من قال إنّ شهر رمضان للصائمين؟ هو للصائمين وللشرهين وللباحثين (والباحثات) عن التسالي التلفزيونيّة. وشهر رمضان هو أيضاً للفرحين، أو للباحثين عنه بين الأطفال المصابين بالملل. ما عادت الليالي الرمضانيّة تملأها سهرات الحكواتيّة وطرقات الطبّالين. كان ذلك في الماضي. تغيّر رمضان، وخصوصاً بعد انفجار الفضائيّات في عالمنا العربي. تغيّرت الثقافة العربيّة منذ أن اكتشفت سلالات النفط جدوى الفضائيّات. لا تكتفي الحكومات العربيّة بغزو البيوت والساحات العامّة، هي تريد أن تدخل إلى مخادعنا وتريد أن تسيطر على عقولنا. صوّرت رسوم المُبدع علي فرزات سطوة الاستخبارات العربيّة على الحياة العربيّة ــ الخاصّة والعامّة. وفي كل رمضان، تدور الأحاديث بين العرب، في الأوطان وفي المهاجر، عن الجديد في المسلسلات، وعن أبرز الأبطال والطلّات (يبدو أنّ الجمهور المصري غفر لغادة عبد الرازق نصرتها المبتذلة لحسني مبارك). وباتت دراسة الثقافة التلفزيونيّة واجبة، وخصوصاً أنّ الشاشة تحتلّ مساحة واسعة في الحياة اليوميّة. كان الفيلسوف الألماني (المهاجر إلى أميركا)، ثيودور أدورنو، يدرس قسم الأبراج في الصحف، كما أنّه درس القيم التي تحويها المسلسلات اليوميّة الأميركيّة (تُسمّى هنا «أوبرا الصابون»، لأنّ المعلنين كانوا يكثرون من إعلانات الصابون لظنّهم أنّ المشاهدة تقتصر على النساء في المنازل). وتمنع وفرة المسلسلات القدرة على المتابعة الوافية الكافية، ويصبح الانتقاء الحريص واجباً وطنيّاً أو قوميّاً. كيف لا تبدأ بحضرة فراس إبراهيم «في حضرة الغياب». أدّى إبراهيم خدمة لمستخدمي ومستخدمات الإنترنت، لكثرة ما تبادلوا من نكات عن مسلسله، وعن أدائه. تتعجّب أن يكون هناك مُنتج ما في الكرة الأرضيّة يقبل أن يموّل مسلسلاً مماثلاً، إلى أن تدرك أنّ فراس إبراهيم هو مُنتج نفسه. المسلسل كان سيّئاً إلى درجة تدفعك الى المتابعة المازوشيّة. تُذهل كيف أنّ مقص المخرج والتوليف الفنّي لم يترك كلّ المشاهد على الأرض. ماذا رأى إبراهيم في نفسه، عندما اختار نفسه كي ينتج لها مسلسلاً من بطولته هو؟ كان المسلسل ليكون أفضل لو أُدرج في قسم الكوميديا (غير المقصودة): باتت المشاهد وأداء الأدوار كمن يقوم بالسخرية من قصة ساخرة عن حياة محمود درويش. كان المسلسل كاريكاتوراً أو مسرحيّة مهزلة عن مسرحيّة عن محمود درويش. ولماذا ارتأى المخرج أن تحتلّ ريتا الإسرائيليّة (وقد أسند أداء دورها إلى سلاف فواخرجي ـــــ أشهر ممثّلة في المسلسل) حيّزاً كبيراً، مع أنّ الشاعر تركها وراءه عندما رحل عن أرض فلسطين المحتلّة. وتصوير ريتا كان مزعجاً، لأنّه كان هناك إصرار على جعل الإسرائيلي (عبر الإسرائيليّة ريتا) مقبولاً منا. هل خدمت ريتا في جيش العدوّ؟ هل صحيح أنّ ريتا كانت رافضة للصهيونيّة؟ وهل الخيار بين ريتا والبندقيّة عند الشعب العربي هو خيار صعب؟ من يختار ريتا على بندقيّة تحرير فلسطين؟ (فؤاد السنيورة لا يختار لا ريتا ولا البندقيّة، إذ يفضّل عليهما الأمير مقرن).
