فلسطين ليست للفلسطينيين فقط، بل لكلّ العرب، لكن إن انهمكوا فيها محررين، لا بائعين وتجار قضية. لا مشكلة لدي، أنا الذي أعرِّف نفسي بأنّي عربي ـــــ شامي من القدس، في أن يقف إلى جانبي، أو أمامي، أو حتى خلفي، رفيق نضال عربي ليعطيني الأمر بالانطلاق لمواجهة العدو وتحرير الوطن من الغزاة العنصريين الصهاينة. لكن عندما يتذكر البعض فلسطين، فقط من أجل تمرير أفكار استسلامية، وليفرض على الشعب الفلسطيني سقف مطالبه، فعليه تحمل النعوت التي ستلقى في وجهه مِن كل محب لها. يقول نص البيان المدرسي للمثقفين اللبنانيين والسوريين: «إنّنا نرى في سوريا الديموقراطية ولبنان الحريّة، السند الطبيعيّ لطموحات الشعب الفلسطينيّ في إقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس، ولقضايا الحقّ والعدالة في كلّ مكان من العالم».بيان متخم حتى الإشباع بمفردات الحرية والديموقراطية. علماً أنّ غالبية الموقعين عليه كُتّاب مداومون في صحف التكفيريين والطائفيين. فكيف يمكن الجمع بين مفردات البيان البراقة والكتابة في وسائط تضليل كتلك؟ وكيف يمكن هؤلاء الجمع بين الرطن الممل عن «الحرية» و«الديموقراطية» وبين معاداة المقاومة اللبنانية والترحيب بالغزو الأميركي للعراق والاحتلال الأطلسي الجديد لليبيا!
قرر أصحاب البيان أنّ طموحات الشعب الفلسطيني تتلخص في «إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس»، لكن هل لنا أن نسأل هؤلاء: من فوّضكم الحديث باسم الشعب الفلسطيني، ومن أسر إليكم بأنّ طموحاته مُسخت إلى المطالبة بـ«دولة»!
لا يا إخوان، شعب فلسطين المنتفض يدرك أنّه سيبقى مدافعاً عن مقدسات المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود، وأنّ بلاده عهدة بيديه إلى يوم الدين. إنّ المطالبة بدولة فلسطينية، يندرج ضمن برنامج قيادة «إمبراطورية الفاكهاني» و«مشيخة رام الله»، المهزومة والمستسلمة، لأنّ تلك الـ«دولة» تعني: الاعتراف بشرعية اغتصاب العدو الصهيوني العنصري فلسطين، الاعتراف بصحة رؤية الحركة الصهيونية لحل «المشكلة اليهودية» التي كانت قائمة في أوروبا، إدانة كلّ من ناضل لمنع العدو العنصري من اغتصاب بلادنا، ومحاسبته، صحة الرؤية الصهيونية الاستعمارية بخصوص مستقبل الشعب الفلسطيني، وسياساتها التي اتبعتها، يهودية دولة العدو والموافقة على تطهير عرقي جديد بحق شعب فلسطين، والتنازل عن حق العودة.
ولأنّ مَسْخ النضال الفلسطيني ـــــ العربي ليصبح بحجم دويلة، يخدم العدو، فإنّه هو بالفعل مطلب نتنياهو، وشارون من قبله، ومعهما أوباما ومن قبله كلينتون، وبوش الصغير ومن قبله بوش الأب، ومن قبلهم جميعاً ترومان، وتشرتشل، ومن قبله بالمرستون وكثر آخرين من رموز الاستعمار الغربي البغيض. كلّهم يريدون دولة «فلسطينية»، بقيادة محمود عباس، وبحجمه طبعاً.
وإذا كان أصحاب البيان، السوريون واللبنانيون، يطالبون الشعب الفلسطيني، والأمة العربية، بالتنازل عن فلسطين، فلماذا لا يطالبون حكوماتهم بالتخلي عن أراضيها المحتلة! أقول، لأنّهم أجبن من أن يفعلوا ذلك. فحائط فلسطين هذه الأيام، يبدو لهم، منخفضاً. «دويلة محمود عباس» ليست برنامج الشعب الفلسطيني، بل برنامج أصحاب البيان، المليء بالمفردات المصقولة.
في الحقيقة، ذلك البيان بصياغته المملة، أقرب إلى مقالة في صحيفة حائط مدرسية، أو، بيان صادر عن «اجتماع الرفاق في منظومة الدول الاشتراكية». ولا عجب هنا، فكثير من الموقعين هم من الشيوعيين المرتدين، مع كلّ الاحترام للمناضلين الشيوعيين، وغير الشيوعيين طبعاً، الذين قدموا قوافل الشهداء من أجل حرية أمتنا.
