها صلاحيات حقيقية، يمكنها تعطيل هدر المال العام والوقوف بوجه الفاسد. سينعكس ذلك إيجاباً على الحالة الاقتصادية في البلد، كما أنّ إصلاح المؤسسات وإنهاء المحسوبيات وتقديم الكفاءة في الوظائف الكبيرة والصغيرة، سيسهم أيضاً في الحد من الفساد وضخ دماء جديدة في المؤسسات. كذلك فإنّ العملية الديموقراطية، مع ضمان استقلالية القضاء، يمكنها أن تعالج الكثير من المشاكل التي ينتجها القضاء حالياً، وما يسببه من معاناة اجتماعية واقتصادية للناس، فالقضاء المستقل ينهي شكوى الناس من أحكام القضاء وغياب النزاهة والاستهتار بالناس ومصالحهم. أيضاً تقدم العملية الديموقراطية فرصة للجمهور لمحاسبة المسؤولين، وبالتالي فإنّ من يتحدث عن ضعف الخدمة المقدمة في التعليم أو الصحة أو المواصلات يمكنه أن يحاسب المسؤول عنها عبر الآلية البرلمانية، وكذلك عبر آليات العمل الشعبي المدني المتوافرة في الإطار الديموقراطي.
ما سبق أمثلة على قضايا ملحة في حياة الناس بإمكان الآلية الديموقراطية أن تؤثر إيجاباً فيها. ويكفي أنّها تعطي المواطن فرصة لتحمل المسؤولية والشراكة في صناعة القرار. لذلك يفترض بمن يطالبون بالتحوّل الديموقراطي الحديث عن أثر الديموقراطية في المسائل التي تعني الفرد، ليفهم بعض الجمهور أنّ الديموقراطية أولوية لتحقيق الرفاه الاقتصادي، كما هي أولوية لتحقيق الحرية والعدالة.

الوعي الانتخابي

تطرح قضية الوعي الانتخابي كحجة أساسية لمقاومة التطلع لتحوّل ديموقراطي. ويتم الحديث عن عدم جهوزية المجتمع للعملية الديموقراطية في سياق رفضها، لذلك يمكن ملاحظة تكرار ذلك الكلام طوال العقد الأخير، وقبله واليوم وغداً وبعده سيتكرر أيضاً، فالمجتمع لن «ينضج» أبداً ليصل إلى المرحلة التي يمكنه فيها ممارسة العمل الديموقراطي، وهو لذلك يحتاج دوماً إلى وصاية فكرية وسياسية عليه.
يكفي القول إنّ المجتمع الذي يعاني عدم الجهوزية ليدير أموره بنفسه، هو نتاج لفشل الدولة في تثقيفه وتوعيته. ومن يتحدث عن غياب ثقافة الديموقراطية في المجتمع، وعدم جهوزيته يدين الدولة وأجهزتها التي أنتجت ذلك، ولم تقم بأي جهد لتعليم الناس.
الوعي الانتخابي هو الوعي بأهمية الممارسة الديموقراطية وتأثيرها في حياة المواطن. يتجسد ذلك بالممارسة الانتخابية، لا بالمحاضرات والدورات التدريبية. وليس بحاجة إلى «التدرج» الذي هو أكذوبة لا معنى لها، فالممارسة الانتخابية إما أن تكون كاملة أو لا تكون. والمسألة باختصار أنّ الممارسة الانتخابية تقتضي فتح الباب لتعددية سياسية وفكرية، وأنّ المواطن يختار من يراه مناسباً لتمثيله في كل مرحلة زمنية.
يروّج البعض للوعي الانتخابي باعتباره نضجاً شعبياً، يحتاج إلى سنوات طويلة من التدرج وتثقيف الناس، وفي ذلك استخفاف غير مقبول بالمجتمع وأفراده الذين تطور وعيهم عبر تواصلهم مع ما يحدث حولهم في العالم. لكن الأهم أنّه طرح غير واقعي ولم يحصل في أي بلد ديموقراطي في العالم، فلا تخوض الشعوب امتحانات يتم على أساسها قرار مكافأتها بالسماح لها بالممارسة الانتخابية لأنّها حق طبيعي لا يحتاج إلى استعدادات مماثلة.
إنّ من يتحدث عن أهمية الوعي الانتخابي لاختيار «نخبة مستنيرة» تقود البلد، وأنّ الأهم في الانتخاب هو الاختيار النوعي الصحيح، يناقض المبدأ الديموقراطي، ويؤكد بكلامه ضرورة إلغاء التجارب الديموقراطية في أميركا وفرنسا وغيرها. بعد 200 سنة من الممارسة الديموقراطية، اختير جورج بوش لفترتين رئاسيتين، وكذلك جاك شيراك في فرنسا الذي يحاكم اليوم بتهم فساد.
الديموقراطية ليست خيارات مثالية، لكنّها تمنح الناس فرصة لتصحيح أخطائهم، والواضح عبر التجربة أنّ الأخطاء الناتجة من الديموقراطية أقل ضرراً من خطيئة غيابها.

