خلال الانتكاسة الطويلة الأمد لقضية التغيير الثوري، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، تعاظَمَ، بصورة مَرَضية، عددُ ثالمي عرض الثورة، عبر العالم، ومن ضمنه في بلداننا العربية. بات هؤلاء يشككون في مدى عقلانية من واظب على اعتبارها الحلّ الوحيد لإنقاذ البشرية من هلاك محتوم.وحين بدأت الثورات العربية تندلع، هنا وهناك، كانت مفاجأة كبرى لهم، كما لغيرهم، ولا سيما أنّها أتت من حيث لم يكونوا يتوقعون، أي من منطقة كان كثيرون يعدونها الأخيرة التي يمكن أن يتفجر فيها السخط الشعبي بهدف إحداث تغيير جذري في واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ولعل الأسوأ بين هؤلاء المفَاجئين، الذين راوح موقفهم للوهلة الأولى بين التردد وشبه الصمت، من جهة، والترحيب برؤوس الشفاه، من جهة أخرى، إنما هم ستالينيون سابقون، يجمعون الى رواسب تشوهاتهم الأصلية تلك تشوهات إضافية عائدة إلى فكر قومي مقيم. وقد تحركت تلك التشوهات بشدّة، مصدرةً الكثير من صرخات الذعر، حين امتدت الشرارة، القادمة من تونس والقاهرة، لتحرق «السهل» السوري. أما الذريعة الجاهزة لديهم، فهي أنّ هؤلاء «ممانعون»، ويقفون حجر عثرة في وجه اسرائيل والمخططات الإمبريالية. وبدلاً من رؤية حقيقة تلك الثورات في أي مكان تندلع فيه، بوصفها حركات شعبية صادرة من جماهير تتعرض للقهر والاستغلال والإذلال، يخترعون رواية أخرى، مناقضة لها بالكامل، هي تلك التي ترى في تلك الجماهير مجرد أدوات في يد الإمبريالية العالمية، وحتى اسرائيل.
إنّ الثورات العربية، على اختلافها هي صرخات ألم ويأس من الواقع القائم، بالتأكيد، لكنّها في الوقت ذاته، تعبير صادق عن تطلع تلك الشعوب إلى إعادة بناء مستقبلها، بما يتفق مع كرامتها الإنسانية، ومع توقها إلى وضع حد لحالة الركود العربي التي لا تنتهي، في عالم يتقدم بسرعة مذهلة، كما تريد وضع حدّ لما يلازم تلك الحالة من نهب لثرواتها الخيالية، وانتهاك بشع لسيادتها وحجز لقدرتها على الوحدة، والتقدم والاندفاع الى واجهة القرار العالمي.
إنّ ما يحصل الآن في المنطقة العربية، إنما هو سيرورة ثورية حقيقية، من المرجح أنّها ستطول. ومن الغباوة المطلقة الاعتقاد اليوم أنّ الثورات العربية ستبقى بمنأى عن التدخل الخارجي، ولا سيما حين نأخذ بالاعتبار إطماع شتى الحواضر الإمبريالية، وإنْ بصورة متفاوتة، بين هذه الحاضرة او تلك، وفقاً لعلاقاتها بمنطقة تزيد مساحتها على 10 ملايين كيلو متر مربع، وعدد سكانها عن الثلاثمئة مليون، فيما تنطوي أرضها على اكثر من نصف احتياطي الطاقة العالمي، وعلى ثروات اخرى لا حصر لها. ذلك عدا موقعها الاستراتيجي، ودون نسيان الحالة الخاصة جداً التي يمثلها وجود دولة اسرائيل العدواني المصطنع، وما يمثله ذلك الوجود من تناقض عميق مع مصالحها وتطلعاتها، ومن رفض له، بالتالي، سيزداد تجذراً، بعد اليوم.
لأجل ذلك، ما قد يترتب على ذلك التعقيد للثورات الذي جعل ثوار ليبيا يستنجدون بالأمم المتحدة، في لحظة مفصلية من ثورتهم، إنما هو حصول ثورات جديدة في الثورات الأصلية، لأجل التخلص من آثار ذاك التدخل، في ما يخص الحالة الليبية. علماً بأنّ أيّ تجذر لاحق في الثورتين التونسية والمصرية سوف يستتبع صراعات داخلية مع جيشي البلدين اللذين بقيا من دون اي تغيير في بنيتيهما، كما في ما يمثلانه، في وضعهما الراهن، من ضمان للنظام القديم. وهي صراعات قد تستجر تدخلات عسكرية خارجية، وحروباً إقليمية كبرى، ربما تتحول الى أبعد من ذلك، وفي اتجاه قد يتخذ طابعاً عالمياً.
