شهدت السياسة الدولية إبان سقوط جدار برلين، منذ تسعينيات القرن الماضي مجموعة من التغيرات التي كان لها الأثر في شكل وطبيعة النظام الدولي بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص. كان ابرز هذه التغيرات التفرد الأميركي بالنظام الدولي، كما كان له أثر كبير في تضعضع النظام الإقليمي العربي، والذي بدأ يتحول نحو انفراط عقده بعد أحداث 11 ايلول واحتلال العراق وصولاً إلى ما يسمى «الربيع العربي» الذي شكل المسمار الأكبر في نعش هذا النظام لاسيما مع انتشار الإرهاب وتمدد تنظيم «داعش» الذي يشكل تهديداً جدياً للأمن العربي لا بل بدأ يهدد الدول العربية في تقسيم كياناتها.
هذه التغيرات والتهديدات تأتي في ظل نسيان التهديد الإسرائيلي الذي له الأثر البالغ في تقسيم النظم العربية إلى وحدات إقليمية اصغر، مع السعي الى تعميق الخلافات والصراعات وتفريغ المنطقة العربية من إمكانات التنمية من ناحية، ومحاولة كسر هيبة الآلة العسكرية للقوى الممانعة من ناحية ثانية.
لقد أدرك الغرب منذ زمن بعيد أن الموقع الجغرافي الذي يتمتع به العالم العربي، ووفرة إمكاناته الاقتصادية الهائلة يشكل خطراً على مصالحه في حال توحده، لذلك بذل جهوداً كبيرة لتحجيم العالم العربي واحتواء دوله، مع ابقاء عناصر التجزئة فيه والعمل على تفتيته، لذا يعد موضوع الأمن القومي العربي واحداً من خطر التحديات التي تواجهها دول منطقة الشرق الأوسط، في إطار المتغيرات التي طرأت لا سيما بعد ما يسمى «الربيع العربي».

أ ـ مفهوم الأمن القومي

يعتبر مفهوم الأمن من الأمور المتغيرة وفق ما يطرأ من تحديات أو متغيرات مع ثبات أساس حق البقاء. ويعرّف هنري كيسنجر الأمن بأنه «أي تصرف يسعى المجتمع عن طريقه لتحقيق حقه في البقاء»، أو هو القدرة على التخلص من تحدٍّ يهدد حقوق الجماعة، وذلك من خلال استخدام جميع الوسائل. هذا المسعى لتأمين الحماية الشاملة للفرد والجماعة يكون أساسياً للدفاع عن الموقع الجغرافي، المقومات الاقتصادية، والمقومات الاجتماعية، والمقومات السياسية الداخلية منها والخارجية التي تقوم على أساس السيادة.
ما تقدم يعني أن للأمن مستويات عدة منها ما يخص الأمن الإنساني أي الحق في الحياة وما يشملها، ومنها ما له أبعاد سياسية وعسكرية واقتصادية مسؤولة عن تأمين احتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له، والبعد الاجتماعي الذي يسعى لتوفير الأمن الاجتماعي لتنمية الشعور بالانتماء والولاء، وكذلك ما يتعلق بأمن البيئة المحيطة للعيش.

لسنا بحاجة اليوم إلى
إنشاء قوة عربية مشتركة على قياس بعض الدول


لذلك، يجب على الدولة السيدة أن تقوم بوضع استراتيجيات لتنمية قوة الدولة وتوفير القدرة على مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية على المستوى الأمني السياسي العسكري الاقتصادي، بالإضافة إلى أن ذلك يشمل حماية أمن المواطن ضد أية أخطار تهدد حياته أو ممتلكاته أو أسرته. فالأمن يتدرج من المواطن إلى الوطن فالأمن القومي وأخيراً الأمن الدولي.
ويعتبر الأمن القومي من الأمور المهمة التي تتصدر أولويات الأمم وان اختلفت في قوتها وحجم الأخطار التي تتعرض لها، حيث يقاس نجاح أية أمة بقدر ما توفره لشعبها من أمن. ولقد برز تعبير الأمن القومي على الصعيد السياسي واضحاً في العصر الحديث، وارتبط بالأحداث العسكرية على وجه الخصوص وبالتوازنات الاستراتيجية وصراعات القوى.