ممانعة ليبرالية

مضحكٌ أنّ شريحة واسعة من الليبراليين تتصدر اليوم المشهد المعادي للديموقراطية، بعد سنوات من ممانعة التيارات الدينية للديموقراطية. ويبدو أنّ الكثير من التيارات الدينية قد تصالحت مع فكرة الديموقراطية إلى درجة زادت فيها مخاوف الليبراليين من فوز خصومهم، عبر صناديق الاقتراع، فقرروا مناقضة الفكر الذي يدَّعون الانتماء إليه، ووصلوا إلى حدّ الترويج للاستبداد والعداء للثورات التي انطلقت في تونس ومصر.
مشكلة الليبراليين أنّهم راهنوا على الليبرالية الاجتماعية كبديل لليبرالية السياسية، لكنّهم خسروا الاثنتين معاً، فلا تحريض السلطة على خصومهم نفعهم بانتزاع حريات اجتماعية، ولا هم تمكنوا من إقناع الناس بها، وتشكيل تيار شعبي حقيقي معهم. ومع ذلك يستمرون في رفض الديموقراطية، ويفضلون بقاء الوضع الحالي منعاً لاستبداد ديني «كامل» يخشونه.
ليس بإمكان الليبرالية الاجتماعية أن تكون واقعاً من دون قرار سياسي، ولا يمكن التأسيس لليبرالية اجتماعية إلا من خلال الليبرالية السياسية التي تكفل التعددية وحرية التعبير. وبالتالي يصبح رفض الديموقراطية وما تمثله من ليبرالية سياسية نوعاً من الانتحار الفكري سببه الفشل في فهم الأولويات.
الانحياز للخيار الديموقراطي هو الضمان الحقيقي لليبراليين، ولجميع التيارات الفكرية، وفتح الباب أمام تعددية سياسية سيكفل لليبراليين وغيرهم فرصة العمل على إقناع الناخبين بفكرهم وتوجهاتهم.

تبديد المخاوف

الليبراليون خائفون، وكذلك كثير من الشيعة والأقليات، يخشون حكم خصومهم، وما يمكن أن يجره من مشاكل لهم. ويخشى بعض المتدينين من الديموقراطية خوفاً من تعارضها مع الدين، لذلك من الضروري التأكيد أنّها منظومة قيم تتجاوز فكرة الانتخاب إلى ضمان الحريات ورفض منطق الإقصاء والاستئثار. وهي في النهاية لا تتصادم مع الدين.
ليست الديموقراطية نظاماً مثالياً، لكنّها أفضل ما وصلت إليه التجربة البشرية، وقد باتت ضرورة عربية في هذه المرحلة لإنهاء كل أشكال الاستبداد. وهي توفر للجميع مساحة للحرية والحركة، والأولى أن تتغلب كل الأطياف على مخاوفها الوهمية لتدعم التحوّل الديموقراطي الذي فيه مصلحة الجميع.
الديموقراطية ليست غاية في ذاتها، إنما وسيلة لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع والسلطة، وبين بعضهم البعض، وبالتالي هي وسيلة لتطوير المؤسسات وآليات العمل في الدولة لتحقيق الغاية المتمثلة في التنمية والنهوض السياسي والاقتصادي والمعرفي، مع احترام حقوق الإنسان وحريته. وهي باتت ضرورة لكل العرب المتطلعين إلى الخروج من واقعهم المأزوم. لذلك، من الطبيعي، أن تتسع المطالبة بها مع زوال الأساطير حولها، وغياب البدائل لها وفهم الناس لطبيعتها والنتائج المرجوّة منها.

* كاتب سعودي، ينشر بالتزامن مع موقع
«www.almqaal.com»