تكمن المشكلة في فئة من الشيوعيين الذين ارتدّوا وصار طموحهم الأعلى ليس هزم الإمبريالية العالمية، بل أن يصبحوا ناطقين باسمها. فبعدما كان لينين في نظر بعضهم «يمينياً مرتداً» انتقلوا إلى الضفة الأخرى وصاروا مستكتبين لدى من كانوا يتهمونهم بخدمة «الإمبريالية».
إبان موجة المد الوطني ـــــ القومي التقدمي، صعد بعض هؤلاء على قضية فلسطين وجثامين شهدائها، ولمّا ألمّت بقضايانا الوطنية ـــــ القومية الانتكاسة تلو الأخرى، بسبب التهاء «القيادة الأبدية» بالعروش القصبية واللهاث وراء دويلة، انفض هؤلاء وصاروا من أشد المتحمسين للرأسمال المتوحش المنفلت العقال، العربي وغير العربي، موظَّفِين في مؤسساته التضليلية والتكفيرية.
ما هو أخطر في ذلك البيان ادعاء الموقعين عليه أنّ: «من شأن تمتع اللبنانيين والسوريين بتقرير مصيرهم بحرية أن يكون ضربة قوية لسياسات التمدّد والغطرسة الإسرائيلية التي استمدت بعض الصمت العالميّ عنها من تعفّن العالم العربي، ومن غياب نموذج سياسي إيجابي حولها».
المتعفن، أيها السيدات والسادة، ليس العالم العربي، لأنّه حي ويفيض بالحراك والتمرد على الظلم. كسر العالم العربي حاجز الخوف، وأسقط أنظمة كنتم تحتمون بها، وسيسقط قريباً أنظمة التكفير والخضوع.
المتعفن هو الأنظمة التي تموّل وسائل التضليل التي تستكتب أقلامكم ولغاتكم لنشر أباطيلها، والسكوت عن استسلامهم وفضائحهم ومجونهم.
تلك الأنظمة لم تقف يوماً إلى جانب فلسطين أو إلى جانب أي قضية وطنية ـــــ قومية. هي أنظمة أقامها الغرب الاستعماري لتكون رأس حربة له، مهما كان اسمه وموقعه الجغرافي.
مرة أخرى، البيان، الإنشائي المدرسي المنمق، يُعلم القراء بأنّ أحد أسباب غطرسة «إسرائيل» (لا العدو) و«تمددها» (لا اغتصابها واحتلالها) غياب أنموذج سياسي إيجابي حولها، لكن الصحيح هو العكس، لأنّ كيان العدو، الصهيوني العنصري، يستمد كثيراً من قوته ومقدرته على البقاء من كون معظم الأنظمة العربية على شاكلته، ولا تختلف عنه سوى في الاسم. ويبدو أنّ أصحاب البيان يرون في كيان العدو الصهيوني أنموذجاً ومثالاً لما يجب أن يكون عليه العالم كلّه، لا الدول العربية فقط، ما يرجح كونهم من المعجبين به، من باب الانبهار بكل ما يفعله العنصري الأبيض.
ألا توحي تلك الصياغات المواربة والتضليلية بأنّ الفلسطيني (والعربي بالضرورة) سيكون في أقصى درجات سعادته تحت حكم صهيوني. كم أتمنى أن أقرأ أو أن أسمع، ولو مرة واحدة، أنّ أصحاب تلك الأفكار يتحدثون بلغة واضحة ويتوقفون عن حالة الإنكار التي يعيشونها صبحاً وعشية، ويبتعدون عن التقية، ويعترفون بأنّهم يعانون عقدة النقص تجاه الرجل الأبيض «المتفوق» في نظرهم. فما داموا على قناعة بتفوق الجنس الأبيض الأوروبي وتدني ما عداه، فليقولوا ذلك بصراحة، فيكسبوا أجر أنّهم كانوا صادقين مع أنفسهم، ولو مرة واحدة.
أما فلسطين، فليست لكم. ابتعدوا عنها، وهي في غنىً عنكم وعن بياناتكم وتصريحاتكم وتضليلكم. ففلسطين أحرقت أياديَ كل من ظن أنّه قادر على إطفاء نار ثورتها وحيوية شعبها ومحبيها في مختلف بقاع الأرض.
* كاتب فلسطيني