ب ـ الأمن القومي العربي

يمكن تعريف الأمن القومي العربي بأنه قدرة الدول العربية مجتمعةً (الأمة) على حماية كيانها ضد الأخطار الخارجية من اجل ضمان بقائها. هذا الأمن دون أدنى شك بحاجة إلى وجود كيانات متحدة ومتضامنة ومتفقة على خطة لحماية حدودها الجغرافية، بشكل مترافق مع قبول متبادل للتنمية الشاملة وتنمية الاقتصاد المتبادل. يكون ذلك بحاجة إلى قيادة قومية مؤمنة بحق شعوب الوطن العربي بوحدته أو باتحاده، أي امتلاك أسباب القوة القومية المؤهلة قيادة وكفاءة (حالة الوحد المصرية ـ السورية سابقاً). لكن مفهوم الأمن القومي العربي ما زال مفهوماً متحركاً من حيث الاتفاق على تعريفة وتحديده، وما زالت النظم السياسية العربية بعيدة عن صياغة محدّدة لمفهوم الأمن القومي، في ظل وجود مصالح متنافرة. ويعتبر السبب الأكبر في عدم التوصل إلى توافق عربي على مفهوم موحد للأمن القومي العربي، هو اهتزاز ركيزة العدو المشترك، على أساس أن «إسرائيل» تعد هي التهديد الرئيس لأمن المنطقة العربية. فقد حصل العدوان من طرف عربي ضد طرف عربي آخر، ووجدت بعض الدول العربية نفسها تقف في خندق واحد مع «إسرائيل» في مواجهة بعضها الآخر وما حصل في حرب تموز 2006 وكذلك في حروب غزة ومن ثم العدوان على سوريا والعدوان على اليمن خير دليل على ذلك.
لقد أعاد هذا الوضع صياغة الأولويات الأمنية لكل دول عربية كل واحدة على حدة، بخاصة في ظل تحول دول عربية إلى التطبيع او ما يشبه التطبيع مع «اسرائيل»، وحتى مع دخول «داعش» كتهديد جدي للأمن العربي، إلا أن هناك دولاً حتى لم تر بـ»داعش» تهديداً حقيقياً لأمنها، لا بل ذهبت إلى حد دعم الجماعات الإرهابية.

ج ـ تآكل الأمن العربي بعد تمدد «داعش»

لم يكن تمدد «داعش» ممكناً لولا وجود بيئات حاضنة لها، فمن غير المألوف أن تسقط مساحات سكانية واسعة وبسرعة قياسية وبلا قتال يذكر لولا أن هذه البيئات قابلة لدخوله هذه الجماعة التكفيرية. بدأت هذه البيئة تظهر بشكل جلي مع انطلاق «الربيع العربي». منذ عام 2013، هيمن «داعش» بشكل فاعل على واجهة الأحداث في المنطقة، لا بل تحول إلى المادة الإعلامية الأولى التي نتجت بعد «الربيع العربي» وإن كانت ولادته بدأت شيئاً فشيئاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق، لكن المتغيرات التي حصلت جعلت من هذا التنظيم التهديد الجدي إلى جانب الصهاينة على أمن الدول العربية.
لقد شكلت الحرب على سورية ـ الدولة الممانعة والمقاومة للصهاينة والمدافعة عن الأمن العربي ـ ودعم دول عربية معروفة للجماعات الإرهابية أحد أبرز المسببات لتنمية قوة هذا التنظيم كما «جبهة النصرة - فرع القاعدة في بلاد الشام»، هذان الفصيلان لم يوفرا فرصة أميركية ولا تركية ولا عربية للحصول على الدعم إلا واقتنصاها.
لقد زادت الأعمال الإرهابية التي عرفتها المنطقة العربية في الآونة الأخيرة، بطريقة وحشية لم يشهد التاريخ الحديث مثلها إلا بما قام به العدو الإسرائيلي، في ظل غياب للأمن العربي المشترك عن هذه التحديات، بل إن تنافر بعض الدول العربية قد زاد من موجة التطرف، رافقه ذلك العجز الذي أظهرته جامعة الدول العربية التي نخرت أساساتها الخلافات. كل ذلك حصل في ظل موجة تطرف و»تكفير» غير مسبوقة، وإن لم تكن جديدة. وقد استغل تنظيم «داعش» التحريض العربي من دول ضد أخرى في ظل غياب التشارك الأمني من أجل بل نشر الفوضى وتفتيت الدول وشرذمتها، على أسس تكفيرية تعتمد القتل كوسيلة لتمدد «الخلافة» وبقائها، فاستراتيجية هذا التنظيم تقوم على نشر الفوضى من أجل تمكين «الدولة» ومن ثم السيطر بعد بسط الأمن على حد ما يراه وما يفيده.
لذلك يعتبر انتشار «داعش»، وممارسته لكل أنواع الجرائم المادية (القتل وما يشمله) والمعنوية (جرائم نشر الأفكار التكفيرية)، مع ما يرافق ذلك من وجود بيئة لتقبل هذه الأفكار، ـ وبطبيعة الحال الخطر الإسرائيلي واحتلال فلسطين ـ أكبر الأخطار التي تهدد الأمن العربي حالياً. أما ما يزيد الوضع خطورةً، أنه حتى الآن لم يجد المجتمع العربي ولا الدولي سبيلاً إلى حل هذه المعضلة، لأن هناك دولاً عربية من مصلحتها الآنية تمدد هذا التنظيم في دول عربية أخرى.
لذلك، فنحن بحاجة اليوم ليس إلى إنشاء قوة عربية مشتركة على قياس بعض الدول، بل إلى وقف دعم الإرهاب والتحريض والاحتضان، ثم التوافق على ضرورة صيانة العلاقات بين الدول العربية ثم على تعريف الأمن العربي، ومن يستهدفه ومن يضر به على أسس واضحة، يكون مواجهة الإرهاب وتحديد العدو ووقف التحريض والتدخل في شؤون الدول الأخرى أساساً لها.
* باحث لبناني