سيأتي يوم، لا بُدّ، أن يُطرح فيه هذا السؤال: ماذا كانت الصحافة السعودية تفعل خلال الربيع العربي؟ ومن بين مواقفها البهلوانية المتقلبة من مطالب الإصلاح السياسي في مصر واليمن وسوريا والبحرين؛ سيُسجل التاريخ أنّها كانت ثابتة وراسخة في وقوفها ضدّ انعكاسات الربيع العربي على السعوديين. كان من الطريف ملاحظة سلوك الصحافة السعودية خلال الربيع العربي في ظل أسطورة طالما قدمت نفسها من خلالها، وهي كون الصحافة السعودية مُتقدمة فكرياً على المجتمع السعودي، ومُنحازة إلى قيم الحداثة والتحرر، وتؤدي دورها في قيادة المجتمع ـــــ المتخلف لكن الواعد ـــــ نحوها، ذلك إضافة إلى دفاعها عن «استقلاليتها»،

كلما ثار السؤال عن تبعيّتها للموقف الحكومي، لكن الربيع العربي، كما أسقط جملة من الأساطير شبه السياسية، فإنّه أسقط معها جملة من الأساطير السياسية، أو المكمّلة للأسطورة السياسية، كأسطورة حداثة الصحافة السعودية تلك.
فبينما كانت الأحداث تتلاحق، والثورتان المصرية والتونسية تقدمان درساً عملياً مفتوحاً لما يمكن أن يكون عليه سلوك الشارع، والوعي العام يلتقط الرسائل وينتبه أكثر فأكثر إلى قيمة الإرادة الشعبية ومصادر شرعية السلطة؛ كانت الصحافة السعودية تخدم في البلاط بكل ما أُوتيت من قوّة، محوّلةً ذاتها في كلّ موقف إلى جبهة للدفاع عن القيم السياسية الأشد تخلفاً واستبدادية، منذ اللحظة الباهرة لسقوط بن علي، حتى اللحظة الأكثر إبهاراً لمحاكمة مبارك.
ولأنّه يصعب أن تقول صراحة إنّك تؤيد الدكتاتورية ضد الديموقراطية، وإرادة الفرد ضد إرادة المجموع، وإنّك ضد حقوق الإنسان وقيم المواطنة؛ لأنّه يصعب التصريح بذلك حتى عندما يكون المرء صحافياً حكومياً، كان من الضروري أن يبتكر صحافيو البلاط لأنفسهم في هذه المرحلة لغة خاصة أكثر مواربة. لغة تعطي تلك التوجهات المتخلفة صبغة أخلاقية وثقافية، وحتى حقوقية في الظاهر، لكنّها تبطن حركات فكرية بهلوانية، شديدة الالتواء، لتتمكن من تمرير الدعاية التي تريدها.
كانت الصحف السعودية، طوال الأشهر الماضية، تواصل نشر موادّ من ذاك النوع، تميّزها درجة عالية من التلفيق والركاكة، وما كانت لتجرؤ على نشرها لولا اطمئنانها إلى التغييب التام للصحافة الحرة، والأصوات الناقدة القادرة على كشف ذلك النوع من الخطابات. هذه بعض النماذج الضرورية لإنعاش الذاكرة: المادة التي نشرتها «الشرق الأوسط» في 11 آذار الماضي، على صفحة كاملة، معرِّفة إياها في عنوان فرعي بوصفها «قراءة في البيانات السياسية السعودية من خلال ثلاث شخصيات تمثل ثلاثة أطياف». تُوحي كلمة «قراءة» والاستشهادات بأركون وولد أباه في المتن، بمضامين نقدية فكرية، لا تتلاءم وحقيقة المادة التي كانت عبارة عن تقرير أمنيّ موجه ضد محمد سعيد طيب، وسلمان العودة، وتركي الحمد؛ لأنّهم شاركوا في توقيع البيانات الإصلاحية التي لا يجرؤ التقرير الأمني على وصفها بـ«الإصلاحية»، ويُسميها «البيانات السياسية»، عوضاً عن ذلك.
