في مثل هذه الأيام، قبل 29 عاماً، كان لبنان يعيش لحظات مصيرية، صعبة وتاريخية. ففي الرابع عشر من أيلول 1982، كانت حرب «سلام الجليل» قد أوشكت على النهاية. هكذا بدت الأمور لكلّ المراقبين. ولذلك، كان ثمّة وفد إسرائيلي كبير برئاسة وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك إسحق شامير، يستعدّ للحضور إلى لبنان، في الخامس عشر من أيلول، للاتفاق مع الرئيس بشير الجميّل، المنتخب بدعم كامل من الغزاة، من أجل وضع ترتيب العلاقة الجديدة «الودية»، بين لبنان وإسرائيل، كما صرّح بشير الجميّل.
كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية قد أنجزت انسحابها من لبنان بموجب «اتفاق فيليب حبيب» الموفد الرئاسي الأميركي. وكانت الدول العربية، بمعظمها، تبارك الغزو ونتائجه. وكانت الولايات المتحدة شريكة في العدوان، وداعمة له كالعادة. وكان الاتحاد السوفياتي في وضع المرتبك والعاجز والفاقد القدرة على الفعل والتأثير. وكان اللبنانيون قد توقّعوا الغزو، رغبة أو تخوّفاً، بسبب انسداد الأفق الداخلي من جهة، وبسبب انتقال المبادرة إلى أيدي الأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم، من جهة ثانية.
في مثل ذلك المناخ من تفاعل الإجرام والمجازر والاعتداءات، مع التواطؤ والتغطية والعجز، طرأ حدث لم يكن بالحسبان: ففي الرابع عشر من أيلول 1982، جرى اغتيال الرئيس بشير الجميّل المنتخب في 23 آب 1982. واتخذت الأحداث مساراً أكثر وضوحاً وأكثر تصعيداً وأكثر تحوّلاً، فبعد ساعات قليلة من الاغتيال، باشرت إسرائيل التقدّم باتجاه القسم الغربي من بيروت، «خلافاً» لاتفاق فيليب حبيب. وهي نفّذت سريعاً، في 17 أيلول، مجزرة هائلة ضدّ سكان مخيّمي صبرا وشاتيلا في عملية انتقام مروّعة، ذهب ضحيتها أكثر من ألفي فلسطيني وعدد من اللبنانيين.
أما الحدث الذي بالكاد اهتمّت به وسائل الإعلام، وتجاهله المؤرّخون تماماً، فقد كان إطلاق نداء من قبل قيادة الحزب الشيوعي و«منظمة العمل الشيوعي»، وبتوقيع كلّ من جورج حاوي ومحسن إبراهيم، نداء يدعو إلى مقاومة الغزاة، والتوحّد في وجههم، لطردهم من لبنان وتحرير أرضه من احتلالهم.
قلنا إنّ الحرب كانت تبدو كأنّها قد وضعت أوزارها لمصلحة العدو وحماته. عزّز من ذلك خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وهي كانت تعدّ القوة العسكرية الأكبر والأكثر تأهيلاً وتسليحاً ونشاطاً في المعركة الدائرة، منذ أكثر من عقد ونصف في لبنان.
لقد نظر البعض ممّن وصله خبر إعلان المقاومة ضدّ العدو (وهو في الواقع إعلان استئناف القتال ضدّه)، إلى الموضوع على أنّه بيان سياسي من قبيل تسجيل موقف مبدئي، لرفع العتب غالباً. لكنّ الأمر كان في غاية الجديّة، والذين اجتمعوا آنذاك في مقرّ الحزب الشيوعي في محلّة الطريق الجديدة (وهم ممثلو أحزاب الشيوعي، ومنظمة العمل الشيوعي، والتنظيم الشعبي الناصري، وحزب العمل الاشتراكي العربي)، كانوا يدركون، تماماً، خطورة المرحلة وواجبهم في اتخاذ خطوة ذات طابع تاريخي بكلّ المقاييس. من جهة، لأنّ الأمور باتت أوضح، رغم الاحتلال الخطير الجاثم، ورغم التواطؤ والعجز. فالصراع في لبنان بات لبنانياً ـــــ إسرائيلياً صافياً. وقد يمثّل ذلك مدخلاً إلى معالجة مسألة الانقسام الخطير الذي شطر اللبنانيين حول موضوع الوجود والسلاح الفلسطيني في لبنان. إلى ذلك، كانت فرصة أيضاً، لكي يجري استحضار عناوين الأزمات وعناوين المعالجات المطلوبة، انطلاقاً من شعار التوحّد ضدّ العدوّ الصهيوني المحتل، بوصفه العدو الوحيد للبنان والمستهدف لوحدته ولدوره ولثرواته...
لم يكن الذين اجتمعوا ودعوا إلى المقاومة هم فقط من قرّر مواجهة الغزو ومقاومة الاحتلال. كان ثمّة قوى أخرى قد اتخذت القرار نفسه. إنما كان للذين أعلنوا فضل الريادة في التصدّي للإحباط وللخيبة، وخصوصاً أنّهم قد باشروا عمليات التصدّي فوراً، وعلى نحو فعّال وجريء وناضج في آن معاً.
كان القرار يتطلّب مبادرة وكذلك جرأة وسرعة، ويتطلّب قدرة على الفعل على الأرض، إذ إنّ العدوّ كان من النشوة والاستسهال، فلم يتردّد قادته وجنوده في التصرّف وكأنّ الساحة باتت آمنة تماماً، وكأنّهم هم قوّة تحرير لا قوّة احتلال.