والمسلسل اعتمد على بعض الوقائع والشخصيّات من حياة درويش، لكنّه (عكس مسلسل «الشحرورة») أساء انتقاء معظم الممثّلين، ربما، للأدوار. وتصوير الشخصيّات السياسيّة كان كاريكاتوريّاً في مجمله. كان ياسر عرفات في المسلسل، لا يمتّ بصلة إلى عرفات الحقيقي، الذي يرغي ويزبد ويشتم ويصرخ ويهين ويهدّد ويكذب ويبالغ ويمثّل. عرفات في المسلسل كان رصيناً: أي إنّه لم يكن ياسر عرفات، لكن ماذا نتوقّع من مسلسل لم يُصب في تصوير شخصيّة دوريش؟ هدد فراس إبراهيم بمقاضاة كل من يتعرّض له ولمسلسله بالنقد (كما أنّه عزا نقد مسلسله إلى وقوفه إلى جانب النظام السوري، لكن إبراهيم لم يهدّد ناقديه بتسليط شبّيحة النظام عليهم. لا، لم يفعل ذلك). والمسلسل، عكس مسلسل «الشحرورة»، يعاني ضحالة وبؤساً وغباوة في الإنتاج. حتى أزياء السبعينات لم ينجح المسلسل في نقلها، فشوّهها بصورة فظيعة. وكانت شخصيّة درويش غير معقّدة البتّة: مجموعة من التنهّدات و«الصفنات» والتأمّلات تفي بالغرض. أي إنّ إبراهيم اكتفى بنقل الصورة الشعبيّة المبتذلة عن شخصيّة الشاعر، أي شاعر. كاد أن يصوّره وهو يكتب على ضوء الشمعة. ثم لم نفهم لماذا أصرّ إبراهيم على قراءة أشعار درويش بصوته، وعلى إلقائها أمام مشاهدين ومشاهدات يذكرون بوضوع إلقاء وصوت محمود درويش نفسه؟ يشبه ذلك من يقلّد أم كلثوم أمام معاصريها.
لكن في منطقة باتت ترزح تحت الهوس اللبناني بالأرقام القياسيّة، يمكن التنويه بقدرة المسلسل على تحطيم أرقام قياسيّة في التسبّب بالملل. ما معنى تلك المشاهد الطويلة التي تفتقر إلى أحداث دراميّة؟ ومن قال للمخرج إنّ مشاهد اللاحدث تكفي لإبقاء المشاهد والمشاهدة متسمّرين أمام الشاشة؟ والإنتاج كان رخيصاً إلى درجة أنّه ذكّر بإنتاج المسلسلات في التلفزيون السوري أو اللبناني، في ستينات القرن الماضي. كل تلك العواصم في حياة درويش، وتشعر بأنّ التصوير جرى في حارة صغيرة من قرية صغيرة، مجسّمة في استديو تلفزيوني مهمل. لا يدعو ذلك إلى إنتاج فخم أو باهظ من دون سبب، لكن شكل الصورة كان ضعيفاً جداً. هناك من تابع المسلسل للفكاهة، وللسخرية من طلّة إبراهيم، أو من تصوير الشخصيّات المختلفة فيه.