لعبة البهلوان التي يؤديها ذاك التقرير الأمني تتمثل في تصنُّعه مناقشة البيانات الإصلاحية، لينزلق بدلاً عن ذلك إلى ضربها من خلال ضرب موقّعِيها، متهرّباً من الخوض في مطالب البيانات، التي لم تقم صحيفة سعودية واحدة بنشر مضمونها فضلاً عن مناقشته، لأنّها تعجز عن تفنيدها أو رفضها صراحة. نموذج آخر: أمام التنشيط الإلكتروني المستمر لملف المعتقلين دون محاكمة، لجأ خطاب الصحافة الحكومية إلى الإشارة تكراراً إلى كون هؤلاء المعتقلين مجرمين متورطين في الإرهاب، كأنّ التوّرط في الإرهاب كافٍ لتعطيل حقوق المتهم. ثم وجد الخطاب ضالته في قصة رسالة «أم فهد السعيد» التي ردت عليها وزارة الداخلية بنفي وجود سجين بهذا الاسم، فانطلق ثلاثة من الصحافيين ليكتبوا، متزامنين، مقالات رقيعة تحتفي بالنفي، وتشمت بمن تفاعل مع الرسالة. والغرض طبعاً كان خلق إيحاء عام بكون قضية المعتقلين قائمة على الكذب، وشخوصها إما أسماء وهمية أو إرهابيون يدّعون البراءة، ويريدون الإفلات من العقاب. وهي دعاية يبدو أنّها تلقى قبولاً بدرجة ما، عند المتلقي الذي صدمته تفجيرات 2003، لكنّها دعاية مضللة، تعتمد على التعامي عن جوهر القضية وهو سهولة الاعتقال استناداً إلى الرأي والنشاط السلمي المُعلن، كما هي حال أشخاص معروفين بوجوههم وأسمائهم وظروف اعتقالهم وتسريحهم دون محاكمة أو توجيه تهمة.
أما أحداث الشغب الأخيرة في بريطانيا، وصدور أحكام قاسية على بعض المتورطين فيها، فقد انتهزها بعض الصحافيين، بصفاقة شديدة، ليختلق مُماثلة بين السياقات القانونية الصارمة التي تحدد مفهوم الشغب وأسلوب مواجهته في أعرق ديموقراطيات العالم؛ وأسلوب مواجهة دعاوى التحرر والإصلاح السياسي في السعودية والبلاد العربية! لقد وصف هؤلاء كلتا الحالتين بـ«التحريض» المجرّم قانوناً، كأنّهم يخاطبون مجموعة من القرويين المعزولين عن العالم الخارجي الذي ينفردون هم بمعرفته وإخبارنا عنه! بالطبع، سيتحاشى ذلك الخطاب الصحافيّ اتّخاذ بريطانيا مضرباً للمثل في تظاهرات مواطنيها الحاشدة، الرافضة قرار الحكومة البريطانية الدخول في الحرب على العراق في 2003، ولن يضرب المثل بحال امتناع سلطاتها عن اجتياح حقوق المواطنين بذرائع أمنية عقب تفجيرات لندن 2005، وبالتأكيد ليس في منظومة الحريات والحقوق التي كانت تكفل حتى لمنظري التطرف المهاجرين (أبو قتادة، أبو حمزة المصري) حق التنظير للتطرف! أما تغريم الصحافي البريطاني روبرت فيسك وصحيفة «الإندبندنت» لنشرها وثيقة مزيفة عن خطة وزارة الداخلية السعودية لقمع المتظاهرين، فكان مناسبة لكتابة المقالات الوطنية التي تروّج صورة للصحافة الغربية بوصفها مُتجنّية ممتلئة بالأكاذيب عن السعودية، بلغة مُنتفخة توحي بأنّ فيسك يحتاج إلى دورة تدريبية على أيدي الصحافيين السعوديين.