ليس من المبالغة القول إنّ ذلك القرار قد حفّز قرارات أخرى إقليمية وخارجية للتصدّي للغزو الإسرائيلي للبنان، ولمقاومة الوقائع العسكرية والسياسية التي سعى إلى فرضها. على سبيل المثال، عاد الموقف السوفياتي إلى النشاط بعد شبه الشلل. وقد تسارعت الأحداث إثر ذلك بصورة دراماتيكية. ويكفي أن نذكّر بأنّ غزو لبنان الذي بدا عملية منتصرة، قد تحوّل سريعاً إلى كابوس دفع رئيس وزراء العدو آنذاك، مناحيم بيغن، إلى حالة اكتئاب لم تفارقه حتى قضت عليه. وحوّل أبطال تلك المغامرة إلى لجنة تحقيق خلصت، رغم التواطؤ، إلى الكثير من الملامة والإدانة والعقوبات، وخصوصاً لمن تسبب بالحرب، ولمن أخطأ في التقدير، ولمن لم يحسن الانسحاب في الوقت المناسب، ولمن «غطى» المجازر ضد الفلسطينيين.
يجب التذكير هنا، بأنّ حوالى 400 ألف إسرائيلي قد خرجوا ضدّ الحرب ولإدانة ما رافقها من إخفاقات ومن مجازر، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المشروع الصهيوني في فلسطين. إلى ذلك، دشّنت المواجهة، ضدّ العدو، مرحلة جديدة في المقاومة الشعبية، ما لبثت أن تحوّلت إلى جزء من معادلة الصراع، هي الأكثر ثباتاً ورسوخاً وتأثيراً، كما ظهر في صيف 2006، بعد تحرير غير مشروط إطلاقاً لمعظم الأراضي اللبنانية.
لكنّ فعل المقاومة ذاك الذي كان ولا يزال مصدر إنجازات غير مسبوقة ضدّ العدو، لم يترك الأثر الإيجابي الكامل على الوضع اللبناني، لجهة التحرّر من الانقسام، ولجهة التوحّد حيال المسائل الوطنية، بما في ذلك الموقف من العدو الصهيوني نفسه. ولقد بلغ من تدهور الأمور أنّ سلاح المقاومة الذي هو عامل قوّة للبنان، يجابه الآن بسلاح الفتنة المذهبية لتعطيله، أو سحبه، أو جعله جزءاً من الصراع الداخلي، لا أداة لتحرير ما بقي من أرض محتلة، ولمواجهة الأطماع الصهيونية المعروفة.
وفي مجرى ذلك، لا بدّ من استعادة تجربة مرحلة بكاملها. فليس من أطلق نداء المقاومة ضدّ العدو هو من واصل المعركة إلى النهاية، كذلك ليس هذا الأخير من استطاع أن يجعل شعار تحرير الأرض وتوحيدها سبيلاً إلى توحيد الشعب. إنّ دروساً عديدة يجب استخلاصها. فليست الأسباب الموضوعية هي وحدها التي قرّرت النتائج والتطوّرات والتحوّلات. ولا بدّ في المرحلة الراهنة من الوصول إلى استنتاجات متقاربة ومتشابهة، وحتى متطابقة، بشأن أنّ المقاومة هي فعل تحرير يبتدئ من الأرض ويصل إلى الإنسان، وأنّ المقاومة ضدّ العدو، بهذا المعنى، هي جزء من مواجهة أوسع مع شركائه وحماته والمتواطئين معه. وهي كذلك، لا بدّ أن تكون سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية. أي لا بدّ من أن يكون الشق العسكري جزءاً من مواجهة أشمل، لكي تأخذ عملية التحرير كامل أبعادها، ولكي لا يدخل العدوّ من الشبابيك بعدما طُرد من الأبواب.
لا تحتاج إسرائيل اليوم لأن تدخل بجيوشها مجدّداً إلى لبنان. ثمّة من يرفع الآن شعاراتها في الداخل اللبناني. فئة كبيرة من اللبنانيين تردّد المطالب الإسرائيلية نفسها. ماذا يعني ذلك. ماذا يجب أن يعني ذلك بالنسبة إلى كلّ قوى المواجهة، وبالأخص إلى الطرف الأكثر اضطلاعاً بالدور العسكري فيها؟
قد تبدو الأمور من مسؤولية طرف وحد، لكنّ ذلك في الشكل فقط. أما في الجوهر، فإضفاء الطابع الشامل في المواجهة، وانخراط كلّ قوى المقاومة فيها، أي كلّ القوى الثورية أو التي تدّعي ذلك، هو ما يساعد على تصويب بوصلتها نحو الهدف الشامل في أن تكون مشروع تحرير وتحرّر في آن معاً. نسأل في هذا الصدد، عن محاولات التصويب التي يجب أن تطاول برامج بعض «الثوريين» الرسميين وسياساتهم ومواقفهم. نسأل عن كيفية تعاملهم مع الاحتلال الذي استباح بلدهم ودماء شعبهم ووحدته وثرواته... نسأل عن مواقف القوى التي استسهلت التعاون مع رموز الاستبداد. نسأل عن مدّعي الطليعية والثورية بالكلام لا بالأفعال...
أسئلة كبيرة وكثيرة في زمن لم تعد فيه قضية الحرية تتجزّأ. الحرية والديموقراطية صنوان طالما كان الاحتلال حليفاً للاستبداد وللنهب وللفساد وللاستغلال. المسألة في مراجعة المواقف لمن كانت الثورة بالنسبة إليه لا تزال قضية وليس مجرّد سلطة. لا يلغي ذلك الأولويات، لكنّه أيضاً لا يلغي أنّ عناصر المواجهة أخطر وأشمل من أن تُختصر بعنصر واحد.
* كاتب وسياسي لبناني