أما مسلسل «الشحرورة»، فقد حاز نسبة مشاهدة عالية، كما قرأنا، وذلك لتسارع الأحداث الدراميّة في قصّة شغلت حياة فنّانة عاشت بصخب. صباح فنانّة غير عاديّة: كانت أكثر صراحة في حياتها وأحاديثها من مُنافساتها. لم أقدّرها إلا مُتاخّراً. أحببت الكثير من أغانيها، لكنّني، كمعجب مُتعصّب لفيروز، كنت أظنّ أنّ الولاء لفيروز يجب أن يتناقض مع الإعجاب بصباح. كانت صباح، تنجح، في حفلاتها، في إضفاء جو من المرح على الصالة. أذكر عندما شاهدتها مرّة وأنا فتى، على أحد مسارح بيروت، كيف أنّها توجّهت إلي بالغناء «إضحك يا قمر»، لأنّني كنت مُتجهّماً جدّاً، في تلك الليلة، لسبب شخصي. قدّرت أنّها لا تظهر على المسرح فقط من أجل الغناء. كان الفن، «عن جد»، رسالة بالنسبة إليها (هل يُعزى ذلك القول للبابا يوحنّا بولس الثاني أيضاً؟). وصباح تحب العيش في الأضواء التي لم تفارقها. لو أنّها تعيش في أميركا، لكانت قبلت، من دون جدال، تصوير حياتها اليوميّة من ضمن «برامج الواقع»، كما أنّ صباح لبنانيّة غير تقليديّة: هي مُلتبسة سياسيّاً، ولها صداقات متنوّعة. والأبرز أنّها قد تكون اللبنانيّة الوحيدة (أو الوحيد) التي أثبتت في حياتها نبذها للطائفيّة (وليس فقط في أغنية «مرحبتيْن، مرحبتيْن»، حيث تسلسل أسماء ذكور من لبنان مع تمثيل طائفي واسع). لم تقبل صباح الموانع الطائفيّة في حياتها، وكان ذلك في سن مبكرة، وفي زمن كانت فيه الفوارق الطائفيّة في الزواج تعد من المسلّمات، كما أنّ صباح، التي غنّت للوطنيّة اللبنانيّة، مثلها مثل غيرها، كانت تعدّ نفسها مصريّة، وأصرّت على الاحتفاظ والافتخار بجنسيّتها المصريّة. لم يرد المسلسل أن يتحدّث عن أفق صباح العربي، فالكاتب على الأرجح ساداتي ورجعي، وركّز كثيراً في السياسة على ظلم الضباط الأحرار لصباح، من دون أن يتعرّض لظلم السادات أو مبارك. كان الكاتب مثل أبواق أمراء آل سعود، الذين يشعرون بأنّ عليهم الانتقام من عبد الناصر لكفاءته في إحراج وفضح سلالات النفط. وكان هناك تركيز على صفح السادات عن صباح، كأنّ ذلك كان إيذاناً بحقبة من الحريّة والديموقراطيّة. وفي الحلقة التي تناولت غناء صباح مع المغني الصهيوني إنريكو ماسياس، أراد الكاتب أن يسخر من حركات مقاومة التطبيع ومقاطعة الصهيونيّة. أراد منّا أن نظنّ أنّ مشاركتها في حلف مع صهيوني متعصّب، يشارك في حفلات تكريم لجيش العدوّ، ما كان يجب أن تؤدّي إلى مقاطعتها القصيرة من قبل البعض (ويستشهد المسلسل بآراء وسيم طبّارة في ذلك الصدد، مع أنّ الأخير كان يمينيّاً متعصّباً لليمين، وله أغنية عنصريّة ضد شعب فلسطين).