لكن تلك الجوقة الاحتفالية ذاتها، تعلم جيداً أنّ فيسك والصحافة الغربية عموماً، نشرت وتنشر سيلاً من المعلومات التي لم تواجه بأيّ نوع من التكذيب، بل حتى في جزء منها، سرعان ما تظهر المؤشرات المحلية الصريحة على دقتها. آخر تلك المعلومات مسوّدة نظام مكافحة الإرهاب الجديد، لكن الجوقة الاحتفالية تتحاشى النظر في هذا الاتجاه وتُشيح بعيداً. وعكست اللغة الصحافية عموماً ذلك المركّب، وكتب البعض في مقالاتهم ذات الرائحة البوليسية عن تهمة غامضة كـ«التحريض»، دون وضعها في سياق واضح أو تحديد تحريض مَن على ماذا. وكتب آخرون مقالات تصف المتحمسين للإصلاح السياسي بـ«تخوين الآخرين والمزايدة عليهم»، رغم أنّ صحافيي البلاط هم من حشا أعمدة الصحف بالقصص عن المؤامرات الصفوية، والمقالات التي لها نكهة إذاعة الصباح المدرسية عن «حُبّ الوطن»! وتعبيراً عن انتهاء شهر العسل الذي عاشته الصحافة مع الشبكات الاجتماعية (كان رصدها موضوعاً محبّباً للصحافة)، نحت بعض الصحافيين تعابير كـ «الفيسبوكيون الجدد» و«التويتريون الجدد» و«الحقوقيون الجدد»، للإيحاء بأنّ اهتمام رواد الشبكات بالإصلاح السياسي هو مجرد موجة طارئة دخيلة عليها. في المقابل، ساق اللاوعي أحد الصحافيين في مقالته التي لا تزيد على 500 كلمة إلى تكرار متلازمة «التشكيك ــ الطعن ــ الدولة» خمس مرات على الأقل، في معرض كلامه عن «الحقوقيين الجدد»، مفصحاً عن مُضمَر وَجِل لا يرى في مطالب الإصلاح السياسي إلا خطراً يهدد الدولة.
ما هو تعريف «الحقيقة» الذي نسمعه في قََسَم شهود المحكمة في الأفلام الأميركية؟ «أقسم أن أقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة». «كل الحقيقة»، لأنّ إخفاء جزء من الحقيقة «كذب»، والتركيز على جزء من الحقيقة دون آخر «كذب»، ونشر المقالات التي تقول إنّ المطالبين بالإصلاح السياسي متخبطون، والمعتقلين إرهابيون والصحف الأجنبية كاذبة ـــــ حتى عندما تحمل معلومات صحيحة ـــــ ومنع كل مقالة تقول العكس، هو شكل من أشكال الكذب المنظم، الموَظَّف في خدمة الحرب على الإصلاح السياسي، ومحاصرة الآثار المحلية للربيع العربي. ذلك هو الدور البسيط والصريح الذي سيسجل التاريخ للصحافة السعودية أنّها اختارت أداءه في هذه الحقبة. وهي «اختارت» أداءه لأنّ ثمة خيارات أخرى كانت متوافرة بين يديها، أقلّها الحفاظ على درجة من الاتزان الموقفي في خطابها الحكومي، وإبقاء الأصوات الأخرى حاضرة في الصحف، لكنّها عوضاً عن ذلك تخلصت منها بالتضييق والإيقاف لبعض الكُتّاب الذين شاركوا في بيانات الإصلاح السياسي، وأخذت مناخات الخطاب الصحافي نحو معادل محلّي للحقبة المكارثية.
إنّها لحظة سقوط مجموعة من الأساطير السياسية والاجتماعية والثقافية. لطالما قدّمت الصحافة نفسها بوصفها حاملة قيم الحداثة في مجتمع متخلف، لكن هذه اللحظة بالذات وضعت تحت الضوء دورها المفصلي كإحدى أدوات السلطة السياسية المسخّرة لتنفير المجتمع من قيم الحداثة... إذا كانت الحداثة تعني أولاً تفكيك تمركز السلطة والثروة والحقوق في أيدي القلّة.

* كاتبة سعودية، ينشر المقال بالتزامن مع موقع «المقال» السعودي
www.almqaal.com