تناقلت الصحف الفلسطينية أخيراً نبأً عن توجّه «دائرة الأوقاف الإسلامية» في القدس المحتلة الى القضاء الإسرائيلي، ضد أحد التجار المقدسيين، وهو مستأجر لمحل تجاري بملكية دائرة الأوقاف يقع في شارع السلطان سليمان في القدس، بادعاء عدم دفع الإيجار المستحق عليه للدائرة. وكانت دائرة الأوقاف، التابعة للحكومة الأردنية، قد تولّت رعاية شؤون الأوقاف الفلسطينية في القدس المحتلة تحديداً ـــــ دون غيرها من أوقاف المناطق الفلسطينية المحتلة في 1967 ـــــ عقب تولي السلطة الفلسطينية «مهمّاتها» في جزء من الأراضي المحتلة بـ«الضفة الغربية»، بعد اتفاقية أوسلو، إذ أُبقيت إدارة الأوقاف المقدسية بيد الحكومة الأردنية على اعتبار أنّه «أُجّل بتّ وضعية القدس لمحادثات الوضع النهائي»، كما جاء في الموقع الإلكتروني التابع لوزارة الأوقاف في الأردن. ولاقت تلك الخطوة، أي توجه دائرة الأوقاف إلى المحاكم الإسرائيلية لمقاضاة مواطنين فلسطينيين، استهجاناً كبيراً بين المقدسيين، لكونها تأتي لتزيد إحكام قبضة الاحتلال على خناق تجار القدس، ضمن سياسة تهجير سكان المدينة المحتلة عن بيوتهم ومصادر رزقهم. وفي ظل تلك السياسة الممنهجة للاحتلال، تعلو أسئلة كثيرة عن دوافع وإسقاطات احتكام دائرة رسمية عربية مهمة، وذات طابع خاص، مثل «دائرة الأوقاف الإسلامية» الى جهاز قضائي، يمثّل بتركيبته وجوهره، محركاً مركزياً في جهاز الاحتلال الإسرائيلي، ضد فرد فلسطيني يقبع تحت وطأة ذلك الاحتلال؟
لا بد أولاً من ذكر العلاقة الوثيقة التي تربط الأردن تحديداً بالقدس المحتلة، إذ كان أهالي القدس بشقها المحتل في 1967 يتبعون حتى احتلالها، إدارياً وقضائياً، للأردن، ما يعني نظرياً أنّ الاحتلال سلب تلك الإدارة عنوة من الحكومة الأردنية، حين فرض القانون الإسرائيلي على القدس، غداة احتلالها. ولا يمكن اعتبار معاهدة «وادي عربة» البائسة ـــــ كمثيلتيها كامب دايفيد وأوسلو، اللتين تفضحان في هذه الأيام تحديداً ما جاءتا به من دمار على الشعبين المصري والفلسطيني ـــــ مرجعاً شرعياً لمثل تلك الخطوة، فنحن لسنا بصدد دولة حيادية ترفع دعوى مدنية ضد مواطن دولة أخرى!
إنّ قضية توجه الفلسطينيين في شق فلسطين المحتل في 1967 الى القضاء الإسرائيلي، لا تزال موضع نقاش أخلاقي وسياسي، لما في ذلك من إضفاء للشرعية على الاحتلال وجهازه القضائي لمجرد التوجه اليه. علماً بأنّه لا تشابه بين توجه دائرة الأوقاف إلى القضاء الإسرائيلي، واضطرار أفراد فلسطينيين إلى سلوك الطريق نفسه، ضد حكومة الاحتلال ذاتها، إذ كثيراً ما تكون تلك خطوة اضطرارية أمام الفلسطينيين، لاستنفاد الإجراءات قبيل التوجه الى المحافل الدولية في دعاوى قضائية ضد الاحتلال، فيما دائرة الأوقاف الأردنية ترفع دعواها ضد فلسطيني يقبع تحت وطأة الاحتلال وقضائه! ومن الضروري الإشارة هنا إلى أنّ هناك جهات إسلامية في القدس المحتلة كانت قد طرحت منذ مدة اقتراحاً لإقامة هيئة وطنية فلسطينية لبت الخلافات الدائرة بين سكان القدس، في محاولة منها لتجنيب أهل المدينة من الفلسطينيين التوجّه الى القضاء الإسرائيلي، والانجرار الى ادعاءات تمس المصلحة السياسية والوطنية، وتفرق بين المقدسيين، وخصوصاً في ظل استهداف الاحتلال الجائر للمدينة وأهلها، الذي بلغ ذروته في العقد الأخير.
علاوة على كل ما قيل، من المعروف أنّ لدوائر الأوقاف الدينية رمزية وهيبة خاصتين بين المسلمين، بحكم وصايتها على أملاك جرى إيقافها لمصلحة الأمة الإسلامية عامة، بما في ذلك وصايتها الطبيعية على الأماكن المقدسة ودور العبادة والمقابر وغيرها، وبناءً عليه، لا يمكن تلك الدوائر أن تتصرف كأيّ جهة أخرى، وحتماً ليس كأي فرد يرفع قضية ما ضد فرد آخر. زد على ذلك كلّه، أنّ القضاء الإسرائيلي محكوم بـ«قانون أملاك الغائبين»، الذي سنه المشّرع الإسرائيلي في 1950، لسلب حقوق وممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، فعدّتهم إسرائيل «غائبين»، وبالتالي صادرت حقوقهم في ممتلكاتهم. وقد اعتُمدت سياسة النهب ذاتها بحق الأوقاف الإسلامية، إذ نزع ذلك «القانون» عن الأوقاف الفلسطينية ميزتها الأهم وفقاً للشرع الإسلامي، وهي حظر بيع تلك الأملاك بتاتاً. وهكذا باعت إسرائيل المقابر والمساجد والممتلكات الوقفية في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة في 1948، بما في ذلك في الشق المقدسي الذي احتُلّ في 1948، بما يتوافق والمصالح السياسية والاقتصادية الحصرية للاحتلال.
إذاً، كيف تتوجه دائرة الأوقاف الإسلامية الى قضاء ينفي أساساً شرعية مؤسسة الوقف وفقاً للشرع الإسلامي، ويعدّها باطلة وفقاً لـ«شرعه»؟
الحالة السياسية الشائكة في القدس والمتمثلة ليس فقط في سطوة الاحتلال واستبداده على الأماكن المقدسة في القدس، بل أيضاً على أهلها الفلسطينيين، عبر انتهاج سياسيات تهدف إلى حسم وضعية القدس السياسية؛ تستحضر أسئلة ذات أهمية حاسمة بدورها عن المسؤولية السياسية الخاصة الملقاة على عاتق الأردن، بحكم رعايتها الحصرية للأوقاف المقدسية تحديداً دون غيرها في فلسطين. هل بالإمكان تجزئة تلك الرعاية، وحماية المكان دون حماية أهله؟ هل يمكن فصل المصلحة الدينية عن المصلحة السياسية والمجتمعية في القدس المحتلة؟ أليس الأحرى بالدائرة الوحيدة التابعة لدولة عربية في فلسطين ولها سلطة ما، في القدس، أن تؤدي دوراً سياسياً في حماية ما يمكن حمايته، بدل التطبيع مع الاحتلال في عقر البيت الفلسطيني المحتل؟

* حقوقية وكاتبة من فلسطين