نستطيع التعليق أوّلاً على ظروف بيع صباح لحقوق نشر قصّتها لتلفزيون الحريري. والقصّة، كما رُويت، تدخّل فيها رفيق الحريري نفسه. هو أقحم نفسه عندما كانت صباح تمرّ في فترة ضيق مالي، ومرّت على قصره بهدف المعايدة. قد تكون صباح وافقت على «نشر غسيلها»، كثمن لعرض من تلفزيون الحريري. لعلّها لم تكن في وارد نشر قصّتها، لولا الحاجة الماديّة. لم تكن صباح في وارد نشر قصّتها، قبل لقائها مع رفيق الحريري، وعرضه لها بشراء حقوق قصّتها، وإن كانت قد تفاوضت مع صباح صباح أيضاً، بسبب الحاجة الماديّة. هل كانت صباح، وهي في التسعينات من عمرها (أو أقل بقليل أو أكثر بقليل، هنا يختلف الراسخون والراسخات في علم «الشحرورة»)، في حالة تسمح لها بإعطاء رأي يتعلّق بصورتها في أذهان الناس، على امتداد عقود بعد وفاتها؟ هل أعطت عائلة صباح رأياً في الأمر، أم أنّ شبكة إعلام الحريري كانت مستعجلة للأسباب التجاريّة المعروفة؟
لم يكن المسلسل سرداً لحياة صباح، بقدر ما كان سرداً لزيجاتها، ولم يكن ذلك عيباً، لأنّه أضاف التشويق والتسلسل الدرامي والإبداع الفني (ومهارة الإنتاج في اختيار الممثّلين، ربّما باستثناء كارول سماحة لأنّها لم تقدر على أن تنقل سمة الابتهاج والمرح في شخصيّة صباح، ولم تنقل مهارة صباح في الانتقال الرشيق بين اللهجة اللبنانيّة واللهجة المصريّة. كانت كارول سماحة تبذل جهداً واضحاً، فيما كان الممثّلون والممثّلات يبرعون من دون جهد واضح، لكن أداء شخصيّة صباح ليس سهلاً. لشخصيّتها أبعاد عدّة).
لكن مسلسل «الشحرورة» ترك تساؤلات أكثر مما أجاب، كما أنّه كان عنصريّاً في الانحياز العنصري الذكوري، لأنّه رأى أنّه لا مكانة أو أهميّة لصباح من دون زيجاتها. لم يضف المسلسل أي شيء، ولم يتطرّق حتى إلى موضوع إنجازات صباح في الأغنية، وفي المهرجانات الفنيّة، ولا إلى صداقاتها النسائيّة المتعدّدة، كما أنّ صباح أكثر من مطربة: هي أدخلت نوعاً مبتكراً من العروض الفنيّة التي تمزج الموسيقى مع الدبكة مع الكلمة ومع اللباس ومع التناسق المسرحي. كل ذلك لم يكن له أهميّة، لأنّ المسلسل يدرك أنّ زيجات صباح أهم من أي موضوع آخر في حياتها، لكن المسلسل أصاب، عندما تحدّث عن استغلال والدها (كم برع رفيق علي أحمد في تصوير شخصيّة جورج فغالي) وعن استغلال عدد من أزواجها لها. لكن هناك تناقض في موضوع وَلَدَيْ صباح: كان المسلسل حازماً في إظهاره منع المطربة صباح من رؤية ابنها صباح عبر السنين (صباح يمارس الطب النفسي في سان دييغو، وهو داعم لجورج بوش كما تظهر نفقات الدعم الانتخابيّة في الولاية)، لكن صباح لا تتوقّف عن إبداء الندم عن انشغالها بالفن عبر السنين، وعن إهمال لَحِق بولديها، من جرّاء ذلك، أي إنّ مسؤوليّة البعد في العلاقة بين صباح وولديها لم تكن كلّها من صنع آل الشمّاس، بصرف النظر عن سوء معاملتهم لصباح، وفق روايتها.
لم يكن المسلسل سيرة عن صباح، بقدر ما كان سيرة ذاتيّة لصباح، كما روتها في سن الكهولة ولأسباب الحاجة الماديّة. وقد تصّرف كاتب المسلسل بالقصّة، واختلق لها خالة لا وجود لها، كما أنّه غيّر من قصّة مقتل والدتها، حتى لا يخدش المسلسل المشاعر الإخلاقيّة الرمضانيّة (مشهد والدة صباح في مخدع من لم يكن ـــــ في المسلسل ـــــ عشيقاً لها، لم يكن مُقنعاً البتّة). وقد عاشت صباح، وأنتجت لسنوات، من دون أن يكون لها أزواج، لكن المسلسل لم يكترث لتلك السنوات الطوال، لأنّه كان مهتماً بأزواجها، لأسباب دراميّة وعنصريّة ذكوريّة: أي إنّ المرأة لا تستقيم من دون وجود «رجل البيت» أمامها، لكن المسلسل كان من أفضل ما مرّ على الشاشة في الموسم، ربما بسبب الإتقان الكلّي الذي طبع العمل. هناك حرص على كل نواحي العمل الفنيّة، إضافةً إلى تكثيف الأحداث الدراميّة، وخلق بُعدها. نجح المسلسل في دفعنا إلى انتظار الحلقة التالية، بشوق.