في شتى الأحوال، إنّ التدخل الخارجي، سواء حصل أو بقي سيفاً مصلتاً مهدداً، لا يمكن أن يمثل سبباً لرفض تلك الثورات، بل يستدعي الانخراط فيها، وفي الوقت ذاته، السعي إلى تعبئة اوسع دائرة من القوى الشعبية، للمشاركة الفاعلة في التصدي للتدخلات، والعمل على إحباطها.
حققت الثورات، الى الآن، مكاسب عظيمة للشعوب المنخرطة فيها، وللشعوب العربية قاطبةً، ولا سيما عن طريق الحد القاطع الذي وضعته لمشكلة الرعب، حيال جبروت آلة القمع السلطوية، وما كان يؤدي اليه ذلك من شلل مُطْبق، ليس فقط لدى الجماهير الواسعة، بل ايضاً لدى النخب الثقافية والفكرية، وشتى القوى السياسية، غير الراضية عن الوضع القائم. لقد بات التمرد على الظلم والقمع والاستغلال ممكناً، وباتت مسألة الثورة مطروحة على جدول الأعمال، طالما ثمة تناقضات ضمن حركة الواقع تتطلب ذلك، ولا سيما في هذا الطور من الانهيارات الكبرى في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وعلى صعيد الهيمنة الإمبريالية.
أكثر من ذلك، إنّ الثورات العربية أعادت الاعتبار لمقولة المفكر الماركسي المجري، جورج لوكاش، حول راهنية الثورة، بعدما كانت قد أُحيلت على النسيان، وفقدت آنيتها، بفعل التراجع الخطير في موازين القوى لمصلحة الرأسمالية العالمية وقوى العالم القديم على امتداد العقود الماضية.
لكن يجب أن نعترف بأنّ الثورات الحالية، كلّها، وإن بصورة متفاوتة، تفتقد القيادة الجاهزة، والبرنامج الواضح، علماً بأنّ استمرار السيرورة الثورية لا بد من أن يتيح تبلور تلك القيادة، وهذا البرنامج، بمقدار ما يطرح تطوّر السيرورة مهمّات جديدة على الناس المنخرطين فيها، ويخلق حاجة ماسّةً إلى حل المشكلات والتناقضات التي تعترضها. وذلك ليس فقط بخصوص مسألة الحريات وقضايا الديموقراطية السياسية، بل ايضاً بخصوص قضايا الديموقراطية الاجتماعية، وبوجه أخص القضايا المتعلقة بالتحرر الوطني والقومي.
لقد بدأت الشرارة التي فجّرت الثورات العربية من تونس، انطلاقاً من قضية محض اجتماعية تتعلق بحق العمل، كما عبَّر عن ذلك محمد البو عزيزي. أكثر من ذلك، كان للاتحاد التونسي للشغل دور مركزي في تطوّر حركة الاحتجاج الشعبية، التي أدت الى رحيل الطاغية بن علي، ومن ثم إلى حلّ حزبه الحاكم، وملاحقة رموزه، كما أنّ ما حصل في مصر، بعدئذ، لم يكن يختلف، من حيث الجوهر، مع ذلك، ولا سيما حين نعلم أنّ الإضرابات العمالية، التي بدأت تتنامى قبل رحيل حسني مبارك، كان لها وزن حاسم في إجبار الطاغية المذكور على أن يحذو سريعاً حذو نظيره التونسي. وليس من ريب، إطلاقاً، في أنّ بين الأسباب الأشد حسماً التي دفعت الجماهير السورية للنزول الى شوارع بلدها، انما هو الواقع الاجتماعي ـــــ الاقتصادي المتفاقم هناك، في السنوات الأخيرة، التي شهدت اندفاع السلطة القائمة في التغيرات النيوليبرالية، مع ما رافقها من تنامي البؤس، والتزايد المخيف للفساد والتفاوت الاجتماعي. وبالطبع، فإنّ كلّ تلك الأسباب لم تكن لتنفصل عن واقع الأزمة الرأسمالية العالمية، ومشكلة الهيمنة الإمبريالية على بلدان الجنوب، بوجه أخص، ومن بينها بلداننا العربية.