المسلسل الثالث هو مسلسل «الغفران» السوري. لا تستطيع أن تكتب عنه من دون أن تتوقّف عند التطوّر المذهل الذي حدث في إنتاج المسلسلات السوريّة. لها طابع يختلف شكلاً ومضموناً عن المسلسلات اللبنانيّة والمصريّة. الإنتاج المصري لا يزال متأثّراً بالمسلسلات الأميركيّة التلفزيونيّة في الثمانينات، من حيث إبراز مظاهر الثراء، والتركيز على السيارات الفارهة، وعلى رغد العيش، وعلى تسريحات شعر نسائيّة تكاد تناطح الغيوم. هناك بساطة وطبيعيّة في الإلقاء وفي التمثيل وفي الإنتاج، في المسلسلات السوريّة، مما يجعلها قريبة من القلب. ويبدو الممثلّون والممثلات السوريّون، ماهرين ومُدربّين، إذ تراهم فعلاً يسكنون أدوارهم وأدوارهنّ.
لكن هناك ما هو غير مرض في «الغفران». المسلسل لم يتطوّر دراميّاً، ولم تتطوّر أحداثه إلّا في حلقاته الأخيرة. والغريب أنّ الحلقات العشرين الأولى كانت بطيئة في التطوّر الدرامي، لكن المشاهد (على الأرجح) لم يشعر بالملل. دفن الملل جودة التمثيل، وجمال وبساطة خلفيّة المشاهد، والكيمياء بين الممثّلين والممثّلات. والحوار كان يراوح بين البساطة في التعبير، والتكلّف المُتفذلِك. كان العاشقان ينتقلان في الحديث من الأمور الحياتيّة اليوميّة إلى تعريفات عن السعادة، وعن مغزى الحياة، كما أنّ الحوارات الفلسفيّة لها سمات عنصريّة ذكوريّة، لأنّ الحكمة لا تخرج في المسلسل إلا من أفواه الرجال. هم وحدهم ينطقون بالحكم الفلسفيّة والحوارات المتكّلفة، فيما تنظر النساء مشدوهات إلى الرجال، كي يرين فصص الحكم وهي تخرج منسابة من أفواهم، لكن المسلسل يبقى مسليّاً، ومشوّقاً حتى.
وقصّة المسلسل (أو القصة التي اعتمد المسلسل عليها) فيها الكثير من العظات الأخلاقيّة. قصّة الحب هي قصّة عاديّة، في سياق القصص في العالم العربي. وهي تقتفي آثار قصّة حب بدأت في الطفولة أو سن الحداثة. وقصص الحب تلك لا تحتاج إلى تقدير، لأنّ معايير الطفولة، ومعايير النضوج تختلف كثيراً. أبقى أمجد (بطل المسلسل) قصّة حبّه لسنوات، وعن بعد. لا تحتاج تلك القصص إلى تشجيع. صحيح أنّ عدم توافر الفرص للقاء بين الجنسيْن في العالم العربي يسمح بقصص حب عن بعيد (من الشرفات أو من نوافذ باصات المدرسة، الخ)، لكن تلك القصص قد لا تكون حبّاً. هي أحياناً هوس مرضي، وخصوصاً عندما يلاحق الحبيب من يظنّ أنّها محبوبته، ويتبعها بعد المدرسة وقبلها. هو الذي ينتظر تحت الشرفة، ويتابع أخبارها من دون علمها. ذلك النوع من الحب في عالمنا، يحتاج إلى نقد. هل هو حب عندما يكون أساسه «نظرة» من دون ابتسامة، أو معها؟ عندما يكون الحب «من أوّل نظرة»، يكون تعبيراً عن رغبة جنسيّة محضة، أو تعبيراً عن إعجاب بالشكل، لا المضمون. وإذا ما تطوّرت عواطف المحب الولهان، بناءً على نظرة، يبني للحبيبة صورة قد لا تكون مرتبطة بحقيقة شخصيّتها. وقد يكون ذلك الأمر ينطبق على أمجد وعزّة. وقد ينطبق أيضاً على عزّة ومحمود، فهما تحدّثا عن الزواج وعن المستقبل، بعد لقاء عابر، أو اثنيْن. ولم نفهم سرّ التفاعل السريع والجفاء الأسرع، من قبل عزّة.
ثم تحوّل اهتمام عزّة بمحمود إلى قصّة أخلاقيّة، كادت الدماء أن تُراق على جوانبها (وهي انتهت بـ«حل» الحجاب، إرضاءً للمراجع الدينيّة في شهر الورع والتُقى). وأمجد صفع عزّة، وكانت الصفعة عابرة: أي إنّ التعنيف ليس أمراً يجب التوقّف عنده (في فيلم «سيّد درويش»، يصفع كرم مطاوع الراحلة هند رستم، فتقول له مبتسمة: إضرَبني. دلوقت عرفت أنّك بتحبّني). والصفعة على وجه «الزانية» و«الخاطئة» جزء من الردّ «الأخلاقي» في الثقافة الشعبيّة في منطقتنا (ويظهر ذلك أيضاً في الأفلام الغربيّة: يصفع كلارك غيبل فيفيان لي في فيلم «ذهب مع الريح»، قبل أن يقبّلها. والصفعة قبل التقبيل والجنس لازمة مُتكرّرة في الأفلام الغربيّة، إلا أنّها تبقى أقلّ بشاعة من مشهد اغتصاب حسين فهمي لناهد يسري في فيلم «سيّدة الأقمار السوداء»، بعد أن تروي له بين الدموع عن اغتصابها في سن الطفولة. لكن فهمي يشرح لها مقاصده الشريفة على الشاطئ في اليوم التالي، فيقول إنّه اغتصبها فقط كي «يفك عقدتها»).
لكن الجذّاب في عالم المسلسلات السوريّة هو البساطة في التمثيل، والإقناع في الأداء. هم لا ينصرفون إلى الترّهات اللبنانيّة في الإفراط في الأناقة، أو في معايير جماليّة مبتذلة. يمثّلون ويمثّلن، ويجري اختيارهم على أساس مواهب لا تخفى على المُشاهد، مهما كان الدور صغيراً. أجاد «الغفران» في تصوير الطبقة الوسطى، مع أنّ المال كان متوافراً دوماً من أثرياء. يتحرق الأثرياء في المسلسل شوقاً، كي يوزّعوا أموالهم على المحتاجين والأصدقاء، ويهبون الشقق مجاناً. كذلك، حظي المال والثروة باحترام في التصوير، فالثري كان صنو فاعل الخير (هل لأنّ «سيرياتيل» هي راعية المسلسل، ورامي مخلوف ـــــ كما بات معروفاً للقاصي والداني ـــــ هو فاعل خير، لا أكثر ولا أقلّ).
كلّ مسلسلات رمضانيّة وأنتم وأنتنّ بخير، لكن قلبي يطرق جزعاً: ماذا لو عاد فراس إبراهيم إلينا؟ ماذا لو جسّد شخصيّات أخرى نحبّها أو نقدّرها؟ ماذا لو عاد بأدواته التنكريّة البدائيّة، لِظنّه أنّها تقربّه من شخصيّة بطل المسلسل؟ ماذا لو عكّر فراس إبراهيم علينا رمضاناتنا؟ نستطيع أن نستعين بفراس إبراهيم، للنيل من خصومنا وأعدائنا. نستطيع، مثلاً، أن نقنعه بأن يؤدي دور رفيق الحريري في مسلسل جديد. في رأيكم، هل نستطيع أن نضمن مال الحريري في التمويل؟ لمَ لا؟ في حضرة السُباب.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)