رغم ذلك، لم تشهد الثورات العربية حتى الآن دفعاً كافياً الى الأمام للشعارات المتعلقة بالقضيتين الاجتماعية والوطنية، إلا بصورة محدودة للغاية (في مصر، بوجه أخص) وردّاً على تطوّرات ظرفية، علماً بأنّ هاتين القضيتين هما المحرك الجوهري، الذي يمكن أن يؤدي التركيز عليه إلى تطوير التعبئة الشعبية، لتشمل الغالبية العظمى من الناس، كما إلى إنضاج برنامج ثوري متكامل يتيح الارتقاء بوعي الغالبية من أجل تحويل الحراك الحالي إلى ثورة اجتماعية حقيقية. يمكن عندئذ أن يتحقق ما بقي الى الآن مجرد هتاف في التظاهرات الشعبية أي: الشعب يريد إسقاط النظام!
في الحالة السورية، يوجد شبه برنامج تعبوي، تضعه لجان التنسيق الشعبية، انطلاقاً من أسماء الجُمَع التي يُقال إنّه يجري التصويت عليها، أسبوعياً، ولا تعدو كونها تعبيرات عن حالات نفسية، معظم الأحيان، بعيداً عن أي بلورة حقيقية لبرنامج تعبوي، على أساس مصالح الناس الجوهرية، ومصالح البلد ككل، في شتى المجالات. فبدلاً من استنهاض الطبقة العاملة السورية، التي تتعرض لعملية نهب واستغلال فاقعة، وتتراجع أوضاعها المعيشية باستمرار، مع تعبئة اوسع الفلاحين المفقرين في ظل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي بات يعتمدها النظام، نرى كيف جرت تسمية واحدة من الجُمع بـ«جمعة العشائر». بدا ذلك كما لو كان يجري تمجيد إحدى النقائص الكبرى لنظام سبق أن رفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، فيما تستمر، في ظله، في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إحدى البنى الأكثر تخلفاً، في المجتمعات ما قبل الرأسمالية.
أما الصورة الغالبة على تلك التسميات التي تنطلق من مخاطبة الجانب السيكولوجي البحت، فهي تلك التي تظهر في أسماء مثل «بشائر النصر»، و«صمتكم يقتلنا»، و«التحدي»، و«الصمود»، و«الإصرار» ، و«الصبر والثبات»، و«أطفال الحرية»، و«أسرى الحرية»، وما الى ذلك، فيما يجب التركيز على تسميات يمكن أن تمثل عناوين اساسية لبرنامج اقتصادي ـــــ اجتماعي، ضد الفساد، ومع المساواة الاجتماعية، والعيش الكريم، والعدل الاجتماعي وما الى ذلك. كذلك، يجب التركيز، في الوقت ذاته أيضاً، على شعارات تتعلق بالتحرر الوطني، وإنهاء الاحتلال، والتضامن مع الشعب الفلسطيني، ومع الثورات العربية، وبوجه أخص على شعار تحرير الجولان المحتل.
فحتى الآن، تغيب كلّ تلك الشعارات عن أسماء الجُمع، ومن ضمنها الشعار الأخير، الذي يمثّل مطلباً جوهرياً يتناسب مع مصالح الشعب السوري، الممنوع من المقاومة، منذ هزيمة حزيران 1967، ورداً قاطعاً على تخرصات النظام القائم ومزاعمه حول الممانعة، والمقاومة، وما الى ذلك. كما يمثل أيضاً تكذيباً عملياً ليس فقط لحلفاء النظام وأتباعه، في المنطقة العربية، ومن ضمنها لبنان، الذين يزعمون أنّ الثورة الراهنة تتحرك بدفع من الرجعيات الخليجية، والإمبرياليات الغربية، واسرائيل.
على رغم أنّ تلك المزاعم الكاذبة لا تحجب، مع ذلك، واقع أنّ ثمة قوى واسعة، على المستويين الإقليمي والعالمي، تحاول بشتى الوسائل الالتفاف على تلك الثورات، فإنّ المهمة الأساسية لكل القوى الصادقة في عدائها للإمبريالية العالمية واسرائيل، والرجعيات العربية، هي التضامن مع الثورات، وتقديم أقصى الدعم إليها، لكي تستطيع مواجهة عملية الالتفاف تلك، وشتى أشكال التدخل الخارجي المشبوهة، وكل ما يمكن أن يساعد على إجهاض حركة فريدة، سوف يؤدي انتصارها إلى تغيير العالم بأسره، في الاتجاه الصاعد، والتقدمي، لحركة التاريخ.

* كاتب لبناني